تم اعتماد هذه الوثيقة خلال اجتماع للأمانة الموحدة للأممية الرابعة سنة 1992. إنها ثمرة شهر من النقاش داخل هذه المنظمة العالمية وتنظيماتها المنتسبة، كما أنها نتاج سيرورة طويلة من الصياغات المتعددة والتصحيحات لمشروع أصلي قدم للمؤتمر العالمي للأممية الرابعة سنة 1991."
تقديــــم
يوجد العالم في مفترق الطرق. فالمعارف والقوى الإنتاجية الموجودة تسمح بتلبية الحاجيات المادية والثقافية الأولية لكل سكان الكرة الأرضية. لكن المجاعة وانعدام السكن ينتشران حتى في البلدان الأكثر غنى. ملايين البشر يموتون بسبب أمراض قابلة للعلاج. كما أن قتل المواليد الإناث وكل الأشكال الأخرى من التمييز الجنسي جعلا سكان العالم يفتقدون اليوم إلى مئة مليون امرأة.
الهوة تتسع بين الأغنياء والفقراء. كانت من 1 إلى 60 سنة 1960، وفي 1990 صارت من 1 إلى 150 بين 20 % من السكان الأكثر غنى و 20 % من السكان الأكثر فقرا في كوكبنا.
إن الوجود البشري مهدد قبل كل شيء بتراكم الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية وكذا بالأضرار الجلية التي تلحق بالمحيط البيئي (biosphère).
إن النظام الرأسمالي هو المسؤول الرئيسي عن هذه المصائب. لكن، ورغم الاحتجاج المستمر الذي تشكله النضالات الجماهيرية الواسعة، والتي تتخذ أشكالا خاصة في كل من القطاعات الثلاثة للواقع العالمي: البلدان الإمبريالية، بلدان "العالم الثالث" وبلدان الشرق، فإن هذا النظام يبدو في مجمله وكأنه أقل عرضة للرفض أكثر مما كان عليه الأمر منذ عقود. فكونه قد حقق انتصارا نهائيا على الاشتراكية ـ التي تتم مماثلتها خطأ مع المجتمعات الخاضعة للسيطرة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية ـ أصبح فكرة جد شائعة.
وهذا راجع قبل كل شيء إلى كون الاشتراكية كهدف اجتماعي شامل، تعيش أزمة مصداقية في أعين الجماهير. وقد نتجت هذه الأزمة، التي بدأت تتطور على الأقل منذ بداية الثمانينات، عن وعي هذه الجماهير بالإفلاس العملي لكل من الستالينية والستالينية-الجديدة، والاشتراكية-الديموقراطية، والقومية الشعبوية في "العالم الثالث". كما أن الشكل الملموس الذي اتخذه انهيار الديكتاتوريات البيروقراطية في الشرق، دون أي تقدم نحو الاشتراكية، ساهم فيها بكل قوة.
وتعرقل هذه الأزمة من جهتها، في الوقت الراهن، إيجاد حل للمشاكل الملحة التي تتخبط فيها الإنسانية، مضفية على حركات الاحتجاج الجماهيرية طابعا يتسم أساسا بالتجزؤ وانعدام الاستمرارية.
وهذه المشاكل لا يمكن حلها، في نهاية التحليل، إلا إذا تم تجاوز الطابع المستلب (بفتح اللام) والمستلب (بكسر اللام) للعمل الإنساني بشكل حاسم، إلا إذا صارت الأغلبية الواسعة من الرجال والنساء سادة مصيرهم سواء فيما يخص الإنتاج أو الاستهلاك أو المواطنية. ولبلوغ هذا الهدف لابد لهم أن يستولوا على سلطة تقرير مصيرهم بكل وعي وحرية وديمقراطية. هذا هو مغزى مجتمع تسيير ذاتي وحضارة سامية، وهذا هو المضمون الأساسي للاشتراكية بالنسبة لنا.
