ديكتاتورية البروليتاريا والديموقراطية الاشتراكية

نص برنامجي صادق عليه المؤتمر الثاني عشر للأممية الرابعة، 1985

 

1) ما هي ديكتاتورية البروليتاريا؟

2) مجالس العمال وتوسيع الحقوق الديموقراطية للجماهير الكادحة:

3) صراع الطبقات في ظل الرأسمالية والنضال لأجل الحريات الديموقراطية وانبثاق ديكتاتورية البروليتاريا:

4) حزب واحد أم تعدد الأحزاب؟

5) ماذا تمثل الأحزاب السياسية؟

6) ضرورة حزب ثوري طليعي.

7) لا غنى عن موقف واضح من الديموقراطية الاشتراكية لأجل كسب العمال إلى الثورة الاشتراكية وديكتاتورية البروليتاريا.

8) لماذا لم ينجز برنامج الديموقراطية الاشتراكية هذا على نحو واسع لحد الآن؟

9) جوابا على العقائد الجامدة ذات الأصل الستاليني:

10) دفاع الدولة العمالية الذاتي:

11) الثورة والثورة المضادة العالميتان:

12) الدول العمالية المبقرطة وديكتاتورية البروليتاريا وصعود الثورة السياسية

13) برنامج الديموقراطية الاشتراكية جزء لا يتجزأ من برنامج الثورة العالمية

 

 

ديكتاتورية البروليتاريا والديموقراطية الاشتراكية

 

إن النقاش الجاري داخل الحركة العمالية العالمية حول مختلف التصورات للديموقراطية الاشتراكية ولديكتاتورية البروليتاريا هو الأعمق منذ السنوات الأولى التي تلت ثورة أكتوبر 1917. وهو نتاج صعود النضالات العمالية في البلدان الرأسمالية منذ 1968 والنضالات ضد الإمبريالية وتلازم أزمة الرأسمالية وأزمة هيمنة الفئات البيروقراطية على الدول العمالية المبقرطة. كما أنه نتاج بروز وعي داخل الطبقة العاملة العالمية بأضرار الستالينية والبيروقراطية عموما. وقد نقلت كل هذه العوامل الجدل من مجال السجالات الأكاديمية، إلى هذا الحد أو ذاك، نحو السياسة العملية بحصر المعنى. إن موقفا واضحا من هذه المسألة أمر ضروري لتقدم الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية والثورة السياسية في الدول العمالية المبقرطة. من هنا تنبع، لدى الأممية الرابعة، ضرورة تأكيد مواقفها البرنامجية في هذا الصدد.

 

  1. ما هي ديكتاتورية البروليتاريا؟

فيما يتعلق بالظفر بسلطة الدولة وضرورة ثورة اشتراكية وطبيعة الدولة العمالية ودلالة ديكتاتورية البروليتاريا، يكمن الفرق الأساسي بين الإصلاحيين والوسطيين بكل تنويعاتهم من جهة، والماركسيين الثوريين أي البلاشفة اللينينيين من جهة ثانية، في النقاط التالية:

 

أ- يفهم الماركسيون الثوريون الطبيعة الطبقية لجميع الدول بما هي أدوات حفاظ على السلطة الطبقية. وجميع الدول هي، وفق هذا الفهم، ديكتاتوريات. والديموقراطية البورجوازية هي أيضا ديكتاتورية طبقية.

 

ب- يدافع الإصلاحيون عن وهم أن "الديموقراطية" و"مؤسسات الدولة الديموقراطية" تعلو على الطبقات وعلى الصراع الطبقي. ويرفض الماركسيون الثوريون هذا الوهم.

 

ج- يدرك الماركسيون الثوريون أن مؤسسات الدولة بالدول البورجوازية، حتى الأكثر ديموقراطية، إنما تحافظ على سلطة وهيمنة الطبقة الرأسمالية (فضلا على الاستغلال الإمبريالي لشعوب البلدان شبه المستعمرة) وليس من شأنها أن تفيد كأداة لإطاحة هذه الهيمنة ولنقل السلطة من الطبقة البورجوازية إلى الطبقة العاملة.

 

د-يدرك الماركسيون الثوريون أن ظفر البروليتاريا بالسلطة يستلزم تدمير جهاز الدولة البورجوازي وفي المقام الأول جهاز القمع البوليسي والعسكري.

 

هـ- يدرك الماركسيون الثوريون ضرورة رفع مستوى وعي العمال وتنظيمهم الجماهيري للتمكن من إنجاز نزع ملكية البورجوازية وتوطيد ديكتاتورية البروليتاريا.

 

و- يستنتج الماركسيون الثوريون من ذلك أن الطبقة العاملة لا يمكن أن تمارس سلطة الدولة مباشرة إلا في إطار مؤسسات دولة من نوع مغاير للدولة البورجوازية، ألا وهي مؤسسات مبنية على مجالس عمال (سوفييتات) ذات سيادة ومنتخبة وممركزة ديموقراطيا وحسب خصائصها الأساسية كما دققها لينين في "الدولة والثورة" : انتخاب كافة الموظفين والقضاة وقادة الميليشيا العمالية (أو العمالية والفلاحية) وكافة المندوبين الممثلين للعمال في مؤِسسات الدولة. وتعاقب المنتخبين وتحديد دخلهم في أجرة عامل مؤهل وقابلية عزل كافة المنتخبين طبقا لإرادة ناخبيهم، وممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية معا من طرف مؤسسات من طراز سوفياتي، وتقليص جذري لعدد الموظفين الدائمين والنقل المتزايد للوظائف الإدارية إلى هيئات مكونة مباشرة من العمال يعني هذا، بعبارة أخرى، ديموقراطية تمثيلية من طراز سوفياتي تتعارض مع الديموقراطية البرلمانية وتستتبع أشكالا متنامية الاتساع من الديموقراطية المباشرة.

 

إن الدولة العمالية، كما قال لينين، هي أول دولة في تاريخ البشرية تدافع عن حكم أغلبية السكان ضد أقليات مستغلين ومضطهدين : "بدل مؤسسات خاصة بأقليات ذات امتيازات (موظفون ذوو امتيازات، قادة الجيش الدائم) يمكن للأغلبية نفسها أن تضطلع مباشرة بهذه المهام. وبقدر ما يمارس مجموع الشعب وظائف السلطة بقدر ما تتضاءل ضرورة تلك السلطة" (لينين الأعمال الكاملة بالفرنسية الجزء 25 ص454). إن ديكتاتورية البروليتاريا، بالمعنى البرنامجي للكلمة، لا تتناقض بتاتا مع الديموقراطية العمالية: "ديكتاتورية البروليتاريا من حيث جوهرها نفسه يمكن ويجب أن تكون أقصى ازدهار للديموقراطية البروليتارية" (تروتسكي –الأعمال جزء 5 ص 206-207). يمثل مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا، الذي يلخص كل هذه المميزات، عنصرا أساسيا في النظرية الماركسية في الدولة والثورة البروليتارية وسيرورة بناء مجتمع دون طبقات. تحمل كلمة "ديكتاتورية" معنى ملموسا في هذا السياق. ويتعلق الأمر بأواليات لنزع سلاح وملكية البورجوازية ولتمكين الطبقة العاملة من ممارسة السلطة وبأوليات لمنع إعادة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وكل إعادة لاستغلال العمال الأجراء من طرف الرأسماليين.

 

بيد أن هذا المفهوم لا يمكن أن يتماثل بتاتا مع سلطة ديكتاتورية تمارس على أغلبية الشعب. أكد مؤتمر تأسيس الأممية الشيوعية صراحة أن: "ديكتاتورية البروليتاريا هي السحق عن طريق القوة لمقاومة المستغلين أي الأقلية الضئيلة من السكان، الملاكين العقاريين والرأسماليين، كما ينتج عن هذا أيضا أن ديكتاتورية البروليتاريا تحدث بشكل حتمي تغييرا ليس فقط في الأشكال والمؤسسات الديموقراطية بشكل عام بل إنها أيضا تحدث تغييرا يصل إلى التوسيع غير المعروف لحد الآن للمبدأ الديموقراطي لصالح الطبقات التي تستغلها الرأسمالية، لصالح الطبقات الكادحة. ويحقق لها إمكانية سريعة للإفادة من الحقوق والحريات الديموقراطية كما لم يحصل من قبل، ولو بشكل مشابه، في الجمهوريات البورجوازية الأفضل والأكثر ديموقراطية" (أطروحات لينين حول الديموقراطية البورجوازية و ديكتاتورية البروليتاريا –المؤتمرات الأربع الأولى للأممية الشيوعية).

 

ليست دولة من هذا القبيل دولة بالمعنى التقليدي للكلمة سوى في المرحلة التي يلزم فيها "القمع العنيف لمقاومة الطبقة التي فقدت الهيمنة السياسية" وخلال هذه المرحلة بالضبط يسميها التقليد الماركسي بديكتاتورية البروليتاريا "إن نظام ديكتاتورية البروليتاريا يتوقف هكذا عن أن يكون نظاما "لدولة" بالمعنى القديم للكلمة، أي لجهاز معد لإبقاء أغلبية الشعب منقادة طائعة. في حين تنتقل الأسلحة والقوة المادية مباشرة إلى تنظيمات العمال كالسوفييتات. ويبدأ جهاز الدولة البيروقراطي بالزوال منذ بداية ديكتاتورية البروليتاريا. هذه هي بنود البرنامج الذي لم يصدر حتى اليوم ما يلغيه" (تروتسكي –الثورة المعذورة)

 

وإذا انعدم هذا التطور نحو اضمحلال الدولة، عند سحق مقاومة الطبقة البرجوازية في الدولة العمالية الجديدة، بل وتطورت سيرورة تبقرط، فمن الواضح أن الأمر ليس "توطيدا لديكتاتورية البروليتاريا" بل انحطاطا نحو الأشكال البيروقراطية للدولة.

 

ينجم من هذا رفضنا لجزم الإصلاحيين وعدد من الوسطيين –المتأثرين في هذه المسألة بالإيديولوجية البورجوازية أو بمداحي الديكتاتورية الستالينية- أن الفرق الأساسي بين أنصار وخصوم ديكتاتورية البروليتاريا كامن سواء في دفاع الطرف الأول عم نظام الحزب الواحد ورفض الثاني له أو في دفاع البعض عن تضييق شديد للحريات الديموقراطية أو حتى إلغائها ودفاع البعض الآخر المستميت عن هذه الحريات.

 

إنها حجة منافقة بقدر ما تبرهن التجربة التاريخية أن الإصلاحيين أنفسهم مستعدون لتضييق صارم للحريات الديموقراطية للجماهير وحتى لاستعمال القمع العسكري والبوليسي ضد الجماهير (نوسكه !) عندما تهدد بإطاحة النظام البورجوازي. كما تدل التجربة التاريخية أن ليس لدى الإصلاحيين لا الاستعداد ولا قدرة الدفاع الفعال عن الحريات الديموقراطية حتى داخل المجتمع البرجوازي ضد خطر أقصى اليمين، وذلك بقدر ما يتطلب هكذا دفاع أوسع تعبئة جماهيرية، بما في ذلك تسليح الجماهير.

 

تدافع الأممية الرابعة، بوجه المراجعة البرنامجية لدى أحزاب شيوعية وتشكيلات وسطية عديدة، عن التصورات الكلاسيكية لماركس ولينين. يستحيل مجتمع اشتراكي دون الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وللنتاج الاجتماعي الفائض ودون تخطيط الاقتصاد وتسييره من طرف الطبقة العاملة بمجملها بواسطة مجالس عمالية ممركزة ديموقراطيا أي التسيير الذاتي العمالي المخطط. ويستحيل هكذا تشريك دون نزع ملكية البورجوازية اقتصاديا وسياسيا وممارسة الطبقة العاملة لسلطة الدولة. وما من مجتمع اشتراكي كامل التطور يمكن إنجازه في الحدود الضيقة للدولة القومية.

 

الآن، لاسيما بعد تجربة الشيلي الفاجعة التي أكدت عديدا من دروس التاريخ السابقة، لا بد أن يكون هذا التصور الإصلاحي، المشترك لدى الأحزاب الشيوعية بأوروبا الرأسمالية واليابان وأحزاب شيوعية وتشكيلات وسطية أخرى، والذي يرى أن بإمكان الحركة العمالية أن تبلغ أهدافها في إطار مؤسسات برلمانية بورجوازية بالثقة في الانتخابات البرلمانية وبالكسب التدريجي ل"مواقع سلطة" داخل هذه المؤسسات، نقول هذا التصور يجب أن يكون موضوع مكافحة وتنديد وفضح لما يمثله: إنه مبرر للتخلي عن نزع ملكية البورجوازية والتخلي عن سياسة دفاع حازم عن مصالح طبقة العمال، واستبدال سياسة نضال طبقي حازم بسياسة تعاون طبقي منظم أكثر فأكثر مع البورجوازية، ونزع سلاح البروليتاريا بوجه عنف الطبقة الرأسمالية، وما ينتج عن هذا من ميل متنام إلى الاستسلام أمام المصالح الطبقية للبورجوازية في لحظات أزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية حاسمة. بدل خفض نفقات "التحويل الاجتماعي"، وتأمين انتقال سلمي ولو بمزيد بطء نحو الاشتراكية، لا يمكن أن يفضي مثل هذا التوجه السياسي سوى إلى هزائم دامية ومذابح جماهيرية من النوع الألماني والإسباني والإندونيسي أو الشيلي، إن هو نجح في تحديد حاسم لسلوك العمال السياسي خلال مرحلة مواجهة شاملة حتمية بين الطبقات (في حالة ألمانيا كان للهزيمة سبب لإضافي كامن في نظرية وممارسة الكومنترن الإجراميتين اليسراويتين أي ما يدعى "الاشتراكية الفاشية.

 

2) مجالس العمال وتوسيع الحقوق الديموقراطية للجماهير الكادحة:

تعني ديكتاتورية البروليتاريا، في شكلها المكتمل بما هي ديموقراطية عمالية، ممارسة سلطة الدولة من طرف سوفييتات أي مجالس عمال منتخبة ديموقراطيا.

 

يرتكز كل ما طوره ماركس ولينين من نقد لحدود الديموقراطية البرجوازية على واقع أن الملكية الخاصة والاستغلال الرأسمالي (أي التفاوت الاقتصادي والاجتماعي) المرتبطين ببنية المجتمع البورجوازي الطبقية الخاصة (تذرير واستلاب الطبقة العاملة – تشريع مدافع عن الملكية الخاصة – وظيفة جهاز القمع، الخ) يؤديان حتى بأكثر الأنظمة البورجوازية ديموقراطية إلى تقييد عنيف للتطبيق العملي للحقوق الديموقراطية وللإمكان العملي لانتفاع السواد الأعظم من الجماهير الكادحة بالحريات الديموقراطية. بيد أن الخلاصة المنطقية النابعة من هذا النقد هي وجوب أن تكون الديموقراطية العمالية أرقى من الديموقراطية البورجوازية، ليس فقط بامتدادها إلى المجال الاقتصادي والاجتماعي (الوجود المأمون –حق الشغل والتربية المجانية، الخ) بل أيضا بتوسيع الحقوق الديموقراطية التي يستفيد منها العمال وكل الفئات الكادحة في المجال السياسي والاجتماعي.

 

إن منح احتكار المطابع والراديو والتلفزيون وباقي وسائل الإعلام الجماهيري وقاعات الاجتماع، الخ لحزب واحد أو لما يدعى "المنظمات الجماهيرية" أو "الجمعيات المهنية" (مثل جمعيات الكتاب) التي يتحكم فيها حصرا هذا الحزب، يعني واقعيا تقييدا وليس توسيعا للحقوق الديموقراطية للبروليتاريا مقارنة بما كانت تستفيد منه في ظل الديموقراطية البورجوازية. إن حق العمال، ومن ضمنهم الذين يعارضون الحكومة، في استعمال الوسائل المادية لممارسة الحريات الديموقراطية (حرية الصحافة والتجمع والتظاهر والإضراب، الخ) أساسي لتأمين هذا التوسيع.

 

لذا لا يتطابق توسيع حريات العمال الديموقراطية إلى أفضل مما انتفعوا به في شروط الديموقراطية البورجوازية مع تقييد حق تكوين جماعات وتيارات وأحزاب سياسية على قواعد برنامجية أو أيديولوجية.

 

وفضلا على هذا سيكتسي النشاط الذاتي للجماهير الكادحة والتقرير الذاتي لمصيرها في ضل ديكتاتورية البروليتاريا مظاهر جديدة عديدة، وسيتسع مفهوم "النشاط السياسي" و"الأحزاب السياسية" و"البرامج السياسية" و"الحقوق الديموقراطية" ليتجاوز ما يميز الحياة السياسية في ظل الديموقراطية البورجوازية. ولا ينطبق هذا على ازدهار أشكال متقدمة لديمقراطية المجالس (مؤتمرات المجالس) ولتجليات متنامية للديموقراطية المباشرة فحسب، بل يمكن استعمال أدوات سياسية كالاستفتاء في قضايا خاصة لتتمكن الجماهير من البت المباشر حول جملة من قضايا التوجيه السياسي الرئيسية. بل إن مضمون "السياسة" نفسه سيخضع للتحويل.

 

إن قانون القيمة –أي القوانين الاقتصادية الموضوعية العامة باستقلال عن إرادة البشر- هو الذي يضبط أساسا الحياة الاقتصادية في نمط الإنتاج الرأسمالي وحتى في أشكال الإنتاج البضاعي ما قبل الرأسمالية. وتستتبع الثورة الاشتراكية إمكان قفزة هائلة إلى الأمام نحو تنظيم واع لمصير البشرية الاقتصادي والاجتماعي عوض ضبط أعمى وفوضوي. ومع أنها لن تكتسي شكلا كاملا ومتناسقا إلا بحلول مجتمع اشتراكي على المستوى العالمي، ستبدأ هذه السيرورة مع التخطيط الواعي للاقتصاد المشرّك خلال مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية أي فترة ديكتاتورية البروليتاريا. وإن تعذر استبعاد كلي لسطوة قانون القيمة إبان تلك المرحلة فإن تجاوز هيمنته شرط لتخطيط الاقتصاد.

