مقابلة مع آدم هنية.
شرعت حكومة المملكة العربية السعودية، في ديسمبر 2019، في خصخصة جزئية لمنشأتها البترولية، أرامكو السعودية، فيما بات يمثل أكبر إدراج بالبورصة في العالم إلى يومنا هذا. كان ذلك أشجع قرار جرى اتخاذه في إطار خطة الأمير السعودي محمد بن سلمان الرامية إلى تعديل مجمل اقتصاد البلد من أجل خلق نعيم نيوليبرالي.
وتتجلى ميول شبيهة في بلدان الخليج المجاورة حيث تتبوأ إجراءات من قبيل خفض النفقات العامة وخصخصة الأصول العامة مكانة هامة في الخطاب السياسي للمنطقة. وتلك بوجه خاص الحالة منذ فيض إنتاج البترول منذ العام 2014.
سعيا إلى تحليل حالة الاقتصاد السياسي للخليج، قابل حمزة كولين آدم هنية.
آدم مدرس في شعبة دراسات التنمية في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. يفحص كتابه الأخير مال وأسواق وملكيات , Money, Markets, and Monarchies (Cambridge University Press, août 2018) كيف تُكيف دول مجلس التعاون الخليجي الست الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط الموسع. يتناول فيه الطبيعة الخاصة لرساميل الخليج ودورها في الأسواق الإقليمية والعالمية ومستقبلها في عالم ما بعد كوفيد-19.
*****
حمزة كولين: يعتبر الخطاب العام منطقة الخليج حالة شاذة، مكانا حافظ على عناصر من ماضيه شبه الإقطاعي لكنه أفلح مع ذلك في التكيف مع الرأسمالية الحديثة. والإطار الرئيسي المستعمل لفهم هذه العلاقة هو نظرية الدولة الريعية. هل تكفي هذه المعالجة لفهم وقائع الخليج الاقتصادية والسياسية المعاصرة ؟
آدم هنية : ثمة تنويعات عديدة من نظرية الدولة الريعية، لكن خاصيتها المشتركة تتمثل في سعي إلى تفسير الترسيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الخليج بمداخيل الدولة المستمدة من صادرات المحروقات. تسمى تلك المداخيل "ريوعا" لأنها ناتجة في نهاية المطاف من مصادفة وجود موارد طبيعية على التراب الوطني. الفكرة الأساسية هي أن الإفادة من هذه الريوع يتيح لحكام الخليج استقلالا وسلطة قويين جدا عن باقي أقسام المجتمع. وقد جرى استعمال هذه الفكرة لتفسير أمور عديدة في الخليج من قبيل الاستبداد، وضعف المجتمعات المدنية، والتبعية إزاء شبكات الزبونية والمحسوبية، و"العقليات" الريعية ونماذج التنمية الاقتصادية.
وجلي اليوم أن صادرات المحروقات (بترول وغاز) ذات أهمية بالغة في الاقتصاد السياسي للخليج. لكن انتقادات عديدة صيغت حول كيفية الأخذ بنظرية الدولة الريعية لتفسير امتلاك الخليج ودول أخرى للموارد الطبيعية. بنظري، يكمن إحدى المشاكل الكبرى لنظرية الدولة الريعية في نأيها بالتحليل عن معالجة لمجتمعات الخليج بما هي رأسمالية، أي كبلدان لها خصوصياتها لكن لها مع ذلك نفس الدينامية الكامنة التي للرأسمالية بأماكن أخرى. يؤدي إخفاء الرأسمالية إلى فقد مقولة الطبقة. ويجري تصوير رأس المال الخاص كرأس مال ضعيف وناقص التطور، وإقلال أهمية العمل وبنية الطبقات العاملة. كما نكون إزاء فهم إشكالي بوجه خاص للدولة في منطقة الخليج.