I) الرهان
1) تصاعد الأخطار
رغم كل إجراءات الحد من الترسانات النووية، فإن السباق إلى التسلح ما زال متواصلا. وستستعمل الأسلحة المتراكمة في الأخير مع ما سينتج عن ذلك من عواقب بربرية. منذ 1945 كانت هناك أكثر من 100 حرب "محلية" كلفت 20 مليون قتيل. وكشف الاعتداء الإمبريالي الوحشي على العراق سنة 1991، عن كل النتائج البربرية لهذا السباق. ألا يعني وجود مخزونات هائلة من الأسلحة النووية وتطور الأسلحة البيولوجية وتكاثر المحطات النووية القابلة للتحول إلى مقدارها من الصواريخ النووية، خطر الإبادة المادية للجنس البشري، وذلك حتى في حالة نشوب حروب "تقليدية"؟
إن الأخطار المتعلقة بالارتفاع التدريجي لحرارة الجو، بإتلاف الغابات الاستوائية والمناطق المعتدلة، وبتسمم المحيطات واحتياطي الماء العذب، وكذا بتلوث الهواء، بالتدمير التدريجي للطبقة العضوية للأراضي الزراعية، وبالانقراض الجماعي للكائنات الحية التي تندثر اليوم بوثيرة أكثر بألف مرة من "المعتاد"، ثم بخنق المدن وبتدهور البوادي، كلها أخطار تتقارن لتقوض أسس الوجود المادي للإنسانية.
إن شعوبا بأكملها معرضة للانحدار نحو المجاعة، ليس لأن المردودية الفلاحية العالمية جد ضعيفة، بل لأنها جد مرتفعة كي تضمن أرباح كافية للفلاحة-الصناعية ولكبار المزارعين في البلدان الأكثر غنى. في هذه الأخيرة تمنح الدولة إعانات لتقليص ممنهج لحقول القمح بهدف "دعم الأثمان"، مجازفة باستنفاد احتياطي البشرية جمعاء من الحبوب، عندما تتعاقب بعض المواسم ذات محاصيل رديئة.
تنتج عن الأزمة الطويلة التي يمر منها الاقتصاد العالمي منذ أوائل السبعينات، عواقب كارثية على شروط عيش شعوب معظم بلدان "العالم الثالث". فحسب تقرير رسمي لمنظمة الأمم المتحدة يوجد مليار من الفقراء، حتى وإن كان تحديدهم ضيقا جدا.
تساهم المكتسبات المنتزعة خلال العقود السابقة من النضالات العمالية (خاصة فيما يتعلق بالحماية الاجتماعية) من جهة، والقوة الاجتماعية التي تشكلها الطبقة العاملة من جهة أخرى، في تقليص عواقب الأزمة في المتروبولات الإمبريالية إلى حد الآن، رغم أن هذه العواقب تبدو أكثر فأكثر جلاء. ومع ذلك فالبطالة ترتفع بوتيرة سريعة: أكثر من 40 مليون عاطل في البلدان الأكثر غنى مقابل 10 ملايين في بداية السبعينات، يمثل فيها ملايين الفقراء الجدد نسبة تتراوح بين 10 % إلى 35 % من السكان، حسب البلدان.
عدد من الظواهر المتنامية في المجتمع كاستقرار الشغل والتهميش وانعدام الأمن، تترجم على الصعيد السياسي بميولات نحو ترسيخ الدولة القوية والحد من الحريات الديموقراطية والحقوق النقابية، كما تترجم بصعود العنصرية وكره الأجانب وبالهجوم على حقوق النساء والمثليين الجنسيين من الرجال والنساء، وكذا ببروز يمين متطرف نيو- فاشستي. ويشكل اللجوء إلى التعذيب والى إرهاب الدولة، واقعا في أكثر من ستين بلدا في العالم من بينها الدول الإمبريالية. وفي بلدان "العالم الثالث"، يضفي النضال ضد القمع، بما في ذلك الاختطافات والاختفاءات، بعدا واسعا على النضال من أجل الحريات الديموقراطية اليوم. علامات هذا التردي تتجسد في ظهور ملايين العبيد من جديد في العالم، بعد مرور 150 سنة على الإلغاء الرسمي للعبودية.