 

يعني التخطيط توزيع الموارد الاقتصادية حسب الأسبقية المحددة اجتماعيا، بدل توزيعها حسب قوى السوق العمياء وقانون الربح. لكن من سيحدد هذه الأسبقيات المتعلقة برفاه عشرات ومئات ملايين البشر؟

 

لا يوجد أساسا غير أواليتين من شأنهما أن تحلا محل قانون القيمة: إما اختيارات بيروقراطية مفروضة من فوق على جماهير المنتجين/المستهلكين (مهما كان مصدرها، بدءا بنزعة أبوية تكنوقراطية مستنيرة وصولا إلى استبداد تعسفي شديد من طراز ستالين) أو اختيارات تقوم بها جماهير المنتجين نفسها عبر أوالية سلطة عمالية ممركزة ديموقراطيا أي بفضل اشتغال الديموقراطية الاشتراكية. هكذا سيغدو المضمون الأساسي للنقاشات والصراعات السياسية وللديموقراطية الاشتراكية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا.

 

أتثبت التجربة أن الأوالية الأولى (اختيارات مفروضة بيروقراطيا) غير فعالة بتاتا وتسبب تبذيرات ضخمة. ولا ينتج هذا عن التبذير المباشر للموارد المادية والقدرات الإنتاجية المترتب عنه وعن ما يسبب من تصدعات دائمة للخطة فحسب، بل ينجم أيضا وخصوصا عن ما يستتبع من خنق دائم لطاقة العمال الخلاقة والمنتجة. هكذا يؤدي كل من التحليل النظري والمعطيات التجريبية إلى خلاصة مشتركة: يمكن للأوالية الثانية (اختيارات جماهير المنتجين) ويجب عليها أن تقلص بشدة تلك التبذيرات. إنها، في كل حال، الأوالية الوحيدة التي تتيح انتقالا تدريجيا نحو هدف ديكتاتورية البروليتاريا: مجموعة اشتراكية دون طبقات من منتجين/مستهلكين يسيرون أنفسهم ذاتيا.

 

لكن التجربة برهنت على استحالة تحكم آلية السلطة العمالية، الممركزة ديموقراطيا في نظام المجالس العمالية، في التناقضات الاقتصادية والاجتماعية لبناء الاشتراكية دون وجود أدوات مستقلة عن جهاز الدولة السوفياتي تقوم بدور ثقل موازن. وفي هذا الصدد، يمثل وجود نقابات مستقلة وتشريع عمل ضامن لحق الإضراب عنصران حاسمان لضمان الدفاع عن حاجات العمال ومستوى عيشهم بوجه ما تتخذ المجالس العمالية من قرارات، لاسيما بوجه كل عسف بيروقراطي من لدن أجهزة التسيير. ويتعلق الأمر هنا أيضا، مثلما دلت تجربة هنغاريا عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968 وبولونيا عام 1980، بانشغال أساسي لدى البروليتاريا التي عاشت تجربة الديكتاتورية البيروقراطية. ومع أن مبدأ الماركسيين الثوريين هو تنظيم الطبقة العاملة في نقابة ديموقراطية واحدة، فإنه لا يمكن رفض التعددية النقابية. ويمثل عدم الجمع بين مسؤوليات القيادة المركزية في الحزب وفي نقابة عنصرا من هذا الاستقلال النقابي.

 

إن بناء مجتمع اشتراكي لا طبقي هو أيضا سيرورة تحويل هائلة لكافة مظاهر الحياة الاجتماعية. إذ أنه لن يستطيع تغييرا دائما لعلاقات الإنتاج ولنمط التوزيع ولسيرورة العمل ولأشكال تسيير الاقتصاد والمجتمع وللأخلاق وللعادات ولأنماط التفكير فحسب، بل أيضا إعادة بناء عامة للوسط الحضري وثورة شاملة في نظام التعليم وإعادة التوازن البيئي والدفاع عنه وابتكارات تكنولوجية للحفاظ على موارد طبيعية نادرة، الخ.

 

لغاية الآن كانت أرقى مكاسب الثقافة ملكا للطبقات السائدة، مع منح امتيازات خاصة للأنتليجنسيا. ستختفي هذه الأنتليجنسيا تدريجيا بقدر ما تتملك الجماهير كل الإرث الثقافي للماضي وتشرع في خلق ثقافة المجتمع اللا طبقي. بهذه الطريقة سيختفي التمييز بين العمل "اليدوي" والعمل "الفكري" ويمكن لكل فرد أن ينمي بحرية كل قدراته ومواهبه.

 

إن كل هذه الجهود، التي لا حلول مسبقة لها، ستحدث نقاشات وصراعات إيديولوجية كبيرة. وستقوم برامج مختلفة تتناول هذه القضايا بدور هام جدا. كل تقييد لهذه النقاشات ولهذه الحركات، بذريعة أن هذا البرنامج أو ذاك يعكس "موضوعيا" ضغط أم مصالح البورجوازية أو البورجوازية الصغيرة أو حتى أنه "سيؤدي إلى إعادة الرأسمالية" إن "جرى تطبيقه حتى النهاية"، سوف يعوق انبثاق إجماع حول أنجع الحلول من وجهة نظر بناء الاشتراكية أي من وجهة نظر مصالح البروليتاريا الطبقية بمجملها والتي تختلف عن المصالح القطاعية.

 

يجب التأكيد أن صراعات اجتماعية ستتواصل خلال سيرورة بناء مجتمع لا طبقي ضد الأمراض الاجتماعية الناشئة في المجتمع الطبقي والتي لا تختفي آليا مع إلغاء الاستغلال الرأسمالي والعمل المأجور. ويمثل اضطهاد النساء و اضطهاد الأقليات القومية والتمييز ضد المثلية الجنسية و اضطهاد و استيلاب الشباب نماذج مثالية من هكذا مشاكل التي يتعذر اختزالها في "نضال البروليتاريا الطبقي ضد البورجوازية" سوى بإعادة النظر في التعريف الماركسي المادي لمقولات "البروليتاريا" و"البورجوازية" مثلما فعلت مختلف التيارات الماوية واليسارية المتطرفة.

 

لذا تستتبع الحرية السياسية في الديموقراطية العمالية حرية تنظيم وعمل حركات مستقلة لتحرر النساء وتحرر الأقليات القومية والشباب أي حركات أكبر اتساعا من الطبقة العاملة بمدلولها العلمي. وسيتوجب على الحزب الثوري أن يكسب القيادة السياسية ضمن هذه الحركات المستقلة ويلحق هزيمة إيديولوجية بمختلف التيارات الطوباوية أو الرجعية، لا بوسائل إدارية أو قمعية، بل بالعكس بحفز أوسع ديموقراطية جماهيرية ممكنة وبدعم لا يشوبه تحفظ لحق كل التيارات في الدفاع عن آرائها وبرامجها أمام أنظار المجتمع برمته.

 

ومن جهة أخرى يستتبع الشكل الخاص لسلطة الدولة البروليتارية تركيبا ديالكتيكيا للمركزية واللامركزية. ويتجلى اضمحلال الدولة، الذي يجب أن ينطبق منذ بداية ديكتاتورية البروليتاريا، في سيرورة تحويل تدريجي لحق التسيير في قطاعات نشاط اجتماعي متنامية الاتساع (نظام الصحة، نظام التعليم، نظام النقل الجماعي، نظام الاتصالات، الخ) دوليا وقوميا وجهويا ومحليا(البلديات) إلى أيدي أجهزة تسيير ذاتي. ويكتفي المؤتمر المركزي لمجالس العمال (أي البروليتاريا بما هي طبقة) باتخاذ القرار، وفق أغلبية الأصوات، في قسط المواد المادية والبشرية المتوافرة لدى المجتمع برمته والتي ستخصص لكل من هذه القطاعات. ويستتبع هذا نقاشات وصراعات سياسية لا يمكن اختزالها في "مقاييس طبقية" تبسيطية وميكانيكية.

 

وأخيرا لا يمكن لمشاركة ملايين الناس في بناء مجتمع لا طبقي، بالتسيير الفعلي على مختلف المستويات وليس فقط باقتراع متفاوت السلبية، أن تنحصر، على نحو عمالوي، في "العمال المنخرطين في الإنتاج" وحدهم أو على مستوى المنشآت بمفردها. أكد لينين أن الأغلبية الواسعة للسكان يجب أن تساهم مباشرة في إدارة الدولة العمالية. وهذا يعني أن مجالس العمال، التي ستؤسس عليها ديكتاتورية البروليتاريا، لن تكون مجرد لجان مصنع بل أدوات تنظيم ذاتي للجماهير في كافة مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية بما فيها طبعا المصانع ووحدات التوزيع والمستشفيات والمدارس ومراكز الاتصالات والنقل والأحياء (وحدات ترابية). هذا لازم كي تندمج في البروليتاريا الواعية والنشيطة شرائحها الأكثر تشتتا، وفي الغالب الأكثر فقرا والأكثر عرضة للاضطهاد، كالنساء والقوميات المضطهدة والشباب وعمال المنشآت الصغيرة والمتقاعدين، الخ. وهذا لازم أيضا لتصليب تحالف الطبقة العاملة مع البورجوازية الصغيرة الكادحة، هذا التحالف حاسم للظفر بالسلطة والحفاظ عليها ولتقليص الأكلاف الاجتماعية لثورة ظافرة ولبناء الاشتراكية.

 

تتمثل إحدى الضمانات المؤسسية لنمو الديموقراطية الاشتراكية في إرساء علاقات سليمة بين أدوات هذه الديموقراطية وأجهزة إدارة الدولة على كاف المستويات وفي كل المجالات: السياسية والثقافية والعلمية والعسكرية، الخ. تستحيل الديموقراطية الاشتراكية بدون تحديد صارم لمجال عمل هذه الأجهزة وبدون تقليص واضح لصلاحياتها إلى الحد الأدنى الضروري، وبدون خضوعها الكلي لأدوات الديموقراطية الاشتراكية (المجالس). ويجب أن يكون بوسع المجالس أن تقرر بكل سيادة في الاختيارات الاستراتيجية والتكتيكية التي هي من اختصاصها، وعلى الأجهزة الإدارية أن تتكلف بتنفيذ القرارات لا غير.

 

ويجب اختيار المسؤولين الإداريين طبقا لمقاييس تقنية للتأهيل والتجربة المهنيين ولا يجب تعيينهم من لدن سلاليم الإدارة الأعلى بل من لدن المجالس المطابقة والتي بإمكانها دوما أن تعزلهم.

 

3) صراع الطبقات في ظل الرأسمالية والنضال لأجل الحريات الديموقراطية و انبثاق ديكتاتورية البروليتاريا:

تستعمل الطبقة السائدة كل ما لديها من وسائل إيديولوجية لمماثلة المؤسسات البرلمانية البورجوازية مع الحريات الديموقراطية. ويسعى الأسياد الرأسماليون، خاصة بأوروبا الغربية واليابان وأستراليا مثلا، إلى الظهور كمدافعين عن الانشغالات الديموقراطية للجماهير العمالية والشعبية، وهي انشغالات عززتها التجارب السلبية للفاشية و الستالينية.

 

يكمن أحد الشروط الأساسية لكسب الجماهير للثورة الاشتراكية ولديكتاتورية البروليتاريا في الإجابة على المطامح الديموقراطية للجماهير والتعبير عنها على نحو ملائم وبالتالي مواجهة جهود الإصلاحيين الدائمة لتملك تلك المطامح وتوجيهها نحو المؤسسات البرلمانية البورجوازية.

 

كل ما تتمتع به الجماهير من حقوق ديموقراطية في ظل الرأسمالية –من حق الكلام إلى حق تنظيم أحزاب ونقابات عمالية إلى الاقتراع العام وإلى الإجهاض الحر- هي مكاسب انتزعنها نضالات جماهيرية. ويناضل الماركسيون الثوريون لأجل أوسع الحقوق الديموقراطية الممكنة في ظل الرأسمالية. فبقدر اتساع هذه الحريات تكبر إمكانات نضال العمال وحلفائهم لأجل مصالحهم وتحسين موازين القوى بين الطبقات لصالح البروليتاريا بالتالي خوض المعركة النهائية ضد الرأسماليين في أفضل الشروط.

 

إذن تستتبع مصلحة العمال الطبقية النضال ضد الرجعية البورجوازية دفاعا عن كل مكسب جماهيري، بما فيه الحريات الديموقراطية. وقد برهن التاريخ أن الطبقة العاملة هي الطبقة الوحيدة القادرة على خوض هذا النضال حتى النهاية، وأن الجبهة العمالية الوحيدة هي أفضل أداة لتنظيم هكذا معركة بنجاح ضد تهديد الديكتاتوريات الفاشية والعسكرية. كما أننا، في النضال ضد الرجعية الرأسمالية، لا نثق بأية حال بالدولة البورجوازية أو بإحدى مؤسساتها. إذ أن تقليصات للحقوق الديموقراطية من طرف الدولة البورجوازية قد تستعمل ضد الطبقة العاملة وخاصة ضد جناحها الثوري. ولا يمكن وقف الفاشية أو أي محاولة أخرى لفرض نظام سلطوي إلا بحركات جماهيرية للطبقة العاملة وحلفائها في إطار جبهة وحيدة. إن الرأسمالية الآفلة تولد الرجعية. إن مدى ما تتمتع به الجماهير من حريات وحقوق ديموقراطية في لحظة معينة وفي بلد معين، إنما تحدده موازين القوى بين الطبقات. ونظرا للتقاطب الحاد بين الطبقات يتجه الميل التاريخي العام في الحقبة الإمبريالية نحو تقليص الحريات الديموقراطية للجماهير. ويصح هذا أكثر عندما تشتد الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية بطبقة بورجوازية ما وتنقص أكثر قاعدتها ومدخراتها المادية. وهو ما يتجلى اليوم بوضوح بالغ في العديد من الديكتاتوريات الشرسة بالبلدان شبه المستعمرة.

 

إنها إذن مهمة أساسية أن ينتزع الماركسيون الثوريون قيادة الجماهير من أيدي الإصلاحيين بما هم "ممثلين" لمطامح العمال الديموقراطية. وجلي أن التوضيح البرنامجي، وخاصة النضال ضد الأوهام الإصلاحية والبرلمانية، غير كاف في هذا الصدد مهما كانت فضلا عن ذلك أهميته. فالجماهير تتعلم قبل كل شيء من تجربتها العملية اليومية. ومن هنا تنبع أهمية المشاركة معها في هذه التجارب و استخلاص نتائجها الصائبة.

 

بقدر تفاقم صراع الطبقات سيتزايد اعتراض العمال على سلطة وامتيازات البرجوازية على كافة المستويات، وبواسطة منظماتهم الخاصة –لجان نقابية ولجان مصانع وهيئات رقابة عمالية ومجالس عمالية بحصر المعنى- سيشرعون على نحو متنام في اتخاذ قرارات على المستوى الاقتصادي والسياسي. وبهذا سيكسبون أكثر فأكثر الثقة بقواهم الذاتية قصد إطاحة الدولة البورجوازية. وعبر نفس السيرورة، ولأجل خوض نضالهم بكيفية فعالة أكثر وبأوسع مشاركة، سيفهم العمال أيضا ضرورة اختيار أكثر أشكال التنظيم ديموقراطية. وستكسب الجماهير، من خلال تجربة النضال هذه وعبر المشاركة في منظماتها المبنية ديموقراطيا، حرية عمل أكثر وحرية أوسع مما سبق لها في الإطار المؤسسي للديموقراطية البرلمانية البورجوازية. وبذلك ستتعلم ما للديموقراطية البروليتاريا من قيمة لا تعوض. هذه هي الحلقة التي لا محيد عنها في سلسلة الأحداث التي تقود من الهيمنة الرأسمالية إلى ظفر البروليتاريا بالسلطة. ويمثل التنظيم الذاتي للبروليتاريا خلال النضال الطبقي في ظل الرأسمالية (تجمعات ديموقراطية للمضربين ولجان إضراب منتخبة ديموقراطيا وصولا إلى نظام ازدواجية سلطة معمم) أفضل مدرسة للديموقراطية البروليتارية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا.

 

4) حزب واحد أم تعدد الأحزاب؟

ليس ثمة انبثاق كامل وشامل للحقوق والحريات الديموقراطية للجماهير الكادحة في ظل ديكتاتورية البروليتاريا بدون حرية كاملة في تكوين مجموعات وتيارات وأحزاب سياسية. وسيعين العمال والفلاحين الفقراء أنفسهم باقتراعهم الحر، الأحزاب التي يرغبون في أن تتمثل في نظام السوفييتات. وبهذا المعنى تمثل حرية تنظيم المجموعات والتيارات والأحزاب السياسية شرطا مسبقا لممارسة الطبقة العاملة للسلطة. "لا يمكن تصور ديموقراطية السوفييتات دون إضفاء الطابع الشرعي على الأحزاب السوفييتية" (البرنامج الانتقالي للأممية الرابعة)

 

بدون هكذا حرية، غير محدودة بالتضييقات الإيديولوجية، لا يمكن وجود مجالس عمال منتخبة بالفعل وبكامل الحرية ولا ممارسة فعلية للسلطة من قبل مجالس العمال تلك.