وبالمقابل، أعتقد أن معالجة ماركسية لتشكل الدولة والطبقات طريقة لفهم الخليج أكثر إقناعا وخصبا بكثير. تجذب هذه المعالجة انتباهنا إلى جملة مسائل ومشاكل مختلفة. كيف تظهر طبقات رأس المال والعمل في الخليج، وكيف تترابط هذه الطبقات؟ ما هي اللحظات الرئيسية لتراكم رأس المال (الإنتاج، تبادل السلع والمالية، مثلا) وكيف تترابط؟ ما هي الدينامية المكانية للتراكم في الخليج، أي كيف يتوسع التراكم عبر الدورات الوطنية والإقليمية والعالمية؟ وكيف ترتبط هذه الديناميات بدور الدولة الخاص في الخليج؟ كيف يمكننا وضع إطار مفاهيمي لمكانة الأسر الحاكمة إزاء الطبقة الرأسمالية، وعمل المهاجرين إزاء السكان المواطنين؟ كيف يجري إضفاء الطابعين العرقي والجنسي على الطبقات في الخليج؟ قد يكشف هذا النوع من الأسئلة أمورا عديدة حول الخليج بما هو مجتمعات رأسمالية.
الأمر الآخر الذي تجنح إليه معالجات نظرية الدولة الريعية هو انتزاع الخليج عن السيرورات العالمية الأوسع، حيث يجري تناول مسائل من قبيل الامبريالية ودينامية السوق العالمية باعتبارها أمورا ثانوية. لكن ما السبيل لتفسير "نقص الديمقراطية" في الخليج دون إبراز مركزية المنطقة بالنسبة للسلطة الأمريكية منذ أمد بعيد، أو دعم الدول الغربية العسكري والسياسي الثابت للأسر الحاكمة في الخليج؟ ومن المهم كذلك فهم تاريخ الاستعمار والحرب المسؤول بدرجة كبيرة عن أشكال وجود الخليج المعاصر.
النقطة الجوهرية هي أن بلدان الخليج ليس حالة شاذة غريبة بين الدول الرأسمالية بالعالم برمته. بل بالعكس- واعتقد أنه واقع لا تقدره أقسام من اليسار بالبلدان الغربية حق قدره- يمكن أن نتعلم من الخليج الكثير حول كيفية الاشتغال الفعلي للرأسمالية في أماكن أخرى أيضا.
ما هي البترودولارات، وهل لا تزال عاملا مؤثرا في النظام العالمي الراهن؟
البترودولار لفظ جرى اختراعه في سنوات 1970 لوصف المداخيل المتأتية للبلدان بفضل صادراتها من المحروقات. يمكن إنفاق هذا الرأسمال داخل البلد المعني أو "تدويره" في السوق العالمية. كانت البترودولارات مهمة تاريخيا لتطور الأسواق المالية العالمية، وهي لا تزال مهمة اليوم.
ويمثل بزوغ "الأسواق الأوربية" مثلا مبكرا يوضح ذلك: يتعلق الأمر بالأسواق المالية التي تطورت في أوربا في متم سنوات 1950 وفي سنوات 1960، والتي لم تكن مندرجة في اختصاص أنظمة التقنين الوطنية، وكانت معفية إلى حد بعيد من الضريبة ومن قيود مالية وطنية أخرى. أصبحت لندن المركز العالمي الأساسي لعمليات السوق الأوربية، متيحة للبنوك وللمنشآت معالجة ودائع وسندات مُقوّمة بعملات غير تلك الخاصة بسوقها الوطنية. وعلى أثر تأميم شركات البترول في الخليج في سنوات 1970، وارتفاع أسعار البترول الكبير الناتج عن ذلك، بلغت ودائع البترودولار في بنوك أمريكا الشمالية وأوربا الفاعلة في السوق الأوربية مستويات مرتفعة جدا.