أكيد أن المستغلين (بفتح الغين) والمضطهدين (بفتح الهاء) لن يظلوا مكتوفي الأيدي أمام كوارث تهدد مستقبلهم بل وحتى وجودهم. فقد شارك ملايين الرجال والنساء، إبان السنوات الأخيرة، في التعبئة ضد الحرب والأسلحة النووية والنزعة العسكرية، من أجل حماية البيئة ومن أجل حق الإجهاض، ومن أجل حق القوميات المضطهدة (بفتح الهاء) في تقرير مصيرها، ضد العنصرية والفاشية-الجديدة، وضد التقشف والبطالة، ضد الإمبريالية والمجاعة وآفة المديونية التي تسحق "العالم الثالث"، وضد الامتيازات والديكتاتوريات البيروقراطية.
إننا نناضل من أجل مخرج شامل للأزمة، يضمن حظوظ تحرر اجتماعي للإنسانية ويستجيب بشكل مرضي لحقوق المرأة والرجل ليس فقط المدنية والسياسية، بل كذلك حقهم الكامل في الشغل وفي مستوى عيش لائق، حقهم في الكرامة وفي الصحة، في التعليم وفي السكن.
لن تستطيع لا شريعة الغاب الرأسمالية ولا أي ديكتاتورية بيروقراطية أن تستجيب لهذا التحدي، والإطاحة بهما هي المخرج الاشتراكي الأممي لأزمة الحضارة الإنسانية. وهذه الإمكانية ترتكز على قوة نضال البروليتاريا والمضطهدين (بفتح الهاء)، وقدرتهم على الإبداع في أساليبه. إنها ليست وهما. فالوهم تشكله بالأحرى تلك الفكرة التي تؤمن بأنه يكفينا تضحيات صبورة وإصلاحات حكيمة لنتحاشى الأخطار. أبدا لم تكن الاستجداءات الإصلاحية كافية للحيلولة دون حدوث الأزمات وتفادي الحروب، أو لإيقاف الانفجارات الاجتماعية، وسوف لن توقفها في المستقبل. فالخضوع والتنازل كلفا دائما أكثر بكثير مما كلفه النضال.
2) تجاوز الأزمة لن يكون هينا
إن الذين فتنتهم الطفرة الاقتصادية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانوا يراهنون على رأسمالية سلمية واجتماعية تضمن التوظيف الكامل وزيادة دائمة في المداخيل الفعلية، هؤلاء سبق أن رأوا بأم أعينهم انهيار أوهامهم. أما الذين يراهنون اليوم على أن الأزمة سيتم تجاوزها بالتي هي أحسن، إذا ما تحلى المستغلون (بفتح اللام) بالصبر وقدموا تضحيات جسيمة، أولئك لا يدركون العلاقة الوثيقة بين الأخطار التي تهددنا والمنطق الباطني لاقتصاد السوق المعمم. وهذا المنطق هو الذي يشكل جوهر الرأسمالية بالذات: منافسة حادة دون مراعاة عواقبها على المجتمع برمته، بحث جامح عن الربح والاغتناء الخاص دون أدنى اعتبار للتكلفة البشرية وللأعطاب التي تصيب الطبيعة من جراء هذا التسابق المجنون، تنامي السلوكات التنافسية والعدوانية في العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول، نزعة الأنانية والارتشاء المعممين، حرب الجميع ضد الجميع و"ويل للضعفاء والمهزومين".
تعتبر أزمة الاقتصاد الرأسمالي الطويلة نتاج منطقه الصارم هذا. إنها لا تلغي أطوار عودة النمو الاقتصادي. لكن أطوار النمو هذه، التي لم تدرك حتى أن تحد من البطالة في البلدان الغنية نفسها، يستتبعها تحميل بلدان "العالم الثالث" وبلدان المتروبولات الأكثر ضعفا، أعباء الأزمة بشكل متزايد. إن امتداد الأزمة زمنيا تعني الآن محنة شديدة لا تنتهي بالنسبة للبؤساء والمهمشين.