 

لن تكون تضييقات هذه الحرية تضييقا لحقوق العدو الطبقي السياسية، بل تضييقا لحقوق البروليتاريا السياسية. وتمثل هذه الحرية، من الناحية الاجتماعية، شرطا مسبقا لتمكن الطبقة العاملة جماعيا، بما هي طبقة، من بلوغ وجهة نظر مشتركة، أو على الأقل حائزة على الأغلبية حول القضايا التكتيكية والاستراتيجية العديدة وحتى النظرية (البرنامجية) النابعة من مهمة بناء مجتمع لا طبقي بقيادة جماهير هي تقليديا مضطهدة ومستغلة ومسحوقة. فبدون هذه الحرية في تنظيم مجموعات وتيارات وأحزاب سياسية تنعدم كل ديموقراطية اشتراكية حقيقية.

 

يرفض الماركسيون الثوريون الانحراف الاستبدالي و النخبوي والأبوي والبيروقراطي عن الماركسية الذي يرى في الثورة الاشتراكية والظفر بالسلطة وممارسة السلطة في ظل ديكتاتورية البروليتاريا مهمة للحزب الثوري الذي يعمل "باسم" الطبقة. يتوجب على ديكتاتورية البروليتاريا أن تدل على ما تعبر عنه الكلمات نفسها وما صاغه صراحة التقليد النظري لماركس ولينين، أي سلطة الطبقة العاملة بما هي طبقة ("منتجين متشاركين"). لن يكون تحرر العمال إلا من صنع العمال أنفسهم، وليس نتاج بروليتاريا تجري تربيتها من طرف إداريين ثوريين عطوفين ومستنيرين. جلي إذن أن الدور القيادي للحزب الثوري، سواء عند الظفر بالسلطة أو بناء مجتمع لا طبقي، لا يمكن أن يكمن سوى في الظفر بالهيمنة السياسية داخل طبقة عاملة منخرطة أكثر فأكثر في النشاط المستقل. يتعلق الأمر بالنسبة لهذا الحزب بكسب الأغلبية داخل الطبقة لصالح اقتراحاته بوسائل سياسية وليس إدارية أو قمعية.

 

تمارس سلطة الدولة في ديكتاتورية البروليتاريا، في شكلها المكتمل، من طرف مجالس عمال منتخبة ديموقراطيا. ويناضل الحزب الثوري من أجل خط سياسي صائب ولأجل القيادة السياسية داخل هذه المجالس دون أن يحل محلها. يبقى الحزب والدولة كيانات مفصولة بدقة ومتباينة.

 

بيد أنه لا وجود لمجالس عمالية ذات تمثيلية فعلية ومنتخبة ديموقراطيا مع مصادرة حق الجماهير في انتخاب من تختار دون تمييزات ودون شروط تضييق مسبقة متعلقة بالقناعات الإيديولوجية والسياسية للمندوبين المنتخبين. (لا ينطبق هذا على أحزاب منخرطة في النضال المسلح ضد الدولة العمالية أي في ظروف الحرب الأهلية). كما يستحيل اشتغال مجالس العمال ديموقراطيا إلا بوجود حق كل المندوبين المنتخبين في تكوين مجموعات وتيارات أو أحزاب واستعمال وسائل الإعلام الجماهيري والدفاع عن برنامجهم المتباينة أمام الجماهير وإخضاعها لنقاشات عمومية ولامتحان التجربة. وبشكل أعم، يحد كل تقليص للتنظيم من حرية البروليتاريا في ممارسة السلطة، أي أنه يحد من الديموقراطية العمالية، وهذا ما يناقض مصالح الطبقة العاملة التاريخية وحاجات توطيد سلطة العمال ومصالح الثورة العالمية وبناء الاشتراكية.

 

لا تحتوي النظرية الماركسية في الدولة، بأي وجه كان، المفهوم المنطوي على أن نظام حزب واحد شرط مسبق ضروري أو خاصية لسلطة العمال أو للدولة العمالية أو لديكتاتورية البروليتاريا. لم يرد أي دفاع عن نظام الحزب الواحد أبدا في أي من الكتابات النظرية سواء لماركس أو انجلس أو لينين أو تروتسكي، ولا في أي وثيقة برنامجية للأممية الثالثة في ظل لينين. أما ما وضع لاحقا من نظريات، مثل التصور الستاليني الفظ الذي يرى أن الطبقات الاجتماعية تمثلت دوما عبر التاريخ بحزب واحد، فهي زائفة تاريخيا، ولا تفيد سوى لمدح احتكار السلطة السياسية المغتصبة من طرف البيروقراطية السوفياتية وخلفائها الإيديولوجيين بباقي البلدان العمالية المبقرطة، وهو احتكار مرتكز على تجريد الطبقة العاملة سياسيا. لقد دل التاريخ، بما فيه الانتفاضات في جمهورية الصين الشعبية وبولونيا ويوغوسلافيا ونيكاراغوا و غرا نادا، على أن تروتسكي محق حين قال: "إن الطبقات غير متجانسة وممزقة بالتناحرات الداخلية ولا تبلغ أهدافها المشتركة إلا بصراع الاتجاهات والتجمعات والأحزاب. ليس بإمكاننا أن نجد في كل التاريخ السياسي حزبا واحدا يمثل طبقة واحدة، هذا طبعا إذا كنا لا نوافق على اعتبار الرواية البوليسية قصة واقعية" (الثورة المعذورة).

 

هذا صحيح بالنسبة للبورجوازية في ظل الإقطاع وللطبقة العاملة في ظل الرأسمالية ويبقى صحيحا بالنسبة للطبقة العاملة في ظل ديكتاتورية البروليتاريا وخلال سيرورة بناء الاشتراكية.

 

إذا قلنا إنه لا يمكن أن تحظى بالشرعية سوى الأحزاب والمنظمات التي ليس لها برنامج وإيديولوجية برجوازية (وبورجوازية صغيرة) ولا تقوم بتحريض أو دعاوة ضد الاشتراكية والنظام السوفييتي، فأين سنضع خط الفصل؟

 

هل سيجري منع أحزاب أغلب أعضائها من أصول عمالية لكنها ذات إيديولوجية بورجوازية؟ كيف يمكن التوفيق بين هذا الموقف والانتخاب الحر لمجالس العمال؟ ما هو الحد الفاصل بين "البرنامج البورجوازي" و"الإيديولوجية الإصلاحية"؟ هل يجب إذن منع الأحزاب الإصلاحية؟ هل سيتم إلغاء الاشتراكية-الديموقراطية؟

 

من الحتمي أن يستمر مثل هذا التأثير الإصلاحي مدة طويلة داخل الطبقة العاملة ببلدان عديدة ولو على قاعدة التقليد التاريخي. ولن يحد القمع الإداري من هذا الاستمرار بل على العكس سيعززه. إن أفضل وسيلة لمحاربة الأوهام والأفكار الإصلاحية هي تلازم نضال إيديولوجي مع انبثاق الشروط المادية المساعدة على اختفاء مثل هذه الأوهام. بيد أن هذا النضال الإيديولوجي يفقد كثيرا من فعاليته في شروط القمع الإداري وغياب نقاش حر وتبادل الأفكار.

 

إذا حرض الحزب الثوري على منع الاشتراكية الديموقراطية وتشكيلات إصلاحية أخرى، فسيضاعف ألف مرة صعوبة الحفاظ على حرية تكوين التيارات والتسامح مع التكتلات داخل صفوفه نفسها، لأن التناحر السياسي داخل الطبقة العاملة سيميل حتما حينئذ إلى الانعكاس داخل الحزب الواحد.

 

إذن ليس الخيار الحقيقي هو: إما حرية ذوي البرنامج الاشتراكي الحقيقي أو حرية كافة الأحزاب السياسية. الخيار الحقيقي هو التالي: إما الديموقراطية العمالية مع حق الجماهير في انتخاب من تختار وحرية التنظيم السياسي لكل من يحترم فعلا الدستور السوفييتي (بما في ذلك أناس ذوو إيديولوجيات أو برنامج بورجوازي أو بورجوازي صغير) وإما تضيق صارم للحقوق السياسية للطبقة العاملة نفسها مع كل العواقب المحتملة. يؤدي نظام تضييق وجود الأحزاب السياسية إلى نظام تضييق للديموقراطية العمالية وإلى الحد من الحرية داخل الحزب الثوري الطليعي نفسه.

 

إننا إذ نؤكد شرعية كل الأحزاب السوفييتية، أي التي تحترم فعلا الدستور السوفييتي، لا نبخس قدر البلبلة والأخطاء وحتى الهزائم الجزئية التي قد تنجم وستنجم عن قيام تلك الأحزاب بنشر برامج خاطئة وتأثيرات طبقية أجنبية عن البروليتاريا.

 

كما لا يستتبع ذلك بتاتا أي دعوة منا للعمال إلى تكوين أحزاب على قاعدة ما نعتبره برامج وخطط سياسية خاطئة. إننا نقول فقط إن الإلغاء الإداري المصطنع لهذه الأحزاب –وهو مصطنع ما دامت تعبر عن تيارات رأي فعلية داخل الجماهير حتى بعد إلغائها- لن يحد من هكذا مخاطر بل سيفاقمها. إن انسجام الطبقة العاملة السياسي والإيديولوجي والثقافي، الذي سيؤهل جماهير العمال لاستبدال آلة الدولة بمجموعة من مواطنين مسيرين ذاتيا، أي لاستكمال بناء الاشتراكية واضمحلال الدولة، يمثل مهمة تاريخية جسيمة. وهي ليست وقفا على شروط مادية مسبقة فحسب، بل يتطلب تمرنا سياسيا خاصا: "إن وجود أناس نقديين ومعارضين ومنشقين و مستائين ورجعيين أمر يبعث الحياة والحيوية في الثورة. إن المواجهة و السجال ينميان عضلات الشعب الإيديولوجية. إنهما رياضة دائمة وترياق ضد تصلب المفاصل وضد السلبية." توماس بورغ يحدثنا. جريدة غرانما –الطبعة الفرنسية 07 أكتوبر 1984).

 

وكما أعلن فيدل كاسترو في سجاله ضد اسكالنتي: "يجب أن تكون الثورة مدرسة فكر دون عوائق". ورغم أن الممارسة لم تطابق دوما هذه الأقوال، فإنها، أي الأقوال، تمثل الاستمرار البرنامجي للماركسية في هذا المضمار والذي يجب الدفاع عنه ضد الجميع. أكدت التجربة التاريخية أن انعدام شروط ديموقراطية عمالية فعلية لا يمكن إلا أن يؤخر أو حتى يقلب سيرورة تمرن الجماهير على الإدارة الذاتية مثلما كان الحال بجلاء في الإتحاد السوفياتي. كما دلت التجربة التاريخية على استحالة أي ديموقراطية عمالية دون تعددية سياسية.

 

5) ماذا تمثل الأحزاب السياسية؟

يرفض الماركسيون الثوريون كل الأوهام العفوية بصدد قدرة البروليتاريا على حل المشاكل الإستراتيجية والتكتيكية، التي تثيرها ضرورة إطاحة الرأسمالية والدولة البورجوازية والظفر بسلطة الدولة وبناء الاشتراكية، بواسطة أعمال عفوية جماهيرية، دون طليعة واعية وحزب ثوري طليعي منظم مرتكز على برنامج ثوري اجتاز امتحان التجربة التاريخية وعلى كوادر ثقفها هذا البرنامج وصلبتها تجربة نضال طبقي طويلة. ترى حجج من أصل فوضوي، اقتبستها أيضا تيارات يسارية متطرفة "مجالسية"، أن الأحزاب السياسية هي بطبيعتها الخاصة تشكيلات "ليبرالية بورجوازية" غريبة عن البروليتاريا ولن يكون لها مكان في المجالس العمالية نظرا لما يلازمها من جنوح إلى اغتصاب سلطة الطبقة العاملة السياسية. هذه الحجج خاطئة نظريا ومضرة وخطيرة سياسيا، فليس صحيحا أن تجمعات وتيارات وأحزاب سياسية لم تظهر إلا مع صعود البورجوازية الحديثة. فهي بالمعنى الأساسي (وليس الشكلي المحض) موغلة في القدم. فقد برزت مع ظهور أشكال حكومية يقوم فيها عدد مرتفع نسبيا (بخلاف المجموعات القروية أو التجمعات القبلية) بالمشاركة بشكل أو بآخر في ممارسة السلطة السياسية (مثلا الديموقراطيات القديمة)، أي أنها تطابق وجود صراعات اجتماعية مرتكزة على مصالح مادية متعارضة. ولا تنحصر هذه الأخيرة حتما في صراع مصالح بين طبقات متناحرة، بل يمكن أن تعبر أيضا عن صراع مصالح داخل طبقة اجتماعية معينة.

 

إن أحزابا سياسية بهذا المعنى الفعلي (وليس الشكلي) هي طبعا ظواهر تاريخية تغير مضمونها عبر الحقب كما حدث خلال الثورات الديموقراطية البرجوازية الكبرى في الماضي (خاصة خلال الثورة الفرنسية لكن ليس وحدها). وسيكون للثورة البروليتارية أثر شبيه، فستبقى الأحزاب السياسية طالما بقيت صراعات مصالح مادية وتوجه اجتماعي أي إلى غاية استكمال بناء مجتمع اشتراكي لا طبقي.

 

يمكن التنبؤ بكل يقين أن تأخذ الأحزاب السياسية، في ظل ديموقراطية عمالية حقيقية، مضمونا أغنى وأوسع بكثير وتقود نضالات سياسية جماهيرية بمشاركة تفوق ما شهدته أكثر أشكال الديموقراطية البورجوازية تقدما.

 

في الواقع ما أن تتجاوز القرارات السياسية عددا ضئيلا من المسائل الروتينية، الممكن مناقشتها وحسمها من طرف جماعة صغيرة، حتى يستتبع كل شكل للديموقراطية ضرورة خيارات مبنية ومتماسكة حول عدد كبير من المسائل المترابطة، أي اختيار بين خطوط سياسية وأرضيات وبرامج بديلة تعبر، في آخر التحليل، عن صراعات مصالح بين طبقات أو شرائح اجتماعية متباينة. هذا ما تمثله الأحزاب.

 

إن غياب توجهات إجمالية بديلة لا يوسع حرية التعبير و الإختيار لعدد كبير من الأفراد، بل يجعل مستحيلا كل حكم بواسطة تجمعات أو مجالس عمالية. لا يمكن أن يقوم عشرة آلاف شخص بالإقتراع حول 500 موقف متباين. إن تفادي سقوط السلطة بين أيدي ديماغوجيين أو جماعات ضغط سرية أو طغمات يقتضي إتاحة مواجهة حرة بين عدد محدود من الخيارات المبنية والمتماسكة أي بين برامج سياسية أو أحزاب سياسية دون أدنى احتكار أو منع. وهذا ما سيجعل الديموقراطية العمالية ذات مغزى وفعالية في آن معا.

 

إن الموقف الفوضوي و"المجالسي" المعارض لبناء أحزاب سياسية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا وخلال سيرورة بناء الاشتراكية هو إحدى أمرين:

- إما أمنية جوفاء (أي أمل امتناع الجماهير عن تكوين أو دعم مجموعات وتيارات وأحزاب ذات خطوط سياسية وبرامج مختلفة) وفي هذه الحالة يصبح الموقف طوباويا لأن ذلك الامتناع لن يحدث.

- إما محاولة لمنع أو قمع جهود أولئك العمال الذين يريدون القيام بعمل سياسي على قاعدة تعددية، وفي هذه الحالة يخدم الموقف موضوعيا سيرورة الاحتكار البيروقراطي للسلطة، أي بالضبط عكس ما يريده الفوضويون.

 

وقد دافعت تجمعات وسطية ويسارية متطرفة عديدة عن إستدلال شبيه يرى أن تجربة البروليتاريا السوفياتية من الممارسة المباشرة للسلطة السياسية له جذور في المفهوم اللينيني للتنظيم نفسه، المرتكز على المركزية الديموقراطية. ويرى هؤلاء أن جهود البلاشفة لبناء حزب يقود البروليتاريا إبان الثورة ستفضي لا محالة إلى علاقة أبوية تحكمية وبيروقراطية بين هذا الحزب والجماهير الكادحة، وهو ما سيؤدي بدوره وحتما إلى احتكار الحزب لممارسة السلطة السياسية بعد الثورة الاشتراكية الظافرة.

 

إن هذا الاستدلال لا تاريخي وينبني على تصور مثالي للتاريخ. فمن وجهة نظر ماركسية، أي مادية تاريخية، كَمَنَ السبب الرئيس لمصادرة البروليتاريا السوفياتية سياسيا فيما هو اقتصادي-اجتماعي وليس إيديولوجي أو برنامجي. فالفقر العام وتأخر روسيا وضعف البروليتاريا النسبي عددا وثقافة، كلها عناصر جعلت ممارسة البروليتاريا للسلطة المباشرة أمرا مستحيلا طالما بقيت الثورة معزولة: هذا ما أجمع عليه ليس البلاشفة في 1917-1918 وحسب بل كافة الاتجاهات المنتسبة إلى الماركسية. وأدى الأفول الكارثي لقوى الإنتاج في روسيا (من جراء الحرب الأهلية والتدخل العسكري الإمبريالي وما قام به التقنيون مؤيدو البورجوازية من تخريب، الخ) إلى أوضاع ندرة ساعدت على نمو امتيازات خاصة. وهذه كلها عناصر أفضت إلى إضعاف نوعي للبروليتاريا المتقلصة أصلا. علاوة على أن قطاعات واسعة من الطليعة السياسية للطبقة، أي التي كانت بالضبط أكثر قدرة على محاربة البورجوازية والبيروقراطية، ماتت في الحرب الأهلية أو غادرت المنشآت لتندمج على نحو واسع في الجيش الأحمر أو جهاز الدولة.