أدت تدفقات بترودولارات الخليج تلك إلى تنام كبير لمقدرات البنوك الدولية على التسليف للمنشآت العابرة للأوطان، وللحكومات ولمقترضين آخرين؛ وأسهمت في حفز تدويل الإنتاج الذي بدأ يتقدم بدءا من سنوات 1970. كما قامت الأسواق الأوربية بدور أساسي في سريان أزمة ديون "العالم الثالث" على مر سنوات 1980. واضطرت بلدان الجنوب المحتاجة إلى مال إلى اقتراض البترودولار المدور بواسطة الأسواق الأوربية، متورطة بذلك النحو في علاقات استدانة مع المؤسسات المالية الدولية. وتمثل قوة حي المال في لندن في النظام المالي العالمي حاليا إرثا مباشرا عن تلك الأسواق- ويظل موقع الخليج في هذا السياق هاما.
كما قامت بترودولارات الخليج بدور بليغ في بزوغ الولايات المتحدة الأمريكية وتوطدها بما هي قوة عالمية مسيطرة على مر النصف الثاني من القرن العشرين. وبقبولها استثمار مداخيل البترول في سندات الخزينة الأمريكية، وسندات القطاع الخاص والأسهم، وبتقويم سعر البترول بالدولار الأمريكي، أسهمت فوائض الخليج في توطيد تفوق الدولار بما هو "عملة عالمية".
كما جرى تدوير بترودولار الخليج في الأسواق الدولية بوسائل أخرى غير مباشرة، منها شراء بلدان الخليج مواد وخدمات أجنبية - و الأهم هنا بوجه خاص تلك المرتبطة بتطوير البنيات التحتية الحضرية، مثل الآلات وتجهيزات النقل، والهندسة الراقية وخدمات البناء. وطبعا، كانت إحدى سبل تدوير البترودولار الرئيسة شراء دول الخليج للمعدات والخدمات العسكرية. فقد اشترت بلدان الخليج الست، بين العامين 2015 و 2019، أكثر من خُمس الأسلحة المبيعة في العالم، وتتقدمها المملكة العربية السعودية مستورداً أول للسلاح بالعالم والإمارات العربية المتحدة بالمرتبة الثامنة وقطر بالعاشرة. اشترت المملكة العربية السعودية وحدها ربح صادرات السلاح الأمريكية في تلك الحقبة، مقابل 7.4% في 2010-2014.
هل لك أن تحدثنا أكثر عن طبيعة الطبقة الرأسمالية في الخليج، وعلاقاتها مع الدولة ومع الأسر الحاكمة ؟
رساميل الخليج الكبيرة منظمة في الغالب في تكتلات كبيرة عاملة بمختلف قطاعات الاقتصاد، بالأخص في قطاع البناء والتنمية العقارية، والعمليات الصناعية (لاسيما الفولاذ والألمنيوم والخرسانة)، وتجارة المُفرَّق (حتى تجارة التوريد وملكية المراكز التجارية والمخازن التجارية) والمالية. وغالبا ما تكون هذه التجمعات تحت تحكم الأسر ذات أصل في الأنشطة التجارية السابقة، ووثيقة الصلة بالأسر الحاكمة وببنيات الدولة في الخليج. دول الخليج كلها اليوم أنظمة ملكية من أنماط مختلفة، وتتحكم الأسر الحاكمة بجهاز الدولة وبقسم كبير من الثروة المستمدة من صادرات البترول والغاز.
يتوقف نجاح تراكم رأس المال في الخليج إلى حد بعيد على القرب من الدولة، وعلى دعم الأسرة الحاكمة. وقد يتجلى ذلك بمختلف الطرق: أراضي مدعمة وأشكال دعم أخرى، وعقود مربحة من الدولة لمختلف المشاريع، واستثمارات مشتركة بين رأس المال الخاص والدولة، ودعم سياسي ومالي من مؤسسات الدولة لاستثمارات التكتلات الخاصة بالخارج. إن طراز العلاقة مع الدولة هذا ليس ميزة خاصة برأس مال الخليج، فهي الطريقة العادية لقيام أي رأسمالي كبير بأعمال في أي بلد بالعالم اليوم.