إذا كانت الانحسارات الاقتصادية للعقود الأولى التالية للحرب الثانية تقل أهمية عن مثيلاتها خلال الخمسة عقود السابقة، فإنها أخذت تميل إلى الاحتداد منذ السبعينات. فالاقتصاد الرأسمالي لم يفلح في تجاوز المأزق الذي يتمثل في اختيار أحد أمرين: إما تضخم حاد وإما أزمات فيض- إنتاج متفاقمة. وبهذا يظل احتمال حدوث انهيار بنكي- مالي كالذي حدث سنة 1931، واردا دون أن يكون حتميا.
إن الذي يقودنا نحو المصائب الكبرى ليس هو تطور التكنولوجيا والعلم والآثار السلبية التي يزعم أنها مرتبطة بالضبط بجوهرهما وبالتالي لا يمكن التحكم فيها، بل خضوع هذا التطور لمتطلبات المنافسة والربح أو للاستهتار البيروقراطي. فخضوع العلم لمتطلبات ضيقة مرتبطة بالمردودية الآنية هو الذي يثير سرعة التطور التقني، التي تبدو وكأنها قاهرة، ويؤدي إلى ازدهار تكنولوجيات تحمل في طياتها أخطارا جسيمة. إن الرأسمالية تسمح بتركيب، في جميع المجالات، بين عقلانية ضيقة وجزئية ولاعقلانية شاملة وأكثر فأكثر خطورة.
إنه لمن الوهم أن نؤمن بأن التقدم العلمي يؤدي أوتوماتيكيا إلى نتائج إيجابية. لكننا يجب أن نعترف بأن الإنسانية ليست في حاجة إلى عودة إلى الخرافات والأساطير الظلامية، بل هي في حاجة إلى مزيد من العلم والعقل والتقنية، علم يتوافق مع الوعي بمصالحها الاجتماعية على المدى البعيد، وتقنية خاضعة لفطنة المنتجين والمنتجات الشركاء ولأخلاقهم (هن) الجماعية. تحقيق هذا يستتبعه تحقيق هدفنا المتمثل في انعتاق الإنسانية الشامل وتضامنها الأممي.
ويعتبر النضال من أجل حقوق الرجل والمرأة في جميع القارات في صلب هذه المعركة. ففي مجتمع يسود فيه مبدأ احترام الملكية الرأسمالية وأولوية الربح، يستحيل أن نضمن لكل الرجال والنساء التمتع الكامل والمتكامل بالحقوق الديموقراطية والاجتماعية الأساسية. يجب على الحركة العمالية أن ترد على البورجوازية بحملتها من أجل حقوق المرأة والرجل، وأن تكون المدافع الأكثر حزما عن الحقوق الديموقراطية. لكنها لن تستطيع أن تكسب الثقة وقوة التأثير إلا إذا طبقت نفس المبادئ في صفوفها ولم تسمح بأي انتهاك لهذه الحقوق في البلدان التي تكون فيها في السلطة.
توجد مصالح قوية تتعارض مع نزع شامل ومعمم للسلاح، وتحول دون الحد من تلوث الهواء والبحار والقارات، والقضاء على المجاعة والبؤس وعلى حالة الاكتئاب واليأس اليوميين، كما تحول دون القضاء على المصول القاتلة ضد هذا الاكتئاب كالإدمان على الكحول والمخدرات.
إنه لمن الوهم أن نتصور رأسمالية دون أزمات فيض- إنتاج دورية والتي تشكل إهانة حقيقية للإنسانية، ما دام ملايين البشر يوجدون في عوز كامل فيما يخص حاجياتهم الأولية. كما أنه من الوهم أن نتصور رأسمالية بدون بطالة وفقر، بدون ميز ضد النساء والشباب والشيوخ والمهاجرين والأقليات القومية، بدون عنصرية وكره للأجانب. ولن يستطيع نمط الإنتاج الرأسمالي غدا كما بالأمس أن يتجنب حدوث كل هذه المصائب.