 

شهدت بداية السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) انتعاشا اقتصاديا إلا أن البطالة الجماهيرية وما سببته تراجعات وهزائم الثورة العالمية من إحباط دائم غذيا السلبية السياسية وأفولا عاما للنشاط السياسي الجماهيري امتد حتى إلى السوفييتات. هكذا عجزت الطبقة العاملة عن وقف نمو شريحة ذات امتيازات مادية شرعت، بقصد الحفاظ على سلطتها، في تقليص متزايد للحقوق الديموقراطية وانتهت بتدمير السوفييتات والحزب البلشفي نفسه مع استعمال اسمه لأهدافها الخاصة. هذه هي الأسباب الرئيسة لإغتصاب البيروقراطية لممارسة السلطة مباشرة ولتنامي انصهار جهاز الحزب وجهاز الدولة وجهاز المسيرين الاقتصاديين في فئة بيروقراطية ذات امتيازات.

 

بدل تيسير الصعود البيروقراطي عمل لينين و تروتسكي و بلاشفة آخرون والمعارضة اليسارية فيما بعد بكل جهد لمحاربته. وكان ضعف الطليعة البروليتارية، وليس النظرية اللينينية في الحزب، هو سبب إخفاق هذه المعركة. ويمكن اعتبار بعض إجراءات البلاشفة قبل وفاة لينين –مثل منع المؤتمر العاشر للتكتلات مؤقتا- إسهاما في هذا الإضعاف. "أدى منع أحزاب المعارضة إلى منع التكتلات في الحزب وأدى منع التكتلات إلى منع التفكير بغير ما يريده القائد المعصوم عن الخطأ. وأدت وحدة الحزب البوليسية إلى الحصانة البيروقراطية التي غدت بدورها سبب كل أشكال الإحباط والفساد" (تروتسكي "الثورة المعذورة"). لكن هذه أسباب ثانوية. كانت أسباب سيرورة التبقرط الرئيسة موضوعية ومادية، اقتصادية واجتماعية، وتوجد ببنية المجتمع السوفياتي التحتية آنذاك وليس في بنيته الفوقية السياسية ولا سيما في مفهوم خاص للحزب. لم تكن البيروقراطية الستالينية بتاتا نتاجا للبلشفية، بل كان عليها أن تدمر جسديا الحزب البلشفي لتتمكن من إرساء ديكتاتوريتها الشمولية. كان الحزب البلشفي أداة للطبقة العاملة وعدوا للبيروقراطية. وسبق خنق الحزب سياسيا المصادرة السياسية الكاملة للطبقة العاملة.

 

من جهة أخرى، أكدت التجربة التاريخية أنه في حال غياب حزب ثوري يقود الثورة أو حتى يمارس تأثيرا كبيرا داخلها، لا تدوم مجالس العمال أطول مما كان في روسيا، بل على العكس تختفي بسرعة أكبر: ألمانيا 1918 وإسبانيا 1936-1937 دون الحديث عن هنغاريا 1956 أو الشيلي عام 1973، كلها أمثلة جلية في هذا المضمار.

 

6) ضرورة حزب ثوري طليعي

نقص تجانس الطبقة العاملة وتفاوت تطور وعيها الطبقي وتقطع النشاط السياسي والاجتماعي لعديد من مكوناتها، كلها أمور تفترض تنظيما منفصلا لعناصر الطبقة العاملة فائقة الوعي ودائمة النشاط في حزب ثوري طليعي. وهذا صحيح من جهة حاجات النضال الطبقي في ظل الرأسمالية وكذا بعد استيلاء البروليتاريا على السلطة. لا بل إن الدور الذي لا يستبدل لهكذا حزب يزداد في تلك الشروط.

 

يتوجب على الحزب اللينيني الجماهيري أن يقود العمال في جهودهم لممارسة سلطة الدولة وبناء مجتمع جديد حتى إطاحة الرأسمالية عالميا واستكمال بناء المجتمع الاشتراكي اللاطبقي. إن المشاكل المرتبطة بالإختيار بين مختلف وثائر النمو الاقتصادي، وبين تغيرات في تخصيص الموارد الاقتصادية النادرة، وبين الأولويات الممنوحة لنمو مختلف أشكال الاستهلاك الفردي والجماعي، ومشاكل وثائر تقليص التفاوت الاجتماعي، ومشاكل الدفاع عن الدول العمالية بوجه القوى الرأسمالية، ومسألة بناء أممية ثورية جماهيرية لتوسيع الثورة الاشتراكية العالمية، ومشاكل النضال ضد المسبقات والتصورات الرجعية و التفاوتات الفعلية الموروثة عن الماضي، سواء بين الجنسين أو بين فئات الأعمار أو بين القوميات والأعراق، كل هذه المشاكل الأساسية الخاصة بمرحلة الانتقال بين الرأسمالية و الاشتراكية لا يكمن حلها عفويا. إنها تقترض تدخل حزب مسلح ببرنامج ماركسي ثوري.

 

وسيكون دور هذا الحزب، علاوة على ذلك، أساسيا في النضال ضد نمو امتيازات مادية وشرائح بيروقراطية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا. وهو لازم غاية اللزوم بقدر ما يتعلق الأمر بتطبيق برنامج ديموقراطية عمالية اشتراكية ذي طابع راديكالي وثوري. وسيمارس تأثيره ارتكازا على اقتراع المجالس العمالية الحر وعلى ما سيحوز من ثقة سياسية لدى الجماهير الكادحة وليس على وسائل إدارية. يخلق التفاعل الديالكتيكي بين تنظيم العمال الذاتي الحر والديموقراطي والتوضيح والقيادة السياسيين و البرنامجيين للحزب الثوري الطليعي ظروفا مساعدة أكثر للظفر بالسلطة وممارستها الدائمة من طرف الطبقة العاملة نفسها.

 

بهدف تجنب كل شطط في استعمال السلطة من قبل حزب طليعي يمارس دورا قياديا داخل الطبقة العاملة في ظل ديكتاتورية البروليتاريا، تناضل الأممية الرابعة من أجل المبادئ التالية:

 

أ) أوسع ديموقراطية داخلية في الحزب نفسه مع حقوق كاملة ومطلقة في تنظيم الاتجاهات وإمكان نقاشات عمومية بينها قبل مؤتمر الحزب ورفض منع التكتلات.

 

ب) أوسع روابط وتداخل بين الحزب والطبقة العاملة نفسها. لا يمكن لحزب ثوري عمالي طليعي أن يقود الطبقة العاملة بفعالية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا إلا إذا جمع بين الثقة السياسية لغالبية العمال وكسب أغلبية العمال الطليعيين إلى صفوفه.

 

ج) إلغاء صارم لكل امتياز مادي يحوزه أطر أو قادة الحزب، ولا يمكن لأي عضو بالحزب منتخب إلى وظيفة قيادية بالدولة العمالية، مهما كانت الوظيفة، أن يلتقي أجرة تفوق أجرة عامل مؤهل أو أية امتيازات عينية ستفضي إلى هكذا فرق.

 

هـ) عدم ممارسة الحزب الطليعي لأي احتكار سياسي أو إيديولوجي لأنشطة سياسية أو ثقافية. الدفاع عن التعددية.

 

و) الفصل الدقيق بين جهاز الحزب وجهاز الدولة.

 

ز) إدماج الحزب فعلا في أممية ثورية وقبول النقد الأممي الأخوي من منظمات ثورية ببلدان أخرى.

 

لا يجوز للحزب (أو الأحزاب) الموجودة بالسلطة بالدولة (الدول) العمالية أن يتحكم في الأممية.

 

7) لا غنى عن موقف واضح من الديموقراطية الاشتراكية لأجل كسب العمال إلى الثورة الاشتراكية وديكتاتورية البروليتاريا.

يمثل اليوم الدفاع عن برنامج ديموقراطية اشتراكية لا لبس فيه جزءا لا غنى عنه من النضال ضد القيادات الإصلاحية التي تسعى إلى ترسيخ أوهام ديموقراطية بورجوازية بين عمال البلدان الإمبريالية. كما أنه ضروري للنضال ضد الأوهام المؤيدة للرأسمالية و المسبقات المعادية للسوفييتات بين مختلف الشرائح المستاءة والمعارضة بالدول العمالية المبقرطة خلال النضال لأجل الثورة السياسية بهذه البلدان.

 

إن التجربة التاريخية الكارثية للفاشية ولأنظمة ديكتاتورية بورجوازية رجعية أخرى بالبلدان الرأسمالية من جهة، وتجربة الأنظمة البيروقراطية بالصين والاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية وغيرها من جهة أخرى، قد أثارتا لدى الطبقة العاملة بالبلدان الإمبريالية والدول العمالية المبقرطة حذرا شديدا من كل نظام للحزب الواحد ومن كل تقليص للحقوق الديموقراطية بعد إطاحة الرأسمالية.

 

إذا كان الماركسيون الثوريون سيحدثون أدنى انطباع بأن حريات العمال الديموقراطية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا –بما فيه حرية انتقاد الحكومة ووجود أحزاب وصحافة معارضتين- ستكون أقل مما هي في الديموقراطية البورجوازية، فإن النضال لكسر الهيمنة الإيديولوجية لناشري الأوهام البرلمانية في الحركة العمالية سيغدو صعبا للغاية أو حتى محكوما مسبقا بالفشل. إن أي تردد أو لبس تبديه الطليعة الثورية في هذا الصدد ليس من شأنه إلا مساعدة خدام البورجوازية الليبرالية الإصلاحيين على تقسيم البروليتاريا وحرف قطاع هام من الطبقة نحو الدفاع عن مؤسسات الدولة البرجوازية بمبرر ضمان الحريات الديموقراطية.

 

ثمة أنصار حجة مفادها أن كل ما سبق لا ينطبق سوى على البلدان التي يمثل الأجراء أغلبية سكانها النشيطين. صحيح أنه حيثما توجد أغلبية واسعة من صغار منتجي البضائع، تضع هكذا موازين قوى اجتماعية عوائق موضوعية على طريق ازدهار ديموقراطية اشتراكية وتساهم في ظواهر تبقرط الدول العمالية القائمة.

 

بقدر ما ينجذب حاليا عدد متنام من الدول شبه المستعمرة إلى سيرورة تصنيع جزئي، بقدر ما يكون للبروليتاريا فيها منذ اليوم وزن نسبي ضمن السكان النشيطين يفوق ما كان للبروليتاريا الروسية عام 1917 أو الصينية عام 1949. وستكسب هذه البروليتاريا بسرعة، من خلال تجربتها الخاصة في النضال، مستويات وعي وتنظيم ذاتي ستضع على جدول الأعمال إنشاء أجهزة دولة من النمط السوفياتي منذ بداية أزمة ثورية (مثال الشيلي سبق أن أوضح ذلك). بهذا المعنى و بقدر انطباقه لاسيما على الثورة السياسية بالدول العمالية المبقرطة، يمثل برنامج الأممية الرابعة لأجل ديموقراطية مجالس العمال كقاعدة للسلطة البروليتارية، برنامجا كونيا للثورة العالمية يطابق أساسا طبيعة الطبقة العاملة الاجتماعية وحاجاتها التاريخية وطريقة تفكيرها. وهو ليس "ترفا" خاصا بعمال "البلدان الأكثر غنى" رغم أن تطبيقه قد يشهد بعض التقليص في البلدان ذات الوزن العمالي المحدود جدا.

 

على نفس المنوال يجب التمييز نظريا وبوضوح بين مؤسسات الديموقراطية البرلمانية البورجوازية –المزدهرة أساسا بالبلدان الإمبريالية المستفيدة من استغلال مضاعف لملايين فلاحي وعمال البلدان المستعمرة وشبه مستعمرة والتابعة ومن إلغاء العنيف لأبسط حقوقهم الديموقراطية- ومؤسسات الديموقراطية البروليتارية بما فيها أجنتها في المجتمع البورجوازي الناتجة عن النضالات والتضحيات وانتصارات التنظيم الذاتي وارتقاء البروليتاريا نفسها إلى مختلف مستويات الوعي الطبقي. حكم التاريخ على الأولى وستختفي بينما ستتسع الثانية وتنمو على نحو لم يسبق له مثيل خلال الثورة الاشتراكية العالمية وكل مرحلة بناء عالم اشتراكي. ومن الجلي أن الإشتغال السليم للديموقراطية الاشتراكية يفترض تعميم حد أدنى من الثقافة وتصنيع المجتمع. فالظروف الاجتماعية التي تبقي قسما كبيرا من السكان الكادحين أميين ليس من شأنها إلا أن تسهل إنحطاطا بيروقراطيا لأشكال السلطة. وهذا يفسر تأكيد لينين في كتاباته الأخيرة على رفع مستوى الجماهير الثقافي. إن حملات محو الأمية المنجزة في كوبا و نيكاراغوا مثالية في هذا المجال.

 

من جهة أخرى، يمكن في مرحلة أولى ألا تعتمد ديكتاتورية البروليتاريا بالبلدان المتأخرة التمثيل النسبي لمختلف أقسام السكان. فبإمكانها أن تختار صراحة منح امتياز لتمثيل الطبقة العاملة خاصة بالنسبة لتمثيل الفلاحين، كما فعل دستور روسيا لعام 1918.

 

8) لماذا لم ينجز برنامج الديموقراطية الاشتراكية هذا على نحو واسع لحد الآن؟

ليس تعريف تصوراتنا لديكتاتورية البروليتاريا "معياريا". بل هو برنامجي جوهريا. وهو بهذا المعنى، كباقي المواقف البرنامجية الماركسية، ليس سوى تعبيرا واعيا عن ميل تاريخي موضوعي أي عن اندفاع البروليتاريا الغريزي في شروط أزمة ثورية. يؤكد التاريخ بألق أنه، إنطلاقا من كمونة باريس حتى الإنفجارات الثورية للسنوات الأخيرة مرورا بتجارب الثورات الروسية عام 1905 وعام 1917 والثورة الألمانية والنمساوية عامي 1918-1919 والثورة الهنغارية عام 1919 والأزمة الثورية الإيطالية عامي 1919-1920 والثورة الإسبانية عام 1936 والثورة الصينية أعوام 1925-1927 والعديد من الإضرابات العامة في بلدان لا تحصى في كافة القارات بما فيها بلدان مستعمرة وشبه مستعمرة عديدة، أبرز العمال فعلا ميلهم إلى التنظيم الذاتي المعمم بإنشاء مجالس عمالية أو هيئات شبيهة. إننا على قناعة تامة بأن هذا الميل التاريخي، الذي فهمه ماركس ولينين و تروتسكي وروزا لوكسمبورغ بعمق وعبروا عنه برنامجيا، سيزدهر خلال الثورات الحالية والمقبلة أكثر مما في ثورات سابقة.

 

تجري معارضة هذه الملاحظة بكون الثورات الاشتراكية الظافرة أفضت لحد الآن إلى أنظمة سياسية تمارس فيها السلطة أقليات، أي حزب واحد أو حتى الجهاز القائد لهذا الحزب وليس الجماهير الكادحة بمجملها.

 

إننا نرفض كل تصور يرى أن التأخر في إرساء متين ودائم لسلطة مجالس العمال (التي وجدت خلال سنوات بروسيا السوفياتية رغم التزويرات "التاريخية" للبيروقراطية) يعود بنحو ما إلى عجز البروليتاريا الفطري عن ممارسة السلطة السياسية والاقتصادية وإلى ضعفها الملازم، أو إلى ميل حتمي لديها إلى تفويض ممارسة السلطة إلى أقلية ذات امتيازات. أقل ما يمكن أن يقال هو إن هكذا خلاصة سابقة للأوان تاريخيا كما كان سابقا لأوانه أن يستخلص من تجارب الثورات البورجوازية الأولى عجز البورجوازية الفطري عن الحكم بواسطة الاقتراع العام.

 

يجب بالعكس عزو السبب الأساسي، الذي جعل سلطة مجالس العمال تبقى لحد الآن استثناء وليس قاعدة في الدول العمالية القائمة، إلى ما كان للبروليتاريا من وزن محدود في قيام هذه الدول وكذا إلى الضعف والإنهاك اللاحق للبروليتاريا السوفييتية في ما بين 1917 و1923.

 

إن تفاعل جملة عوامل تاريخية (تأخر روسيا والهزائم الأولى للثورة العمالية وما نتج عنها من انعزال الثورة في روسيا –صعود البيروقراطية السوفييتية إلى الحكم المطلق- سيطرتها على الأممية الشيوعية- العواقب المتراكمة لهزائم سببتها إلى حد بعيد تلك السيطرة- غياب قيادة ثورية بديلة لدى البروليتاريا العالمية- قدرة الأجهزة التقليدية على الحد من الصعود الجديد وضبطه في نهاية الحرب العالمية الثانية وتركز صعود الثورة العالمية مذاك في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة وكونها اكتست أساسا شكل حرب ثورية مديدة بالقرية وتحت قيادات متأثرة بالأيديولوجية الستالينية) سيرورة أفضت إلى مرحلة برزت فيها دول عمالية جديدة بوزن ضعيف جدا للبروليتاريا خلال ولادتها وفي غياب أشكال نضال وتنظيم خاصة بالبرولتاريا.

 

فضلا على أن ضعف وزن الطبقة العاملة النسبي في مجتمعات كالصين وفيتنام وخصوصية ما واجهته ديكتاتورية البروليتاريا من مشاكل (بداية تصنيع، بداية نمو إنتاجية العمل الزراعي، ندرة وتأخر فاقا ما شهدته روسيا) خلقا عوائق ذاتية إضافية على طريق الديموقراطية الاشتراكية.

 

كانت ديكتاتورية البروليتاريا، نتيجة تفاعل هذه العوامل، بيروقراطية منذ ولادتها في هذه البلدان، ولم تمارس بها الطبقة العاملة السلطة السياسية مباشرة.

 

إلا أنه في المرحلة الحالية أصبح وزن البروليتاريا في سيرورة الثورة العالمية الفعلية أكبر بكثير مما كان في مرحلة 1945-1968 وذلك بعد توطد البروليتاريا نوعيا في جملة دول عمالية وبلدان شبه مصنعة رأسمالية تابعة وصعود النضالات الثورية الجديد الذي يرمز إليه ماي 1968 في فرنسا والثورة البرتغالية في 1974-1976 وصعود الثورة السياسية بالبلدان العمالية المبقرطة (تشيكوسلوفاكيا وبولونيا).