ومن إرث مقاربات نظرية الدولة الريعية اليوم فكرة أن رأس المال الخاص في الخليج ضعيف وتحجبه دولة قوية. تقوم هذه الفكرة على نظر يفصل الدولة عن رأس المال، وهذا برأيي منهج خاطئ. في الواقع، غالبا ما يتحكم أعضاء الأسر الحاكمة في مجموعات منشآت كبيرة بصفتها ممتلكات خاصة، ويجب بالتالي اعتبارهم جزءا من الطبقة الرأسمالية الخاصة (وكذا كقسم أساسي من الكيفية التي تمارس بها سلطة الدولة). ففي قطر، مثلا، نجد بمجالس إدارة 80% من المنشات بالبورصة عضوا بالأقل من أسرة آل ثاني الحاكمة، وهؤلاء يتصرفون بصفتهم الفردية وليس كممثلين للدولة. كما يمتلك محمد بن رشيد آل مكتوم، حاكم دبي، مساهمات خاصة في عدد هام من المنشآت الكبيرة في الإمارة، منها بعض أكبر الشركات العقارية والبنوك ومجموعة كبيرة للاتصالات.
باختصار، أرى أهمية في استعادة الصياغات الفكرية بصدد الخليج لتصور ماركسي لعلاقة الدولة والطبقة، أي معالجة تعتبر الدولة تعبيرا مؤسسيا للسلطة الطبقية في الخليج، وطبقة رأسمالية مفهومة ككيان يضم الأسر الحاكمة ونخب الدولة.
في كتابك Capitalism and Class in the Gulf Arab States (الرأسمالية والطبقة في دول الخليج العربية) تعتبر "الاستقرار المكاني" أداة هامة لتجاوز أزمات إعادة انتاج الطبقات العاملة بالخليج و تجزؤها. ما هي عناصر "الاستقرار المكاني" في الخليج؟ وكيف يجري الأمر ميدانيا ؟
هذا التعبير مستعار طبعا من عند دافيد هارڤي David Harvey [*]، الذي استعمله لوصف الكيفية التي غالبا ما يعيد بها رأس المال تنظيم نفسه في المكان من أجل تجاوز لحظات الأزمة أو نقلها. أعتقد أن بوسعنا أن نلاحظ في الخليج نوعا من السيرورة المشابهة فيما يخص عمل المهاجرين.
يمثل غير المواطنين نسبة ما بين 56 و82% من اليد العاملة بالمملكة العربية السعودية، وعمان، والبحرين والكويت؛ وزهاء 95% في قطر والإمارات العربية المتحدة. هذه الأرقام الناطقة مفيدة بشكل أساسي لفهم بنية الطبقات الاجتماعية في الخليج. فبفضل نظام الكفالة سيء الذكر (نظام يضع العامل المهاجر تحت الوصاية ويؤدي إلى استعباد حقيقي للأجير)، يكون العمال المهاجرون مرتبطين برب عمل فردي، ولا يمكنهم البحث عن فرصة عمل أخرى، ولا حتى مغادرة البلد بلا ترخيص. سواد هؤلاء الأجراء الأعظم مستخدم في القطاع الخاص- في قطاعات كالبناء، والعمل المنزلي وتجارة المفرق- وغالبا بأجور هزيلة في ظروف عمل مطبوعة بفرط الاستغلال والخطورة. بهذا المعنى، يمثل استغلال يد عاملة مهاجرة عنصرا أساسيا في تراكم التجمعات التجارية التي تحدث عنها آنفا.
أحد عواقب تدفقات العمال المهاجرين هذه أن ملايين الأسر في جنوب آسيا، والشرق الأوسط وشرق أفريقيا وغيرها مرتهنة كليا بالمال المرسل من العمال بالخليج. يوجد بالخليج من العمال المهاجرين أكثر من أي منطقة أخرى بالجنوب، وتمثل المملكة العربية السعودية وحدها ثاني مَصْدر لإرسال المال في العالم (بعد الولايات المتحدة الأمريكية).