يؤدي التدويل المتزايد لقوى الإنتاج لميل إلى تدويل الرأسمال، وينطوي خاصة على طابع الشمولية المتنامية الذي تكتسيه مشاكل الإنسانية الرئيسية والتي لا يمكن حلها إلا على صعيد كوني وبحلول فيدرالية اشتراكية عالمية.
لكن الإمبريالية عاجزة عن ضبط هذه الشمولية، رغم هيمنتها الواسعة والمؤقتة على الحلبة السياسية العالمية. إنها لا تستطيع في الوقت الراهن أن تسحق سكانها كما فعلت الفاشية بالأمس. فالمنافسات بين الإمبرياليات، والتي تزداد احتدادا في مرحلة الأزمة، تمزقها، وهي حبيسة الدولة القومية التي مازالت قائمة، وترفضها قطاعات واسعة من سكان العالم. بيد أن الدولة القوية تنمو وتبرز معها بيئة ملائمة للنزعة العنصرية والفاشستية.
وإذا ما تهنا في غض الطرف عن هذه الميولات الخطيرة، سنكون قد ارتكبنا سخافة وحماقة لا تضاهيهما حتى تلك التي ارتكبت في أوشويتز وهيروشيما.
3) الكارثة تنطلق الآن في "العالم الثالث"
إن الأخطار التي تطغى على البشرية تتجلى منذ الآن في البلدان التابعة، التي بدأت تحل فيها البربرية. فليس مقبولا أن نحكم على الرأسمالية فقط انطلاقا من شروط العيش التي تستفيد منها أقلية ضئيلة من سكان المعمورة التي تشكلها كل من البورجوازية والطبقات الوسطى والفئات المأجورة المحظوظة في البلدان الأكثر غنى.
لقد عرفت بلدان "العالم الثالث"، مع بعض الاستثناءات، تدهورا كارثيا لمستوى متوسط العيش خلال العقد الأخير، مما أدى إلى شروط عيش لا إنسانية. فظواهر الإفقار المطلق تفوق أحيانا ما كانت عليه في الثلاثينات، ولم تعد تنفع معها الزراعة المعاشية. كما أن القدرة الشرائية لدى المأجورين والمأجورات غالبا ما تقلصت بحوالي 50 %. وفي البلدان الأكثر فقرا، انخفض استهلاك الوحدات الحرارية بالنسبة لنصف السكان الأكثر عوزا إلى مستوى ما كان عليه في المعتقلات النازية قبل 1940، وبلغت فيها نسبة البطالة الدائمة 40,5 % من السكان النشيطين.
ودائما في هذه البلدان، يموت كل سنة 15 مليون طفل من جراء المجاعة وسوء التغذية وانعدام العلاج. فكل خمس سنوات، تخلف هذه المجزرة الصامتة أكثر مما خلفته الحرب العالمية الثانية من الضحايا بما فيها الإبادة الجماعية لليهود من طرف النازيين (Holo-causte) وهيروشيما. هذا هو ثمن بقاء الرأسمالية إذن: ما يعادل العديد من الحروب العالمية ضد الأطفال منذ 1945.
إن كل ما يكفي هؤلاء الأطفال من موارد للتغذية والعلاج، للسكن والتدريس متوفرة تماما على الصعيد العالمي، شريطة ألا يتم تبذيرها في نفقات السلاح. وشريطة أن يتم الكف عن إخضاع توزيعها لمنطق ربح تروستات الصناعات الكيماوية والصيدلية والزراعات-الغذائية ولتعطش صانعي الأسلحة إلى الإثراء الفاحش، وأن تتم إعادة توزيعها لصالح المحرومين.
تعمد المتروبولات الإمبريالية إلى تصدير كل المواد الملوثة إلى بلدان "العالم الثالث"، التي تحولت إلى قمامة بخسة الثمن ترمى فيها كل النفايات الصناعية الخطيرة والغير قابلة لإعادة تصنيعها. وأصبحت الأرض، التي كانت منذ ملايين السنين معدة لإنتاج غذاء الفلاحين الأساسي، تستغل أكثر فأكثر للزراعات المخصصة للتسويق والتصدير. وينتج عن هذا تصحر متزايد وإتلاف سريع للغابات الاستوائية، كما ينتج عنه انتقال لصناعات تدميرية بصورة خاصة إلى تلك البلدان مسببة فيها، بشكل سريع، كوارث بيئية أسوأ بكثير من تلك التي لحقت بالبلدان الغنية.