 

وهذا ما تؤكده بكيفية مثيرة عودة ظهور الإضرابات العامة والانتفاضات الجماهيرية بالمدن وأجهزة التنظيم الذاتي في أهم الإنفجارات الثورية في السنوات الأخيرة، ليس فقط في الشيلي أو البرتغال بل أيضا في إيران وبولونيا ونيكاراغوا. وفي نفس الوقت وبعد مرحلة تأخر فيها الوعي بالضرورة عن الواقع، استوعبت قطاعات من البروليتاريا العالمية الآن طبيعة الحقيقية للستالينية (لم يكن الأمر كذلك في 1936 أو 1945) وترفض بقوة "نماذج" من "ديكتاتورية البروليتاريا" شبيهة بالاتحاد السوفياتي. ولا ينطبق هذا على بعض البلدان الإمبريالية وحسب بل على أوروبا الشرقية والصيــن والبرازيل، الخ. لا يعبر برنامجنا لديكتاتورية البروليتاريا لا عن "معايير مجردة" ولا عن أوهام طوباوية، بل عن ميل تاريخي حقيقي تأكد الآن بقوة متنامية بعد أن كان أزاحته النتائج الموضوعية والذاتية لعقدين من هزائم الثورة العالمية.

 

وأخيرا نرفض أيضا حجة أن سلطة مجالس العمال غير قابلة للتطبيق طالما بقيت الإمبريالية، أي ما دامت مشاكل دفاع الثورة البروليتارية الظافرة عن نفسها وتوسعها العالمي مشاكل مركزية لديكتاتورية البروليتاريا. إننا بالعكس مقتنعون أن ديموقراطية مجالس العمال توطد قدرة الدفاع الذاتي لدى الدولة العمالية وقدرة جذبها لعمال البلدان الرأسمالية أي أنها تسهل النضال ضد الإمبريالية ولأجل امتداد الثورة عالميا.

 

9) جوابا على العقائد الجامدة ذات الأصل الستاليني:

كانت ومازالت إيديولوجية البيروقراطيات الحاكمة برغماتية (نفعية) أساسا. بيد أن عددا من النظريات والعقائد الجامدة تدعم هذه الإيديولوجية وتحظى بانسجام داخلي بتعارض مع الماركسية الثورية.

 

إن إيديولوجيا البيروقراطية (فكرتها الأساسية هي هيمنة حزب واحد يعمل باسم الطبقة العاملة) يمكن تأليفها كما يلي رغم أنها غير مصاغة دوما بوضوح:

 

1- يحتكر الحزب القائد (أو حتى "نواته القائدة" : "اللجنة المركزية اللينينية") أرقى درجات الوعي السياسي، لا بل حتى المعارف العلمية في مجال العلوم الاجتماعية. وهو بذلك يحظى بعصمة مضمونة (تستنتج منها غالبا خلاصات لاهوتية مفادها استحالة منح نفس حقوق النشر للخطأ كما للصواب).

 

2- الطبقة العاملة، وبدرجة أكبر الجماهير الكادحة بمجملها، متأخرة جدا سياسيا ورازحة تحت تأثير الإيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة وميالة أكثر إلى تفضيل امتيازات مادية آنية على مصالحها التاريخية، وهذا لا يتيح من وجهة نظر "مصالح الاشتراكية" قبول ممارسة مباشرة للسلطة من طرف مجالس عمالية منتخبة ديموقراطيا. ستستتبع إقامة ديكتاتورية بروليتارية حقيقية خطر عدد متنام من قرارات ضارة وحتى "مضادة موضوعيا للثورة" تفتح الطريق لعودة الرأسمالية أو في أفضل الحالات ستضر وتعوق سيرورة بناء الاشتراكية.

 

3- لهذا السبب لا يمكن أن يمارس ديكتاتورية البروليتاريا غير "حزب البروليتاريا القائد" أو بتعبير أفضل ديكتاتورية البروليتاريا هي ديكتاتورية الحزب سواء بما هو ممثل لطبقة عاملة سلبية أساسا أو بالإرتكاز النشيط على النضال الطبقي الجماهيري، لكن مع اعتبار البروليتاريا غير جديرة أو عاجزة عن ممارسة سلطة الدولة مباشرة بواسطة أجهزة سلطة ذات طابع مؤسسي.

 

4- بما أن هذا الحزب دون سواه هو ممثل مصالح الطبقة العاملة التي تعتبر منسجمة في جميع الأوضاع وإزاء جميع المشاكل، فإن على "الحزب القائد" نفسه أن يكون مونوليتيا Monolithique [2]]. وآنذاك يغدو حتما كل تيار معارض، بشكل أو بآخر، انعكاسا لضغط طبقة معادية لمصالح البروليتاريا (الصراع بين خطين هو دوما صراع بين البروليتاريا والبورجوازية حسب الماويين الستالينيين). ويفضي هذا التصور منطقيا إلى رقابة الحزب الأحادية على كافة دوائر الحياة الاجتماعية. يجب إرساء رقابة الحزب المباشرة على كافة قطاعات "المجتمع المدني".

 

5- ثمة فرضية أخرى خلف هذا التصور وهي اشتداد الصراع الطبقي خلال سيرورة بناء الاشتراكية (رغم أن هذه الفرضية لا تؤدي حتما إلى نفس الخلاصات إن هي لم ترفق بالمقدمات السابقة) ويستخلص من هذه الفرضية أن خطر إعادة الرأسمالية قد يكون متناميا حتى بعد أمد طويل من إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وهذا بمعزل عن مستوى تطور قوى الإنتاج. ويتم تقديم خطر إعادة الرأسمالية كنتيجة آلية لانتصار الإيديولوجيا البورجوازية في هذا أو ذاك من المجالات الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو حتى العلمية. ونظرا لما ينسب هكذا من قوة جبارة للأفكار البورجوازية، يصبح قمع من يعتبر مروجا لها نتيجة منطقية لهذا التحليل.

 

كل هذه المقدمات والفرضيات ليست علمية من وجهة نظر الماركسية عموما ولا يمكن الدفاع عنها على ضوء التجربة التاريخية الحقيقية لصراع الطبقات خلال وبعد إطاحة السلطة الرأسمالية بالاتحاد السوفياتي وببلدان أخرى. وتأكد مرارا عديدة أنها ضارة بالدفاع عن مصالح البروليتاريا الطبقية وتمثل عوائق في النضال الفعال ضد البورجوازية وأيديولوجيتها. وبما أنها أصبحت عقائد جامدة مقبولة من قرابة كل الأحزاب الشيوعية في عهد ستالين وتحظى بانسجام داخلي لا شك فيه (يعكس المصالح المادية للبيروقراطية بما هي شريحة اجتماعية ودفاععها عن ديكتاتوريتها)، فإنها مذاك لم تخضع أبدا، بصراحة وشمولية، للنقد أو الرفض من قبل أي حزب شيوعي. وما زالت بقايا هذه المفاهيم، جزئيا على الأقل، موجودة في إيديولوجيا العديد من قادة وكوادر الأحزاب الشيوعية والأحزاب الاشتراكية أي بيروقراطية الحركة العمالية. ومازالت تستعمل كدخيرة مفاهيم لتبرير مختلف أشكال تضييق الحقوق الديموقراطية للجماهير الكادحة.

 

تجدر الإشارة إلى أن منظمات أخرى غير مستوحية للستالينية في هذا المضمار تطور مفاهيم شبيهة تبرر ممارسة مماثلة جزئيا في صفوفها. لذا يلزم التأكيد أن هذا مناقض تماما لتعاليم لينين و تروتسكي إن لن نقل ماركس و إنجلس وحركتنا التاريخية. إن دحضا واضحا ومتناسقا لهذه التصورات ولما ينتج عنها من ممارسات أمر لا غنى عنه للدفاع عن برنامجنا حول الديموقراطية الاشتراكية .

 

أولا: فكرة طبقة عاملة منسجمة ممثلة حصرا بحزب واحد هي فكرة تناقض كل التجربة التاريخية وكل تحليل ماركسي ومادي لنمو البروليتاريا المعاصرة وتطورها الملموسين سواء في ظل الرأسمالية أو بعد إطاحتها. وأقصى ما يمكن الدفاع عنه هو أن الحزب الثوري الطليعي يمثل وحده، على المستوى البرنامجي، المصالح التاريخية للبروليتاريا على المدى البعيد ومصالحها الطبقية الإجمالية الآنية مقابل المصالح القطاعية والخاصة والقومية والجهوية ومصالح المجموعات المؤهلة وذات الامتيازات، الخ. لكن عندئذ سيضيف كل تحليل ديالكتيكي مادي، عكس تحليل آلي مثالي، أن فوز هذا الحزب بقيادة غالبية العمال السياسية هو وحده الذي يتيح الحديث عن تطابق بين المصالح الطبقية الآنية والتاريخية من شأنه الحد من مخاطر الأخطاء في تفسير هذه المصالح. ثم إن هذا لا يستبعد بتاتا إمكان ارتكاب هذا الحزب للأخطاء في مسائل خاصة.

 

في الواقع ثمة داخل الطبقة العاملة تراتب فعلي ومحدد موضوعيا. كما أن ثمة، على أي حال، توتر بين النضال من أجل مصالح الحركة العمالية الآنية والنضال من أجل مصالحها التاريخية (مثلا بعد الظفر بالسلطة: التناقض بين الإستهلاك الآني و التوظيفات على المدى البعيد). هذه التناقضات المنغرسة في ارث التطور المتفاوت للمجتمع البورجوازي، هي التي تمثل بالضبط إحدى أهم المسوغات النظرية لطليعة ثورية، مقابل فكرة "اتحاد" يضم بلا قيد ولا شرط جميع الأجراء في منظمة واحدة. بيد أن هذا يستتبع بدوره الاعتراف بأن أحزابا مختلفة، بتوجهات مختلفة ومناهج مختلفة في تناول الصراع الطبقي بين رأس المال والعمل والعلاقات بين أهداف الحركة العمالية الآنية وأهدافها التاريخية، قد تظهر وهي ظهرت بالفعل داخل الطبقة العاملة ومثلت قطاعات منها (ولو مصالح قطاعية صرف، أو ضغوط إيديولوجية من الطبقات المعادية، الخ.) كما لا يمكن استبعاد أن تظهر أحزاب ثورية عديدة في بلد واحد حيث لم تسوّ خلافاتها بإندماجات قبل الثورة، مما يستدعي ضرورة السعي إلى تكوين جبهة من هذه الأحزاب، تكون متراصة إلى هذا الحد أو ذاك وتعمل لتحديد مشترك لسياستها.

 

في المقام الثاني: يحظى حزب ثوري ذو حياة داخلية ديموقراطية بميزة كبيرة في مجال التحليل الصائب للتطور الإقتصادي و الاجتماعي والسياسي، وفي مجال الصياغة الصائبة للإجابات التكتيكية والإستراتيجية على هذا التطور، بفعل اعتماده على الاشتراكية العلمية –الماركسية- التي تؤلف وتعمم مجمل ما سلف من تجارب النضال الطبقي. إن قاعدة انطلاق الصياغة السياسية الجارية هذه، تجعل الحزب الثوري أقل ميلا من أي اتجاه آخر بالحركة العمالية أو أي قطاع غير منظم من الطبقة العاملة إلى بلوغ خلاصات خاطئة وتعميمات سابقة لأوانها وردود فعل أحادية الجانب وانطباعية إزاء تطورات غير مرتقبة والتنازل للضغط الإيديولوجي والسياسي للقوى الطبقية المعادية وعقد مساومات سياسية لا مبدئية، الخ.

 

لكن ليس ثمة حزب معصوم. كما تنعدم قيادات حزبية أو أغلبيات حزبية أو "لجان مركزية لينينية" أو أفراد حزبيون يتحلون بالعصمة. ليس البرنامج الماركسي أبدا برنامجا تاما قطعيا. ولا يوجد وضع جديد قابل للتحليل كليا حسب سوابق تاريخية. يخضع الواقع الاجتماعي لتغيرات دائمة. وبانتظام تحدث تغيرات جديدة غير مرتقبة إبان المنعطفات التاريخية. لم يتمكن ماركس وإنجلز من تحليل ظاهرة الإمبريالية التي لم تنتشر كليا إلا بعد وفاة إنجلز، ولم يتنبأ البلاشفة بتأخر الثورة البروليتارية في البلدان الإمبريالية المتقدمة. ولم تدمج النظرية اللينينية حول ديكتاتورية البروليتاريا الإنحطاط البيروقراطي لأول دولة عمالية، ولم يتنبأ تروتسكي بظهور دول عمالية –وإن مشوهة بيروقراطيا- من جراء نضالات جماهيرية ثورية لم تقدها قيادات ماركسية ثورية بعد الحرب العالمية الثانية (يوغوسلافيا-الصين-الفيتنام). ولا يمكن اكتشاف جواب كامل وجاهز لظواهر جديدة في المؤلفات الكلاسيكية أو في البرنامج القائم.

 

وستبرز مشاكل جديدة خلال بناء الاشتراكية، مشاكل لا يمنح عنها البرنامج الماركسي الثوري غير إطار مرجعي عام وليس قط مصدرا آليا لإجابات صائبة. يتطلب النضال لأجل إجابات صائبة على هذه المشاكل تفاعلا دائما بين تحليل ونقاش نظري وسياسي وممارسة طبقية ثورية وتبقى الكلمة الأخيرة للتجربة العملية.

 

إن كل تقييد لحرية النقاش النظري والسياسي مفض إلى تقليص النشاط السياسي الجماهيري الحر للبروليتاريا، أي كل تضييق للديموقراطية الاشتراكية، يمثل في هذه الشروط عائقا لتمكن الحزب الثوري نفسه من وضع خط سياسي صائب لذا فهو ليس خاطئا نظريا فحسب بل أيضا غير فعال عمليا وضار من وجهة نظر التقدم على طريق بناء الاشتراكية.

 

إن إحدى أخطر عواقب منظومة الحزب الواحد المونوليتي Monolithique وغياب تعددية سياسية (أحزاب وتيارات ومجموعات) وتضييق إداري لحرية النقاش الإيديولوجي والسياسي، هي إعاقة هذه المنظومة لإصلاح سريع للأخطاء التي قد ترتكبها حكومة دولة عمالية. إن أخطاءها، مثل التي ترتكبها أغلبية الطبقة العاملة وفئاتها وتجمعاتها السياسية المختلفة، حتمية إلى حد كبير خلال سيرورة بناء مجتمع اشتراكي لا طبقي. إلا أنه يمكن تصحيح هذه الأخطاء بسرعة في مناخ نقاش سياسي حر واستعمال قوى المعارضة بحرية لوسائل الإعلام الجماهيري، واهتمام والتزام سياسيين على نطاق كبير لدى الجماهير الواسعة ورقابة هذه الجماهير على نشاط الحكومة والدولة في كافة المستويات.

 

إن غياب كل هذه المصححات، في منظومة حزب واحد مونوليتي، يجعل تصويب أخطاء خطيرة أمرا أشد صعوبة. إن عصمة الحزب، هذه العقيدة الجامدة التي يرتكز عليها النظام الستاليني، هي نفسها ستؤخر إلى أبعد حد الإعتراف بالأخطاء (تمنح مكافأة كبيرة للبحث عن تبريرات ذاتية أو كباش محرقة) وكذا شأن تصحيحات للخط ولو ضمنية. إن الأكلاف الموضوعية لهكذا منظومة، سواء من خسائر اقتصادية وتضحيات غير مجدية، أي ممكن تجنيها موضوعيا، أو من هزائم سياسية أمام الأعداء الطبقيين أو تيه وإحباط سياسيين للبروليتاريا، هي أكلاف باهظة للغاية كما دل تاريخ الإتحاد السوفياتي منذ 1928. ونكتفي بمثال واحد: كانت كيفية تمسك ستالين وأنصاره بسياسة زراعية خاطئة (بما فيها تفاصيل مثل سعر شراء بعض المواد الزراعية)، بعد ما سبب التجميع القسري من كارثة يمكن تفسيرها بالمصالح الاجتماعية الخاصة بالبيروقراطية، سببا لمصيبة حقيقية في تموين الشعب السوفياتي مدة تفوق جيلا. وما زالت آثارها السلبية ماثلة حاليا أي بعد نصف قرن. لو جرى بالاتحاد السوفياتي نقاش سياسي حول حلول بديلة للمشاكل الزراعية لاستحال وقوع مثل تلك الكارثة.

 

في المقام الثالث: اعتبار أن تقليص حقوق البروليتاريا الديموقراطية قد يسهل، بأي حال من الأحوال، "تربية" تدريجية لجماهير عمالية متأخرة هو بكل جلاء فكرة عبثية. لا يمكن تعلم السباحة مع البقاء خارج الماء. وما من وسيلة لدى الجماهير ترفع مستوى وعيها السياسي سوى الإنخراط في النشاط السياسي والتعلم من تجربة هكذا نشاط. ولا توجد وسائل أخرى لتعلم تفادي الأخطاء غير امتلاك حق ارتكابها على أي حال. إن المسبقات الأبوية حول الطابع المزعوم ل"تأخر" الجماهير إنما تموه، عموما، تخوفا من نشاط الجماهير ذي طابع محافظ بورجوازي صغير، وهو تخوف لا صلة له بالماركسية الثورية. إن لدى البيروقراطية خوف قاتل من الديموقراطية الاشتراكية، ليس لأسباب "برنامجية" بل لتعارض شكل الحكومة هذا مع امتيازاتها المادية إن لم نقل سلطتها. إن كل تقليص لنشاط الجماهير السياسي، بذريعة أنها قد تفرط في ارتكاب الأخطاء، لن ينتج إلا خمولا سياسيا متزايدا بين العمال أي بالضبط تلك الحالة التي بررت زعما ذلك التقليص.