تذكرنا هذه التدفقات العابرة للحدود من العمال والعاملات المهاجرين بأن الطبقة العاملة ليست مجرد مقولة مجردة تصف علاقة ما برأس المال وبإنتاج فائض القيمة داخل أمكنة وطنية. تولد الطبقات بنحو ملموس من ترابط أمكنة جغرافية، وتتشكل باستمرار بفضل تدفقات (وتنقلات) الكائنات البشرية عبر الحدود. وعندما نفكر في مقولة مثل "جيش العمل الاحتياطي" في الخليج، يجب أن نأخذ بالحسبان ملايين الأشخاص الذي ربما يعيشون خارج حدود مجلس التعاون الخليجي- لكنهم مع ذلك في حركة دائمة في أسواق عمل الخليج.
اليوم، في حقبة التباطؤ الاقتصادي، يجري إبعاد عدد كبير من هؤلاء العمال المهاجرين في الخليج إلى بلدانهم، وغالبا دون حصولهم على مستحقاتهم من أجور وتعويضات. لاحظنا ذلك على نطاق واسع بعد الأزمة العالمية في 2008، ويمكن أن نلاحظه من جديد اليوم. فقبل أسابيع نشر الرئيس السابق لوزارة المالية في دبي على تويتر أنه يتوقع انخفاضا بنسبة 10% من سكان الإمارات في هذه السنة- سقوط لافت للنظر! إنها أحد الوسائل المتاحة لبلدان الخليج لمواجهة لحظات الانحسار تلك، بإعادة هيكلة التنظيم المكاني لطبقتها العاملة وبنقل تأثير الأزمة إلى أفقر مناطق السوق العالمية.
شهدت حقبة ما بعد الربيع العربي تدخلا بليغا لبعض دول الخليج في شؤون بلدان مجاورة. كان ذلك أكثر جلاء في العام 2013 لما ساندت المملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت مساندة مادية انقلابا عسكريا رفع الدكتاتور المصري عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم. ومن جهة أخرى، دعمت قطر حكومة الإخوان المسلمين التي كانت عرضة للهجوم. هل ثمة بعد اقتصادي مرتبط بهذه التوترات السياسية؟ ما العلاقة بين رأس مال الخليج وسياسة الشرق الأوسط بوجه عام؟
من المهم جدا بنظري عدم فصل السيرورات الاقتصادية التي نعاين في الشرق الأوسط عن السياسة بالمنطقة. جرى على نطاق واسع في المنطقة برمتها، خلال العقدين الأخيرين، تبني السياسات النيوليبرالية المتخذة السوق محورا. وتم تشجيع هذا التطور ببرامج التقويم الهيكلي المرتبطة بقروض المؤسسات المالية الدولية، واستتبع "الإصلاحات" المعهودة المرتبطة بهذه البرامج، كالخصخصة والانتقال إلى إنتاج وزراعة موجهين نحو التصدير، وتفكيك قوانين سوق العمل والمالية، والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية المباشرة،الخ. وتتفاوت وتيرة هذه الإجراءات بشكل كبير من دولة إلى أخرى، لكن بلدانا مثل مصر وتونس كانت مرارا موضوع إشادة من المؤسسات المالية الدولية كأمثلة عن "النجاح" حتى بداية الانتفاضات العربية في متم العام 2010.
ثمة الآن نقاط عديدة يتعين التأكيد عليها فيما يخص تلك التحولات الاقتصادية. أولا، كانت مرتبطة بنحو وثيق بتشديد أشكال الاستبداد بمجمل المنطقة. وليس مصادفة أن زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر وصلا إلى السلطة في سنوات الثمانينات واعدين بتطبيق برامج تقويم هيكلي- وطبعا حظوا بتهاني البنك العالمي وصندوق النقد الدولي على ذلك. إن الأمر منطقي تماما، فالمعارضة الشعبية العامة للتقويم الهيكلي تقتضي شخصا في السلطة يستطيع الدفع بتلك التدابير باللجوء إلى القمع الداخلي.
ذلك سبب الترابط التاريخي الوثيق بين الاستبداد والإصلاح النيوليبرالي بالشرق الأوسط. هذا واقع متعارض مع خرافة يروجها أصحاب القرار الأمريكيين طوال سنوات 1990 و2000 عن وجود أسواق وانتخابات حرة.
من المهم بوجه خاص التأكيد اليوم على هذه العلاقة بين الشأن السياسي والشأن الاقتصادي، لأنها تبرز العلاقة الضرورية بين التغيير السياسي والتغيير الاقتصادي الاجتماعي الحقيقي. لا يكفي مجرد تغيير لوجه الشخص المتربع بالقمة مع إبقاء نفس السياسات الاقتصادية- هذا درس أساسي من دروس الانتفاضات العربية.
لكن التدابير النيوليبرالية لسنوات 1990-2000 كانت أيضا وثيقة الارتباط بتطور تراتبيات اقتصادية وسياسية جديدة على الصعيد الإقليمي. فقد كان أحد أوجه هذا التطور الأساسية تدويل رساميل الخليج في المنطقة برمتها- أي استثمارات تكتلات الخليج العابرة للحدود في البلدان العربية المجاورة. بهذا النحو، كانت التكتلات التجارية الكبرى التي تحدث عنها آنفا، وكذا حوامل استثمارات الدولة بالخليج، المستفيدين الرئيسيين من الانعطاف النيوليبرالي بالشرق الأوسط. يمكن ملاحظة ذلك في قطاعات اقتصادية أساسية عديدة: العقار والبناء والبنيات التحتية واللوجستيك والبنوك والمالية ووسائل الإعلام والاتصالات وتجارة المفرق والتجارة والأغذية . وقد حاولت تفصيل هذه السيرورة في كتابي الأخير.
جرت تدفقات الرساميل الإقليمية تلك بواسطة آليات مختلفة، لاسيما الاندماج والشراء، والاستثمار في أسهم وسندات في بورصات عربية أخرى، وإحداث فروع عابرة للحدود، والتحكم في القوانين المنظمة للشركات وللملكية. وبواسطة هذه الوسائل وأخرى غيرها يعمل تدويل رساميل الخليج أكثر فأكثر لتشكيل الإنتاج والاستهلاك والأنشطة المالية في مختلف الدول العربية. لقد بات الاقتصاد السياسي لمختلف البلدان العربية وثيق الارتباط بدينامية تراكم رأس المال في الخليج ذاته.
نتيجة هذا كله أن للخليج مصلحة كبيرة في الاقتصاد السياسي الإجمالي للمنطقة، ويجب أن ندرك هنا توترات تنافس مختلف دول الخليج. لا يمكن التفكير في النظام السياسي للمنطقة بمعزل عن هذه الأبعاد الاقتصادية (والعكس بالعكس).
هل لك أن تحدثنا عن بعض المسارات الممكنة للخليج والشرق الأوسط، لاسيما في سياق جائحة كوفيد-19؟
توجد المنطقة طبعا في وضع تحول. فقد شهد الشرق الأوسط قبل الجائحة جملة أزمات بالغة العمق. تمثل إحداها في العدد الكثيف من اللاجئين والأشخاص المُرحّلين داخل البلدان بسبب الحروب الجارية في بلدان مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق. تمثل المنطقة اليوم مكان أكبر تهجير قسري للسكان منذ الحرب العالمية الثانية. ويعيش الكثير من هؤلاء المهجرين في مخيمات بدائية آو في فضاءات حضرية مكتظة، ما يرفع بقدر كبير خطر الإصابة بالفيروس. وثمة أيضا تفش معمم لسوء التغذية وأمراض أخرى (مثل عودة ظهور الكوليرا في اليمن)، والأمر هنا أيضا مرتبط بالحروب وبالصراعات السابقة للجائحة.