 

في المقام الرابع: في شروط تشريك معمم إلى هذا الحد أو ذاك لوسائل الإنتاج وللنتاج الاجتماعي الفائض، يؤدي كل احتكار بعيد المدى لممارسة السلطة السياسية من جانب أقلية (وإن كانت حزبا ثوريا له منطلقات ثورية بروليتارية حقيقية) إلى خطر تقوية ميولات موضوعية نحو التبقرط. إن من يسيطر على إدارة الدولة في هكذا شروط اقتصادية-اجتماعية يسيطر من جراء ذلك على النتاج الاجتماعي الفائض وعلى توزيعه. وبما أن التفاوتات الاقتصادية ستدوم في البداية، لا سيما في دول عمالية متأخرة إقتصاديا، فقد يصبح ذلك مصدر إفساد ونمو امتيازات مادية وتمايز إجتماعي. "إن عملية الإستيلاء على السلطة لا تغير موقف البروليتاريا تجاه الطبقات الأخرى فقط، ولكنها تغير كذلك في الوقت نفسه تركيب البروليتاريا الداخلي وتصبح ممارسة السلطة مقصورة على مجموعة اجتماعية معينة تحاول دائبة حل "مسألتها" الاجتماعية الخاصة بها، بمقدار ما ترى جسامة مهمتها" (تروتسكي: الثورة المعذورة). ثمة إذن حاجة موضوعية إلى رقابة حقيقية على سيرورة اتخاذ القرار وذلك من جانب البروليتاريا بما هي طبقة، مع إمكانات لا محدودة لفضح الفوضى والتبذير والتملك اللاشرعي وإساءة استعمال الموارد الاقتصادية على كافة المستويات بما فيها أعلاها. لكن يستحيل وجود هكذا رقابة ديموقراطية جماهيرية دون وجود تيارات ومجموعات وأحزاب معارضة تحضى بكامل حرية العمل والدعاوة والتحريض وبحق مطلق في استعمال وسائل الإعلام الجماهيرية، وهذا طالما لم تنخرط في النضال المسلح لإطاحة سلطة العمال.

 

كما ستشهد مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، بل وحتى الطور الأول من الشيوعية (طور الاشتراكية)، استمرارا حتميا لأشكال تقسيم للعمل وكذا لأشكال تنظيم للعمل و لسيرورة العمل موروثة كليا أو جزئيا عن الرأسمالية ولا تتيح نموا كاملا وشاملا لكافة قدرات كل المنتجين الخلاقة. ولا يمكن إبطال مفعول ذلك بالتربية والتوجيه المذهبي والوعظ الأخلاقي أو بحملات "نقد جماهيري" دورية كما يزعم الماويون، ولا حتى بسبل مخادعة كأن يعمل الأطر يوما في الأسبوع عملا يدويا. قد تصبح هذه العقبات الموضوعية، في طريق انبثاق تدريجي لعلاقات إنتاج اشتراكية بالفعل، مصادرة قوية لامتيازات مادية. ولا يوجد سبيل لتفادي هذا الأمر غير ممارسة جماهير المنتجين (في المقام الأول الأكثر عرضة للإستغلال: العمال اليدويون ) للسلطة السياسية و الاجتماعية الحقيقية على كل فئة لها امتيازات "وظيفية". ويمثل تقليص يوم العمل جذريا والديموقراطية السوفييتية الأوسع وإتاحة رفع مستوى كل العمال الثقافي بسرعة شروطا أساسية لبلوغ هذا الهدف.

 

ولكي يحتمي الحزب الثوري من الأخطار المهنية للسلطة عليه أن يرفض مراكمة أعضائه لوظائف سلطة الدولة ومسؤوليات قيادية بالحزب.

 

إن الشروط الحالية ، التي تجعل مهمة الحفاظ على الديموقراطية البروليتارية وتطويرها صعبة للغاية، ستتغير نوعيا إذا حدثت إحدى التطورات الحالية:

 

1- ثورة اشتراكية في واحد أو أكثر من البلدان الرأسمالية الصناعية الأكثر تقدما. فهكذا ثورة ستعطي دفعا قويا للنضال لأجل الحقوق الديموقراطية عبر العالم وستتيح فورا إمكان إنماء الإنتاجية على نطاق واسع مستبعدة النقصان الذي يشكل قاعدة أساسية لتوطيد النزعة البيروقراطية الطفيلية كما شرحنا أعلاه.

 

2- إن ثورة سياسية بالبلدان العمالية المشوهة أو المنحطة بيروقراطيا، لاسيما بالاتحاد السوفياتي أو الصين الشعبية، ستفضي هي الأخرى إلى صعود للديموقراطية البروليتارية مع مضاعفات عالمية هائلة ومع إنهاء وجود الفئة البيروقراطية وتصورها عن "بناء الاشتراكية في بلد واحد".

 

إن هكذا ثورة سياسية ستتيح تخطيطا اقتصاديا مشتركا لكافة الدول العمالية، وهذا ما يضمن قفزة للإنتاجية تساعد على إزالة القاعدة الاقتصادية للنزعة البيروقراطية الطفيلية حتى قبل حدوث الثورات الاشتراكية في البلدان الرأسمالية المتقدمة صناعيا.

 

وأخيرا، صحيح أنه ليس ثمة ترابط ولا تزامن آليان بين إزالة سلطة الدولة البرجوازية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج من جهة وإختفاء الامتيازات في مجال الثروة الخاصة والإرث الثقافي والتأثير الإيديولوجي من جهة أخرى، هذا بصرف النظر عن إخفاء كل عناصر الإنتاج البضاعي. فلأمد طويل بعد إسقاط سلطة البورجوازية وإلغاء الملكية الرأسمالية، ستستمر بقايا إنتاج بضاعي صغير وعناصر اقتصاد نقدي في خلق الإطار الذي يسمح بانطلاق جديد للتراكم البدائي للرأسمال، لا سيما إذا كان مستوى تطور القوى المنتجة غير كاف لضمان ظهور وتوطيد آلي لعلاقات إنتاج إشتراكية فعلا. كما ستبقى في هكذا شروط عناصر تفاوت اقتصادي واجتماعي. ولأمد طويل بعد فقدان البورجوازية لمواقعها، بما هي طبقة سائدة اقتصاديا وسياسيا، سيبقى تأثير الإيديولوجيا والأخلاق والعادات والقيم الثقافية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة في دوائر واسعة نسبيا من الحياة الاجتماعية وفي فئات واسعة من المجتمع.

 

لكن لا يصح بتاتا أن يستنتج من هذا الواقع الأكيد (الذي هو أحد الدواعي الرئيسية لضرورة إمساك البروليتاريا بسلطة الدولة لتفادي تحول"جزر التأثير البورجوازي" تلك إلى قواعد لإعادة الرأسمالية) أن القمع الإداري للإيديولوجية البورجوازية شرط لازم لبناء المجتمع الاشتراكي. على العكس تثبت التجربة التاريخية انعداما مطلقا لفعالية الصراعات الإدارية ضد الإيديولوجيات الرجعية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة. بل في الواقع تفضي تلك الأساليب إلى توطيد سيطرة هذه الإيديولوجيات في المدى البعيد. وتجرد جماهير البروليتاريا الواسعة من سلاحها الإيديولوجي أمام هذه الإيديولوجيات نظرا لنقص تجربة النقاشات السياسية والإيديولوجية الحقيقية ولنقص مصداقية "عقائد الدولة" الرسمية.

 

تكمن الوسيلة الوحيدة الفعالة لإزالة تأثير هذه الإيديولوجيات على جماهير العمال في:

 

1- نزع ملكية المطابع والراديو وقنوات التلفزة (شأن وسائل الإنتاج الكبرى). أي تحرير نشر الأفكار على نطاق جماهيري من السيطرة المادية لرأس المال الكبير.

 

2- خلق الشروط الاجتماعية التي تزيل لهذه الإيديولوجيات الجذور المادية لإعادة إنتاجها.

 

3- خوض نضال لا هوادة فيه ضد هذه الإيديولوجيات في مجال الإيديولوجيا والسياسة نفسها. لكن لن ينجح هذا النضال كليا إلا في شروط نقاش ومواجهة مفتوحين أي حرة المدافعين عن الإيديولوجيات الرجعية في الدفاع عن أفكارهم وفي شروط التعددية الثقافية والإيديولوجية طالما لم ينتقلوا إلى العمل العنيف ضد سلطة العمال.

 

4- وحدهم فاقدو الثقة في تفوق الأفكار الماركسية والمادية وفي البروليتاريا والجماهير الكادحة يمكن أن يخشوا مواجهة إيديولوجية علانية مع الإيديولوجيات البورجوازية والبورجوازية الصغيرة في ظل ديكتاتورية البروليتاريا،لما تكون البورجوازية منزوعة السلاح والملكية وحين يصل أعضاؤها إلى وسائل الإعلام حسب عددهم فقط وليس حسب ثروتهم. فلا سبب للتخوف من مواجهة دائمة وحرة وصريحة بين أفكارهم و أفكارنا. إن هذه المواجهة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن للبروليتاريا أن تتثقف بها إيديولوجيا وتتحرر بنجاح من نفوذ الأفكار البورجوازية والبورجوازية الصغيرة. وبذلك سيتأكد كليا تفوق الماركسية.

 

إن منح أي احتكار للماركسية (دون الحديث عن تأويل خاص للماركسية) في المجال الإيديولوجي الثقافي بوسائل الدولة الإدارية والقمعية لن يؤدي إلا إلى تقهقر الماركسية نفسها من علم نقدي وثوري وسلاح لتحرر البروليتاريا وبناء مجتمع لا طبقي إلى شكل لعقيدة دولة أو دين دولة عقيم وكريه. هذا جلي اليوم في الإتحاد السوفياتي حيث يُخفي الاحتكار الممنوح ل"الماركسية الرسمية" العجز عن الخلق في كل المجالات.

 

لا يمكن أن تزهر الماركسية، هذا الفكر النقدي بامتياز، إلا في مناخ النقاش الكلي والشامل والمواجهة الدائمة مع تيارات فكرية أخرى أي في مناخ تعددية أيديولوجية وثقافية كاملة وشاملة. "يحتاج الحزب إلى العلم الاشتراكي، وهذا العلم لا يحيى دون حرية الحركة" (إنجلز، رسالة إلى بيبل).

 

10) دفاع الدولة العمالية الذاتي:

يجب طبعا على دولة عمالية أن تدافع على نفسها ضد محاولات إطاحتها وضد خرق قوانينها الأساسية. وفي إطار ديموقراطية بروليتارية لدولة عمالية مستقرة، مثلما انبثقت بعد نزع سلاح البورجوازية ونهاية الحرب الأهلية، سيمنع الدستور وقانون العقوبات التملك الخاص لوسائل الإنتاج والتأجير الخاص لقوة العمل كما منع الدستور وقانون العقوبات، في ظل سيادة البورجوازية، كل مس بحق الملكية الخاصة. وطالما بقيت الدولة البروليتارية وبقيت إعادة الرأسمالية ممكنة فإن دستور ديكتاتورية البروليتاريا وقانون عقوباتها سيمنعان ويعاقبان الأعمال المسلحة ومحاولات إطاحة سلطة العمال بالعنف والإعتداءات الإرهابية على ممثلي سلطة العمال وأعمال التخريب والتجسس لمصلحة قوى رأسمالية أجنبية، الخ. لكن لا تستوجب العقاب سوى المثبتة من هذه الأعمال أو الإعداد النشيط لها وليس الدعاوة العامة، صريحة أم ضمنية، لصالح إعادة الرأسمالية. هذا يعني حرية التنظيم السياسي لكل من يحترم فعليا دستور الدولة العمالية بما فيها العناصر المؤدية للبورجوازية، أي لكل من لم ينخرط في أعمال عنف لإطاحة سلطة العمال والملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.

 

ليس ثمة دوافع لفزع العمال من دعاوة "تحثهم" على إرجاع المصانع والبنوك للملاكين الخواص ولا لإعتبارها خطرا قاتلا. ثمة مخاطر قليلة "لإقتناع" أغلبهم بهذا النوع من الدعاوة. إن لدى الطبقة العاملة، بالدول الإمبريالية والدول العمالية المبقرطة وعدد متزايد من الدول شبه المستعمرة، من القوة ما يغنيها عن إعادة إدراج "جريمة الرأي" في قانون عقوبات الدول العمالية أو في ممارستها اليومية.

 

إن الأهم هو إقامة تمييز واضح بين أنشطة تؤدي إلى العنف ضد سلطة العمال وأنشطة سياسية أو مواقف إيديولوجية أو تصريحات برنامجية قد تفسر كتأييد لإعادة الرأسمالية. تدافع الدولة البروليتارية عن نفسها ضد الإرهاب باستعمال القمع، أما ضد الإقتراحات السياسية أو الأفكار الرجعية فتدافع عن نفسها بالنضال السياسي والإيديولوجي. ليست المسألة "أخلاقية" ولا إعتمادا لموقف "رخوة"، إنها، في الجوهر، مسألة فعالية عملية على المدى البعيد.

 

إن التجربة الكارثية للستالينية التي استعملت، على نحو منظم، اتهامات مفترية ب"التواطؤ مع الإمبريالية" و"التجسس لصالح قوى أجنبية" و"أعمال تفيد الإمبريالية موضوعيا، وتحريض "معاد للسوفيات" و"معاد للاشتراكية" بغية القضاء على كل شكل للنقد السياسي والمعارضة أو فقط كل لا إمتثالية في البلدان التي سادت فيها شريحة بيروقراطية طفيلية ونظمت، بهذا المبرر، قمعا همجيا على نطاق جماهيري، قد خلقت حذرا عميقا (وسليما في الجوهر) إزاء كل سوء إستعمال للمؤسسات العقابية أو القانونية أو مؤسسات الطب العقلي أو المؤسسات البوليسية لأغراض القمع السياسي. لذا يلزم الإلحاح على أن استعمال البروليتاريا ودولتها وسائل قمع للدفاع الذاتي ضد محاولات إطاحة سلطة العمال بالعنف يجب أن ينحصر بصرامة في جرائم وأفعال مثبتة، أي أن ينفصل بدقة عن مجال الأنشطة الإيديولوجية والسياسية والثقافية.

 

تؤيد الأممية الرابعة الدفاع عن المكاسب الأكثر تقدمية للثورات الديموقراطية البورجوازية وعن توسيعها في مجال قانون العقوبات والعدالة وتناضل لإدماجها في الدستور وقانون العقوبات الإشتراكيين. ويتعلق الأمر بحقوق من قبيل:

 

1- ضرورة قانون مكتوب وعدم اللجوء إلى مفهوم الجريمة الإرتجاعية. ولزوم قيام الإتهام بتقديم حجة الجرم وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته بالحجة.

 

2- حقوق جميع الأفراد الكاملة والشاملة في تعيين دفاعهم. وحصانة المحامين الكاملة والشاملة بخصوص جميع التصريحات أو نوع الدفاع المعتمد خلال المحاكمة.

 

3- رفض كل مفهوم للمسؤولية الجماعية لجماعات إجتماعية أو عائلات ردا على جرائم جرى إرتكابها فرديا.

 

4- منع صارم لكل أشكال التعذيب أو انتزاع اعترافات بالقوة.

 

5- إلغاء عقوبة الإعدام خارج أوضاع حرب أو حرب أهلية

 

6- توسيع تعميم المحاكمات العلنية أمام هيئة قضائية.

 

7- إنتخاب كافة القضاة ديموقراطيا مع حق عزل جميع المنتخبين وفق رغبات الناخبين.

 

ويمكن للدولة العمالية من جهة أخرى أن تلغي تدريجيا مؤسسة القضاة المحترفين، تاركة في البدء الجماهير نفسها تمارس وظائف القضاء على المستوى المحلي وفي أقل المخالفات أهمية.

 

وبديهي أن الكلمة الأخيرة في هذا المجال، وكذا في الصياغة النهائية لقانون العقوبات الاشتراكي واشتغال النظام الجنائي في ظل ديكتاتورية البروليتاريا، بعد سحق مقاومة البورجوازية المسلحة، تؤول للمجالس العمالية نفسها، التي سنحيل عليها برنامجنا ونناضل في إطارها بوسائل سياسية.

 

تكمن الضمانة الأساسية ضد كل تعسف قمعي من طرف الدولة في أوسع مشاركة للجماهير الكادحة في النشاط السياسي أي في أوسع ديموقراطية اشتراكية وفي تسليح البروليتاريا المعمم (الميليشيات العمالية) وإلغاء كل إحتكار للسلاح من جانب أقلية.

 

لكن كما يقول لينين: "إنجاز البروليتاريا للثورة الاشتراكية لن يجعل منها قديسا ويضعها في منأى عن الأخطاء ومكامن الضعف". لذا لا يجب أن يخبو حذر الشيوعيين الثوريين بأي وجه خلال الانتقال إلى المجتمع الشيوعي. ويجب على الطليعة الشيوعية رصد أدنى مظاهر "النزعة البيروقراطية" وفضح ومحاربة كل شطط الدولة العمالية والسهر على احترام مبادئ المساواة والديموقراطية والدفاع عن حقوق النساء والأقليات العرقية أو القومية أو الإثنية أي باختصار الاضطلاع بدور الطليعة الشيوعية إزاء الدولة البروليتاريا نفسها.