شهدنا في العام 2019 موجة نضالات شعبية جديدة ببلدان عديدة بالشرق الأوسط، بخاصة السودان ولبنان والجزائر والمغرب والعراق. كانت هذه البلدان في منأى إلى حد ما عن الانتفاضات التي جرت قبل عشر سنوات، وكانت ثمة أسباب تفاؤل عديدة بهذه التعبئات الجديدة. وقد جذبت شرائح عريضة من المجتمع، حتى الفقراء وعمال القطاع غير المهيكل. وقاومت بفعالية محاولات التهميش، وكانت تلك الحركات تحمل طابعا قويا من مناهضة الطائفية- هام بوجه خاص في العراق ولبنان.
كما تميزت تلك الحركات بتداخل جلي للشأنين السياسي والاقتصادي في علاقة ارتباط - في لبنان مثلا، استهدف الاحتجاج البنوك، متجاوزا المسائل المعروفة من زبونية وفساد سياسي. كما كانت موجة مظاهرات العام 2019 مطبوعة بتقدير هام للتراتبيات الإقليمية، مع شعارات ضد دسائس القوى المجاورة، لاسيما العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة و تركيا وإيران.
يبدو جليا اليوم أن الجائحة كبحت تلك الحركات، وحدّت من قدرة الناس على النزول إلى الشارع من أجل الاحتجاج وقيَّدتها. لكن كل المسائل الأساسية المبررة لتلك الاحتجاجات تظل قائمة. في الواقع اعتقد أنه من الجلي كفاية أن مسائل الفقر، والتفاوت، والفساد- التي غذت كلها أزمة الشرعية التي واجهتها الطبقات السائدة القائمة في المنطقة برمتها- تفاقمت بعد الجائحة وتباطؤ الاقتصاد العالمي الجاري حاليا.
طبعا، كبير مشاكل الخليج هو انهيار أسعار البترول الذي جري في الشهرين الأخيرين. وعلى غرار كل منتجي البترول، سيُضر ذلك جديا بمقدرات الخليج المالية. وستكون ثمة بلا شك اقتطاعات من النفقات الاجتماعية- بات بعضها معلنا- وتراجع عن بعض المشاريع الكبرى المرتبطة بإستراتيجية "رؤية" الخليج المعلنة في السنوات الأخيرة.
لكن من الخطأ بنظري تأويل هذه الأزمة على أنها قلب دائم لبعض الميول التي أشرت إليها آنفا. إن لدى حكومات الخليج، بعكس دول أخرى بالمنطقة، مستوى استدانة ضئيل نسبيا، وبوسعها اللجوء إلى الاحتياطات المتراكمة والاقتراض بنسب فائدة رخيصة في الأسواق الدولية. ويمكن لشركات البترول، رغم التضرر البالغ لسوق البترول العالمية بفعل الجائحة، أن تعزز موقعها إن كانت أصول البلدان المجاورة متاحة بأقل كلفة في عالم ما بعد الفيروس.
وقد أدى العمال المهاجرون تكاليف الجائحة وتباطؤ الاقتصاد مثلما جرت العادة في الخليج. فقد بدأت المملكة السعودية مثلا طرد المهاجرين الإثيوبيين، وحسب مذكرة داخلية للأمم المتحدة، يتعين عليها أن تطرد منهم 200 ألفا [عدد مهم من العمال الإثيوبيين المضطرين لمغادرة بلدان الخليج باتوا سجناء في اليمن في ظروف من الأشد رعبا: سوء تغذية، وأمراض، ولا سكن، الخ]. كما لوحظ ارتفاع حاد للخطابات العنصرية ضد العمال المهاجرين في الخليج برمته، وكذا قوانين جديدة تتيح لمنشآت القطاع الخاص تقليصا دائما لأجور غير المواطنين أو إجبارهم على عطلة دون أجر.