 

هاهو معيارنا البرنامجي والمبدئي: حرية سياسية لا محدودة لكافة الأفراد والمجموعات والتيارات والأحزاب التي تحترم عمليا الملكية الجماعية ودستور الدولة العمالية. هذا لا يعني إمكان تطبيق معاييرنا كليا دون مراعاة الشروط الملموسة. فخلال سيرورة تكون ديكتاتورية البروليتاريا وخلال أزمة ثورية تتوج بالإنتفاضة وخلال الإنتفاضة نفسها، حين تنتقل سلطة الدولة من طبقة إلى أخرى، تحدث اضطرابات عنيفة مع ما يلازمها من غياب للشرعية. وهي لا تجلب النصر للبروليتاريا إلا إذا حضيت الإنتفاضة بدعم معظم السكان –أغلبية الأجراء الكبرى- على الأقل في كل البلدان حيث يمثل الأجراء أقوى طبقات المجتمع عددا. بقدر ما تتسع تعبئة الجماهير خلال الإنتفاضة، يقل العنف والتعسف الملازمان حتما لهذا الإنقلاب الاجتماعي الهائل.

 

وقد لا تتوطد ديكتاتورية البروليتاريا إلا بعد حرب أهلية أو تدخل عسكري أجنبي أي بعد محاولات الطبقات السائدة القديمة إطاحة سلطة العمال بالعنف. في هذه الحالة يجري تطبيق قواعد الحرب، ويمكن أن تطبق تقليصات للأنشطة السياسية للبورجوازية. لم يسبق أبدا لأية طبقة اجتماعية ولا لأية دولة أن متعت بكامل الحقوق السياسية المتورطين في أعمال عنف للإطاحة بها. ولا يمكن لديكتاتورية البروليتاريا أن تفعل خلاف ذلك في هذا المضمار.

 

على نحو واقعي أكثر، سيكون كل الأفراد والمنظمات والأحزاب المشاركين في العنف المضاد للثورة أو الممكن إثبات دعمهم أو استعدادهم النشيط له، عرضة للقمع وسيوضعون في شروط استحالة موصلة هذه الأنشطة. وسيرتبط مدى وأشكال هذا القمع الملموسة بالظروف وبموازين القوى تلك اللحظة في بلد معين أو مجموعة بلدان.

 

خلال المرحلة الأولى لإرساء دولة عمالية، ضد المقاومة المسلحة للبورجوازية أو محاولاتها لإطاحة تلك الدولة، قد يتأخر وجود قانون عقوبات مكتوب (وشرعية اشتراكية) بالنظر إلى حاجات الثورة لحل أوضاع أزمة لا يمكن إخضاعها لوجود مقدم لقانون العقوبات. أتبثت التجربة التاريخية مرة أخرى ودوما أنه بقدر الإسراع في سحق جذري للمقاومة المسلحة للبورجوازية بقدر ما تقصر مرحلة الحرب الأهلية بحصر المعنى وتتقلص الكلفة البشرية للثورة الاجتماعية.

 

تظل المقاييس المحددة للإطار العام للفعالية الثورية على المدى البعيد هي تلك التي تربط إجراءات الضرورة الآنية بمستلزمات توطيد النظام الاجتماعي الجديد على قاعدة انخراط ومشاركة أوسع الجماهير الممكنة. لكن في شروط حرب أهلية تنفرد بالفعالية الحقيقية تلك الإجراءات الآنية التي ترفع وعي البروليتاريا الطبقي وثقتها بنفسها ولا تخفضهما البتة، والتي تزيد الإيمان بقدرتها على بناء دولة عمالية ومجتمع لا طبقي، والتي تضمن دعمها ومشاركتها النشيطين في إدارة دولتها الخاصة وقدرتها على التعبئة والتنظيم الذاتي. لا يجب نسيان هذا المقياس الأساسي حتى في ظروف حرب أهلية بقدر ما قد تنمو مستقبلا ثورات في إطار موازين قوى أفضل مما في روسيا 1919 و1920 أو 1921.

 

عبر تروتسكي في هذا الصدد بأوضح طريقة عام 1940. ويصح ما كتبه تلك اللحظة بدرجة أكبر اليوم: "يمكن إستباقا أن نصوغ القانون التالي: بقدر ما يكبر عدد البلدان التي جرى فيها تحطيم النظام الرأسمالي بقدر ما تضعف مقاومة الطبقات السائدة بالبلدان الأخرى، وتقل حدة طابع الثورة الاشتراكية ويقل عنف أشكال ديكتاتورية البروليتاريا، وتقصر مدتها وتزداد سرعة بناء مجتمع اشتراكي على قاعدة ديموقراطية جديدة أكثر شمولا وكمالا وإنسانية. لن تكون للاشتراكية قيمة إن لم تأت ليس فقط بالحصانة القانونية بل أيضا بالحماية التامة والشاملة لكافة مصالح الشخصية الإنسانية" (ل. تروتسكي –كتابات بالإنجليزية- 1939-1940 ص155-156).

 

ومن اللازم أيضا التشديد على مسؤولية الثورة البورجوازية المضادة، سياسيا وعلى نحو مادي مباشر، في كل تقليص للديموقراطية الاشتراكية في شروط حرب أهلية أو حرب. هذا يعني وجوب أن يوضح للمجتمع بمجمله ولبقايا الطبقات السائدة نفسها أن طريقة معاملتها متوقفة، في آخر التحليل، عليها هي، أي على سلوكها العملي.

 

11) الثورة والثورة المضادة العالميتان:

طالما بقيت الإمبريالية ببلدان كبرى –ويقينا بالولايات المتحدة- فلن تكف أبدا عن محاولة وقف كل توسع جديد للثورة الاشتراكية باستعمال الضغط الإقتصادي والقوة العسكرية. كما لن تتخلى أبدا عن جهودها لإستعادة بعض ثم كل الأراضي التي فقدها الاستغلال الرأسمالي المباشر. تستحيل إعادة الرأسمالية هذه بالطريق التدريجي والسلمي مثلما تستحيل إطاحة الرأسمالية تدريجيا وسلميا. ينتج عن هذا أن كل دولة عمالية ناشئة عن ثورة اشتراكية ظافرة وكل مجموعة دول عمالية، مهما بلغت درجة تبقرطها أو ديموقراطيتها، ستوجد في شروط هدنة مسلحة مع الرأسمالي العالمي قد تؤدي في بعض الأحوال إلى حرب مفتوحة. تكمن إذن إحدى مسؤوليات ديكتاتورية البروليتاريا الأساسية في حفظ وتدعيم الشروط المادية والبشرية لقدرة دفاعها الذاتي العسكرية الدائمة قصد التمكن من مجابهة هذا التحدي حين يمثل أمامها.

 

إننا نرفض حتمية الحرب النووية العالمية كما نرفض فكرة أن الدعاوة والتحريض وتنظيم العمال الطبقي بالبلدان الرأسمالية كافبة في حد ذاتها لمنع حروب إعتداء إمبريالية على الثورات الجديدة والقديمة. سيبقى خطر الحروب المضادة للثورة قائما طالما لم تطح الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية الرئيسية بسيادة رأس المال. ويجب على البروليتاريا في القسم الآخر من العالم أن تستعد لهذا الخطر، كما عليها أن تتهيأ لمساعدة الجماهير المنتفضة في بلدان أخرى في مواجهة التدخل المسلح للثورة المضادة القومية والعالمية.

 

إن ضرورة الاستعداد العسكري لمواجهة حروب عدوانية إمبريالية تعني للدول العمالية تحويل موارد مادية، كانت ستخصص لتسريع التحول نحو الاشتراكية، إلى إنتاج الأسلحة. وهذا سبب إضافي لرفض الطوبى الرجعية حول إمكان إستكمال بناء الاشتراكية في بلد واحد أو في عدد قليل من البلدان.

 

تمثل المليشيات العمالية والشعبية، أي الشعب المسلح، قاعدة دفاع الدولة العمالية الذاتي. لكن هذا الدفاع يستلزم أيضا الإبقاء على جيش متخصص في إستعمال الأسلحة المتطورة جدا. سيكون هذا الجيش العمالي جيشا من طراز جديد يعكس قاعدته الطبقية الجديدة. وكما فعل الجيش الأحمر في بداية جمهورية السوفييتات، سيلغي فئة الضباط ويستعيض عنها بمجالس الجنود وبقادة منتخبين ديموقراطيا، ويقيم علاقة متوازنة مع الميليشيات. وعموما "قد يفيد الإرتباط بين الجيش النظامي والميليشية كمؤشر واضح على التقدم الحقيقي نحو الاشتراكية" (تروتسكي –الثورة المعذورة).

 

لكن هذا لا يستتبع بتاتا أن يفضي حتما ضغط الإمبريالية الخارجي على الدول العمالية إلى الإنحطاط البيروقراطي ولا حتى إلى تقليصات جدية للديموقراطية الاشتراكية.

 

أولا، لم يكن صعود وإنتصار البيروقراطية الستالينية نتيجة مباشرة وآلية للحصار الرأسمالي للإتحاد السوفياتي. بل كانا ثمرة عناصر متداخلة: وضع تأخر نسبي لروسيا وضعف نسبي للبروليتاريا الروسية والهزائم الأولى للثورة العالمية، وما نتج عنها من حصار، ثم نقص الاستعداد السياسي للطليعة البروليتارية بوجه مشكل البيروقراطية ومضاعفات الصعود المتدرج لسلطة البيروقراطية على نتائج موجات النضالات الثورية المتلاحقة عبر العالم وغياب قيادة ثورية بديلة خارج الأحزاب الشيوعية التي يتحكم بها الكرملين، وهي كلها عوامل فاقمتها النتائج المتراكمة لهزائم الثورة العالمية. وضئيل جدا إحتمال تكرار تركيب العوامل هذا لاسيما في حالة ثورات اشتراكية ظافرة في بلدان أكثر تصنيعا من روسيا عام 1917 والصين 1949. إن درجة تأخر روسيا اليوم، مقارنة بالرأسمالية العالمية، هي أقل بكثير مما كانت عام 1923 أو 1927 كما أن القوة الموضوعية للبروليتاريا السوفياتية أكبر بما لا يقاس. وإذا انضافت إلى القدرة النسبية للدول العمالية الحالية قدرة الثورات الاشتراكية الظافرة بأوروبا الغربية واليابان أو بلدان كبرى بأمريكا اللاتينية –ناهيكم عن الولايات المتحدة- فإن موازين القوى مع الرأسمالية العالمية ستشهد اختلالا خطيرا لغير صالح هذه الأخيرة لدرجة لن تجعل ضغط المحيط الرأسمالي وضرورة الإبقاء على تسلح وجيش قويين مصدرا موضوعيا لتقليصات جدية للديموقراطية الاشتراكية.

 

وعلاوة على هذا، إذا أدى بقاء مؤقت لدول إمبريالية قوية وطبقات بورجوازية غنية في العالم إلى حالة مواجهة كامنة، دائمة إلى هذا الحد أو ذلك، فإن ضرورة إحتماء الدولة العمالية ضد خطر التدخل الإمبريالي الأجنبي لن تستتبع بتاتا اعتبار حرب كامنة حربا حقيقية، فهذه مماثلة استعملها باستمرار الستالينيون والبيروقراطيون من كل نوع تبريرا لخنق الديموقراطية العمالية في البلدان الواقعة تحت هيمنة بيروقراطية طفيلية.

 

من جهة أخرى ليس المشكل الرئيس اليوم بالاتحاد السوفياتي والصين وأوروبا الشرقية هو خطر عودة الرأسمالية في شروط حرب أو حرب أهلية. المشكل الرئيس الذي تواجهه الطبقة العاملة بهذه البلدان هو تحكم في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية تمارسه، على نحو ديكتاتوري، فئة بيروقراطية ذات امتيازات. إن التجاوزات الجسيمة التي خلفها هذه التحكم قد نسفت بعمق تماثل جماهير هذه البلدان مع الدول القائمة، وهذا يضعف، على المدى البعيد، قدراتها على مقاومة ظافرة لهجوم قد تشنه جيوش إمبريالية مستقبلا. لذا تزداد ضرورة الدفاع عن الحقوق الديموقراطية ضد كافة التقليصات التي تفرضها البيروقراطية والنضال لأجل الثورة السياسية. لن تضعف هذه السيرورات، بل ستوطد، قدرة الدول العمالية على مقاومة كل هجوم إمبريالي بصرف النظر عن قدرتها على مساعدة سيرورة الثورة العمالية بنشاط.

 

وأخيرا يجب وضع هذا الإستدلال على رجليه. إننا ننكر أن تكون تقليصات الديموقراطية الاشتراكية -وبالأحرى الديكتاتورية البيروقراطية- ثمنا ضروريا للدفاع عن الثورات الظافرة وتوسيع الثورة عالميا بوجه القوة العسكرية للإمبريالية. على العكس، نؤكد أن هذه التقليصات تضعف البروليتاريا سياسيا وعسكريا بوجه الإمبريالية.

 

إن مستوى وعي طبقي أرقى وقناعة اشتراكية من جانب الجماهير الكادحة ومستوى رفيع من النشاط والتعبئة والحذر السياسيين من جانبها وتربية ونشاط أمميين للبروليتاريا، كلها تساعد على توطيد الدفاع الذاتي والقوة العسكرية لدولة عمالية عموما.

 

أبرز التاريخ أن قدرة الدفاع الذاتي لأية دولة تتوقف، في آخر التحليل، على عاملين أساسيين: مستوى انسجام اجتماعي وسياسي أرقى وتماثل جماهير الشعب مع الدولة من جهة، ومستوى أعلى لمتوسط إنتاجية العمل وللقدرة على الإنتاج. بقدر اتساع الديموقراطية البروليتارية يرقى مستوى تماثل أغلبية الشعب العظمى مع الدولة العمالية وتنمو أيضا بسرعة إنتاجية العمل بما فيها إمكانية تحقيق فتوحات تكنولوجية حاسمة مقارنة مع الإمبريالية. بهذا المعنى ليست الديموقراطية الاشتراكية "ترفا" في وضع عالمي مطبوع بحروب عدوانية كامنة من قبل الإمبريالية ضد ثورات إشتراكية جارية. بل هي سلاح فعال بيد الدولة العمالية حتى في المجال العسكري الصرف. هذا صحيح من وجهة نظر دفاعية كما سبقت الإشارة. وهو صحيح أكثر من وجهة نظر هجومية. لا يمكن أن ترتمي الإمبريالية في مغامرات عسكرية ضد ثورات سابقة وحالية دون أن تثير معارضة جماهيرية داخل قلاعها الخاصة. وستضطر، بقصد إضعاف هذه المعارضة، للجوء متنام للقمع ولتقليص الحريات الديموقراطية للجماهير. ولهذا سيمارس مستوى رفيع من الديموقراطية الاشتراكية بالبلدان العمالية جاذبية أعظم على الجماهير المضطهدة بالبلدان الرأسمالية، ناسفا هكذا القوة العسكرية للإمبريالية ومعززا حظوظ اتساع الثورة. يجب أن تشمل الإستعدادات العسكرية للدول العمالية أمام أخطار العدوان الإمبريالي إجراءات خاصة ضد التجسس وضد المخربين المبعوثين من الخارج وضد أشكال أخرى من العمل العسكري المعادي للعمال قد تستمر طيلة سنوات أو حتى عقود. بيد أن ضرورة إجراءات تقنية خاصة لأجل دفاع الدولة العمالية الذاتي لا يجب أن تؤدي إلى تقليص الديموقراطية الاشتراكية بنعت مواطنين يمارسون حقهم في النقد والمعارضة بالجواسيس والمخربين. وفعلا بقدر ما سترتفع درجة نشاط وحذر الجماهير الكادحة وانسجامها الاجتماعي –وهذا أمر متعذر دون ازدهار الديموقراطية الاشتراكية- بقدر ما يصعب عمل جواسيس أو مخربين حقيقيين في وسط معاد لهم بعزم، وتقوى أكثر قدرة الدفاع الذاتي لدى الدولة العمالية.

 

12) الدول العمالية المبقرطة وديكتاتورية البروليتاريا وصعود الثورة السياسية

من زاوية نظرية يمثل الإتحاد السوفياتي والدول العمالية المبقرطة أشكالا من ديكتاتورية البروليتاريا شديدة التشوه والإنحطاط باعتبار أن الأسس الاقتصادية التي أنشأتها ثورة أكتوبر لم تدمرها البيروقراطية. بهذا المعنى فإن ضرورة الدفاع عن الإتحاد السوفياتي وباقي الدول العمالية ضد كل محاولة لإعادة الرأسمالية –ستمثل هذه تاريخيا خطوة جبارة إلى الوراء- تنبع من كونها ما زالت دولا عمالية منحطة أو مشوهة بيروقراطيا أي أشكالا منحطة من ديكتاتورية البروليتاريا.

 

لكن لا يترتب عن هذا بتاتا وجود عدة تنويعات تاريخية من ديكتاتورية البروليتاريا نجمعها، إلى هذا الحد أو ذاك في مستوى واحد، بينما تمثل الديموقراطية البروليتارية (الاشتراكية) كما وصفها برنامجنا مجرد "معيار مثالي" مزعوم ابتعد عنه الواقع وسيبتعد عنه بقوة أكبر مستقبلا.

 

ليست ديكتاتورية البروليتاريا في حد ذاتها هدفا. إنها مجرد وسيلة لبلوغ الهدف: تحرر العمال وكل المستغلين والمضطهدين عبر إنشاء مجتمع لا طبقي على نطاق عالمي بما هو الوسيلة الوحيدة لحل كافة المشاكل الخطيرة التي يجب أن تواجهها البشرية ولتفادي سقوطها مجددا في الهمجية. لكن الديكتاتورية "البيروقراطية" للبروليتاريا في شكلها المنحط للغاية، أي ديكتاتورية البيروقراطية، لا تتيح التقدم نحو هذا الهدف. إنها تعيق الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. إنها عقبة يجب أن تزيلها البروليتاريا بثورة سياسية.

 

يترتب عن ذلك أن الديموقراطية الاشتراكية ليست مجرد إحدى تنويعات ديكتاتورية البروليتاريا –تنويعا مثاليا أو معياريا أي "غير واقعي" على نحو ما، وهذا يستتبع دفاعا موضوعيا عن الستالينية والديكتاتورية البيروقراطية- بل إنها تمثل، بما هي ممارسة البروليتاريا بنفسها للسلطة مباشرة عبر مجالس عمالية وشعبية منتخبة ديموقراطيا، الشكل الوحيد لديكتاتورية البروليتاريا المطابق لهدفنا الاشتراكي، أي الشكل الوحيد الذي يجعل منها سلاحا للتقدم نحو الثورة العالمية والإشتراكية العالمية. إننا نكافح لتحقيق هذا الشكل من ديكتاتورية البروليتاريا دون غيره، وليس ذلك لدواعي "أخلاقية" أو إنسانوية أو مثالية تاريخية (محاولة فرض نموذج مثالي على السيرورة التاريخية) بل لأسباب تتعلق بالفعالية والواقعية السياسيتين ولأسباب تخص المبادئ البرنامجية ولأسباب الضرورة الآنية والتاريخية من وجهة نظر الدفاع عن مصالح البرولتاريا العالمية والإشتراكية العالمية.

 

من جهة أخرى، كما حدث في روسيا، لا يمكن أن تظهر الديكتاتورية "البيروقراطية" للبروليتاريا سوى كهزيمة سياسية كاريثية ومستديمة تلحقها البيروقراطية بالبروليتاريا. لم يكن صدفة أن إستعمل تروتسكي في هذا السياق تعبير "تجريد البروليتاريا سياسيا من جانب البيروقراطية". لسنا، بما نحن ثوريين بروليتاريين، محايدين أو لامبالين إزاء مسألة إنتصار أو إنهزام طبقتنا سياسيا. إننا نعمل لضمان إنتصارها. ونحاول بكل الوسائل المتاحة تفادي هزيمتها. يترتب عن ذلك مجددا أننا نناضل فقط لأجل شكل ديكتاتورية البروليتاريا الذي يضع السلطة السياسية بيد مجالس عمال منتخبة ديموقراطيا.

 

ليست المسألة أكاديمية بتاتا من وجهة النظر السياسية. إنها مشكلة ملحة لكل البلدان، ليس الإمبريالية منها وحسب، حيث اكتشفت الطبقة العاملة الآن جرائم الستالينية والبيروقراطيات العمالية عموما. إن كل مماثلة ل"ديكتاتورية البروليتاريا" بتأميم ملكية وسائل الإنتاج وحده، دون شروط خاصة متعلقة بممارسة الطبقة العاملة للسلطة في الدولة و الاقتصاد، تصبح عقبة كبرى على طريق ثورة اشتراكية ظافرة نحو تحقيق ديكتاتورية البروليتاريا في الواقع. إنها تساعد موضوعيا البورجوازية والبورجوازية الصغيرة والاشتراكيين-الديموقراطيين والأحزاب الشيوعية على إبقاء الطبقة العاملة في مشد الدولة البورجوازية الديموقراطية.

 

وتمثل هذه المسألة مشكلة أكثر إلحاحا في كل الدول العمالية المبقرطة نفسها حيث الثورة السياسية على جدول الأعمال. إن كل محاولة تضع هدفا للثورة السياسية الصاعدة في هذه البلدان تنويعات أخرى غير الديموقراطية الاشتراكية ستحكم على أصحابها بعزلة شديدة عن الجماهير. وتهدد بأن يشملهم نفس حقد البروليتاريا على البيروقراطية و"الأسياد الجدد".

 

إن التجارب الملموسة للثورة الهنغارية في أكتوبر-نونبر 1956 والثورة البولونية في غشت 1980- دجنبر1981 اللتين سارتا أبعد من غيرهما على طريق الثورة السياسية المناهضة للبيروقراطية وكذا تجربة "ربيع براغ" في 1968-1969، أتاحت استخلاص دروس بالغة الدلالة حول دينامية الثورة السياسية. كان لربيع براغ والثورة السياسية في بولونيا، فضلا عن ذلك، ميزة الحدوث في شروط اقتصادية-اجتماعية وسياسية لبلدان مثلت الطبقة العاملة غالبية سكانها النشيطين وإستندت على تقليد قديم لمنظمات جماهيرية اشتراكية وشيوعية ونقابية، وكذا في بولونيا على تجربة غنية لثورات عمالية ضد البيروقراطية ونضالات لأجل التسيير الذاتي العمالي. تؤكد هذه التجارب الثلاثة لبدايات ثورات سياسية أن مضمون الديموقراطية الاشتراكية، كما يعرضه برنامجنا وتدققه هذه الأطروحات، ليس سوى التجربة الواعية للأهداف التي ناضل من أجلها ملايين العمال حين قاموا ضد ديكتاتورية البيروقراطية الشمولية.

 

النضال ضد البوليس السري، ولأجل تحرير السجناء السياسيين، وضد قمع الأنشطة السياسية والنقابية التي تمس باحتكار البيروقراطية السائدة للسلطة، وضد الرقابة على الصحافة، وضد التعسف القضائي (أي لأجل وجود قانون مكتوب ولأجل حق المتهمين في محاكمة ودفاع طبق القانون)، وضد منظومة الحزب الواحد، وضد تحكم البيروقراطية في النتاج الاجتماعي الفائض ومجمل النظام الإقتصادين وضد الامتيازات المادية الضخمة للبيروقراطية، ولأجل تقدم جوهري نحو المساواة الإقتصادية-الإجتماعية: هذه هي المطامح الأساسية التي عبأت الجماهير الكادحة الهنغارية والتشيكوسلوفاكية في الشارع ضد البيروقراطية. وسيكون الأمر كذلك غدا في الإتحاد السوفياتي وفي الصين الشعبية.

 

ليس لتلك المطامح أية علاقة بإعادة الملكية الخاصة والرأسمالية كما زعم المفترون الستالينيون بقصد تبرير القمع المضاد للثورة الموجه ضد الإنتفاضات الجماهيرية المناهضة للبيروقراطية عبر إرسال الجيش السوفياتي إلى هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا أو إعلان حالة الحرب في بولونيا. وليست لها، في نفس الإتجاه، أية علاقة البتة بإطاحة ديكتاتورية البروليتاريا.

 

أيدت مجالس العمال في هنغاريا عام 1956، خاصة مجلس العمال المركزي في بودابيست، الدفاع عن الملكية المؤممة وعن حرية كافة للأحزاب السياسية ما عدا الفاشيين، وذلك بعد نقاشات طويلة. وخلال ربيع براغ في تشيكوسلوفاكيا كان مطلب حرية التنظيم السياسي اللامحدود للنوادي والتيارات والأحزاب السياسية محط دفاع من طرف زعماء "الربيع" الراديكاليين، ثم تبنته تيارات واسعة داخل الحزب الشيوعي نفسه، وكسب دعم أغلبية النقابات والمجالس العمالية التي برزت في ذروة الربيع. أيدت الطبقة العاملة بقوة حرية الصحافة في حين قام الناطقون الستالينيون باسم البيروقراطية، الذين أعدوا وسهلوا ودعموا تدخل البيروقراطية السوفييتية المعادي للثورة، بتركيز نيرانهم على الكتاب "اللا مسؤولين" و"المؤيدين للبورجوازية" ساعين مهما كلف الأمر إلى خنق حريتهم في التعبير. وأيدت الطبقة العاملة بأغلبية واسعة جدا حرية تعبير هؤلاء الكتاب.

 

أعطت الطبقة العاملة في بولونيا طيلة 16 شهرا من سنتي 1980-1981 دفعا لأطول تجربة نضال لأجل الديموقراطية السياسية داخل دولة عمالية. وبرهنت الديموقراطية الداخلية، التي مارسها عشرة ملايين عامل بولوني المنظمين في نقابة تضامن، على تشبث الطبقة العاملة بمبادئ الديموقراطية البروليتارية. وعبرت بوضوح شعارات حركة الجماهير بخصوص "تشريك وسائل الإنتاج والتخطيط" و"بناء جمهورية مسيرة ذاتيا" عن طموحها إلى إنتزاع الرقابة على الاقتصاد والدولة على السواء وإخضاعهما لتسيير العمال الديموقراطي والجماعي، وهو طموح تجسد في النضال لأجل التسيير الذاتي وفي بناء مجالس عمالية وأجهزة تنسيقها. يؤكد البرنامج الذي صادق عليه مؤتمر نقابة تضامن "أن على التعددية الإيديولوجية والإجتماعية والسياسية والثقافية أن تشكل قاعدة الديموقراطية في الجمهورية المسيرة ذاتيا"ويصرح فضلا عن ذلك: "تستلزم الحياة العمومية في بولونيا إصلاحات عميقة يجب أن تفضي إلى إرساء نهائي للتسيير الذاتي وللديموقراطية وللتعددية، ولهذا السبب نناضل سواء لتغيير بنيات الدولة أو لإنشاء وتطوير مؤسسات مستقلة ومسيرة ذاتيا في جميع مجالات الحياة الاجتماعية"

 

ويدقق البرنامج قائلا: "نرى أن يسري تطبيق مبادئ التعددية على الحياة السياسية. وستساعد نقابتنا وتحمي المبادرات المدنية الهادفة لإقتراح برامج اجتماعية-سياسية واقتصادية مختلفة على المجتمع"

 

إن حدوث مثلهذهالمواجهات خلال كل ثورة سياسية مقبلة أمر أكثر من محتمل. لاسيما بالاتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية. لا يمكن أن يتردد الماركسيون الثوريون أو يتخذوا موقفا إنتضاريا. يجب أن ينحازوا إلى انشغالات السواد الأعظم من الجماهير الكادحة دفاعا عن الحريات الديموقراطية دون تضييقات وضد الرقابة والقمع البيروقراطيين.

 

تميز الجماهير، إبان بداية ثورة سياسية فعلية، بين قطاعات البيروقراطية التي تحاول منع تعبئات الجماهير وتنظيمها الذاتي، حتى باستعمال العنف، وقطاعات أخرى تستسلم، مهما كان دافعها، لضغط الجماهير وتبدو متحالفة معها. سيجري دون رحمة إستبعاد القطاعات الأولى من جميع الأجهزة المنبثقة عن السلطة العمالية والشعبية الحقيقية. أما الثانية فسيطبع التعامل معها بالتسامح، بل سيقيم معها الجماهير تحالفات تكتيكية لاسيما إن هاجمها ممثلو الديكتاتورية البيروقراطية الأكثر إثارة للمقت.

 

خلال إضفاء الطابع المؤسسي على سلطة العمال، ستتخذ الجماهير الكادحة كل الإجراءات المناسبة لضمان غلبتها العددية و الاجتماعية والسياسية داخل السوفييتات المجددة بقصد تفادي سقوط هذه مرة أخرى تحت هيمنة البيروقراطية ولو جناحها التكنوقراطي و"الليبرالي".

 

لكن قد يتحقق هذا حتى بقواعد إنتخابية مواتية ولا يجب أن يستتبع بتاتا منع أحزاب أو تيارات إيديولوجية معينة تعتبر ممثلة لقطاعات البيروقراطية المتحالفة مؤقتا مع الجماهير الثورية.

 

خلال صعود الثورة السياسية المناهضة للبيروقراطية وخلال النضال لإنتصارها سيكون على الماركسيين الثوريين تجاوز العائق الهائل المتمثل في فقد الإعتبار الذي سببه ستالين والستالينية وورثتهم للماركسية والشيوعية واللينينية والإشتراكية عموما حين ماثلوا هيمنتهم وإضطهادهم المقيتين بتيارات التحرر الكبرى تلك. تستطيع الأممية الرابعة تجاوز هذا العائق بنجاح إستنادا على حصيلة نضالات تفوق نصف قرن دون توقف ولا مساومة، خاضها مؤسسوها ومناضلوها ضد هذا الحكم المضطهد. لكن يجب عليها أن ترفق هذه الحصيلة ببرنامج جريء من مطالب ملموسة تجسد، في نظر الجماهير، إسقاط حكم البيروقراطية واستبداله بسلطة يمارسها العمال أنفسهم وبمطالب الجماهير من ضمانات ضرورية لتفادي كل نزع لسلطة العمال الاقتصادية والسياسية من طرف شريحة ذات امتيازات. يؤلف برنامجنا للديموقراطية الاشتراكية كل هذه المطالب المعبرة عن صلاحية الهدف الاشتراكي بنظر مئات ملايين بروليتاريي الدول العمالية المتبقرط.

 

13) برنامج الديموقراطية الاشتراكية جزء لا يتجزأ من برنامج الثورة العالمية.

يمكن تلخيص حصيلة 60 سنة من سلطة البيروقراطية منذ صعود النظام الستاليني بالاتحاد السوفياتي وبعد 30 سنة من أزمة الستالينية العالمية كما يلي:

 

1- رغم ما يطبعها من فروق ورغم كل ما شهدته من تغيرات، ما زالت كل الدول العمالية الأوروبية والأسيوية مميزة بغياب سلطة عمال مباشرة أي مجالس عمالية أو عمالية فلاحية تمارس سلطة الدولة مباشرة وذات طابع مؤسسي ومضمونة دستوريا. ففي كل مكان تستمر منظومة حزب واحد معبرة عن احتكار السلطة الفعلية الكامل، في كافة مجالات الحياة الاجتماعية، من جانب بيروقراطيات ذات امتيازات. ويكمل غياب حق الاتجاهات داخل الحزب الواحد وإلغاء المركزية الديموقراطية الحقيقية بالمعنى اللينيني للكلمة وجود ذلك الاحتكار لممارسة سلطة الدولة. فضلا عن ذلك يستتبع الطابع الطفيلي للبيروقراطيات ذات الامتيازات المادية وجودا بدرجات مختلفة لعدة عوائق كبيرة على طريق الثورة الاشتراكية العالمية وبناء الاشتراكية. إن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية محجوز والإبداع مخنوق وكتلة ضخمة من الخيرات الاجتماعية عرضة لسوء الاستعمال وللتبذير.

 

2- رغم الانتقادات الجزئية العديدة للنظام السياسي والاقتصادي بالاتحاد السوفياتي من جانب مختلف التيارات الإيديولوجية التي نمت منذ أزمة الستالينية (التيتوية والماوية والأروشيوعية والوسطية اليسارية من الطراز الإيطالي والإسباني أو الألماني الغربي، الخ) لم يقدم أي من هذه التيارات أي بديل مختلف جوهريا للنموذج الستاليني بالاتحاد السوفياتي. فبوجه بنية السلطة البيروقراطية لم يقترح أي منها أن تمارس الطبقة العاملة السلطة مباشرة وديموقراطيا. يستحيل كل فهم للمشكل الستاليني دون تحليل ماركسي للبيروقراطية كظاهرة نوعية. يستحيل كل بديل بالنسبة لسلطة البيروقراطية (بالنسبة لإعادة الرأسمالية) دون إضفاء الطابع المؤسسي على السلطة المباشرة للبروليتاريا عبر مجالس عمال (أو عمال وفلاحين) منتخبة ديموقراطيا مع نعدد حزبي وحقوق ديموقراطية كاملة مضمونة لكافة العمال على قاعدة تسيير ذاتي مخطط وممركز ديموقراطيا للاقتصاد من جانب المنتجين المتشاركين.

 

إن أغلب الأحزاب الشيوعية بأوروبا الغربية، إذ ترفع حدة نقدها لعقائد البيروقراطية وممارستها بالاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية وتوسع السجال مع الكرملين، لا تقترح –في أفضل حال- سوى إصلاح أسوأ تجاوزات النظام الستاليني بدل تغيير ثوري. لم تقطع هذه الأحزاب حبل السرة الذي يشدها إلى البيروقراطية السوفياتية، وهي تواصل تقديم تبريرات ودفاع "موضوعي" عن الجرائم السابقة للبيروقراطية وعن الأشكال الحالية لسلطة البيروقراطية. وفي البلدان الإمبريالية، فضلا عن ذلك، يؤدي الخط العام لتلك الأحزاب، بوصفه خط تعاون طبقي وحفاظ على النظام البورجوازي حتى خلال انفجارات قوية للنضالات الجماهيرية، إلى الحد حتما من مصداقية هذه الأحزاب فيما يخص إرادتها الديموقراطية داخل الحركة العمالية. وعلى نحو منظم مسحت في انتقاداتها الفروق بين الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية العمالية. وتدافع، تحت غطاء محاربة الحزب الواحد بالاتحاد السوفياتي، عن المؤسسات البرلمانية البورجوازية بوصفها بديلا وحيدا لسلطة البيروقراطية ومنظومة الحزب الواحد، وهي بهذا المعنى تدخل ثانية إلى الحركة العمالية الأطروحات العامة للاشتراكية-الديموقراطية الكلاسيكية حول الانتقال "السلمي" و"التدريجي" نحو الاشتراكية.

 

على ضوء هذه الإخفاقات يبرز برنامج الأممية الرابعة لصالح ديكتاتورية البروليتاريا، بما هي سلطة عمال مباشرة عبر مجالس منتخبة ديموقراطيا وبتعدد الأحزاب السوفياتية، كبديل وحيد منسجم وجدي مقارنة مع المراجعتين الأساسيتين للماركسية المتمثلتين في الاشتراكية-الديموقراطية وفي التقنين الستاليني لسلطة فئة بيروقراطية غاصبة.

 

هذا البرنامج، في خطوطه العريضة، استمرار لكتابات ماركس وإنجلز حول كمونة باريس وكتاب لينين "الدولة والثورة" ووثائق المؤتمرات الأولى للأممية الشيوعية حول ديكتاتورية البروليتاريا، وجرى، على ضوء تجارب ثورات البروليتاريا اللاحقة وانحطاط أو تشوه الدول العمالية بيروقراطيا، إغناؤه في البدء من جانب تروتسكي في "الثورة المعذورة" وفي وثائق تأسيس الأممية الرابعة، وفيما بعد في وثائق الأممية الرابعة بعد الحرب العالمية الثانية. يلخص هذا النص التصورات الحالية للماركسيين الثوريين حول هذا المظهر الأساسي من برنامج الثورة الاشتراكية.

Same author