يؤدي كل من البحث عن العملة الصعبة لتمويل فوائد الديون والتطور الممنهج للزراعات التصديرية، إلى احتداد الميل نحو المجاعة وسوء التغذية. في الوقت الراهن، تعتبر البلدان الفقيرة مصدرا جليا للرساميل بالنسبة للبلدان الغنية، وهذا دون أن نعتبر نتائج تدهور معدل الربح العاملي (Taux de change)، ونتائج كل ما تقوم به الطبقات المالكة في بلدان "العالم الثالث" من رشوة وفساد، وتهريب الأموال وتحويل الدين العمومي لفائدة إثرائها الخاص. إن ثقل الديون كنتيجة للتبعية والتخلف يسحق أولا البلدان الأكثر فقرا.
إن النضال ضد تسديد الديون ومن أجل إلغائها المباشر والكامل ـ الرأسمال المستحق والفوائد ـ يبدأ بالمعارضة اليومية لسياسات التقشف على مستوى الأجور التي تؤثر على القدرة الشرائية بشكل فظيع، ولتقليص الميزانيات الاجتماعية كالتعليم والصحة الذي يمليه صندوق النقد الدولي، وكذا لتفكيك القطاع العام وللكوارث البيئية المرتبطة بالتغلغل الوحشي للرأسمال.
لقد شرع العمال والفلاحون والمعدمون في المدن وفي أحياء الصفيح في مقاومة هذا التدهور الجهنمي لشروط عيشهم. ففي أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، تتوالى موجات من الإضرابات واحتلال الأراضي والتمردات الفلاحية، موجات من الانفجارات المدينية للسكان المفقرين والمهمشين ومن النضالات الجماعية المشتركة. وتحققت كذلك انتصارات انتخابية وتمت إضرابات عامة، كما تبذل الجهود للتنظيم السياسي والنقابي على أساس خط مستقل عن الدولة والبورجوازية وكذا لإيجاد بؤر للمقاومة المسلحة.
4) الأزمة في الاتحاد السوفياتي وفي بلدان الشرق
بدأت تنضج هذه الأزمة منذ سنوات، ولم تكن سياسة ميخائيل غورباتشوف سببا فيها بل فقط أبرزتها إلى السطح. وكانت تجلياتها في الاتحاد السوفياتي وفي أوروبا الشرقية تتمثل في نمو اقتصادي بطيء، في تطور تكنولوجي يبدو أكثر فأكثر تأخرا مقارنة مع البلدان الإمبريالية، وفي ركود وتراجع على الصعيد الاجتماعي. كما تتمثل في بروز واسع لظواهر فقر جديد، في أزمة أخلاقية وإيديولوجية عميقة، وفي فقد المؤسسات السياسية كامل مصداقيتها. ينضاف إلى هذا كله فقدان طابع التحفيز لدى العمل وغياب متزايد للالتزام السياسي، ثم انكفاء قطاعات جماهيرية واسعة نحو الامتثالية والحياة الخاصة، الأمر الذي زاد صراحة في مدة حكم الديكتاتورية البيروقراطية. وقد وازنت هذه الميولات، بشكل جزئي فقط وغير كاف، تجدد الثقة الذاتية لدى العمال على مستوى المقاولة وحدها وكذلك بروز رأي سياسي مستقل في بعض "الأوساط المتدنية".
إن هذه الأزمة لم تكن لا أزمة الرأسمالية ولا أزمة الاشتراكية. فالرأسمالية تفترض أن تكون ليس قوة العمل فحسب، بل أيضا وسائل الإنتاج الكبرى، سلعا تشترى وتباع في السوق كما تفترض أن يشكل الرأسمال-النقدي نقطة انطلاقة عملية الإنتاج ونقطة نهايتها. وكل هذا لم يميز اقتصاد الاتحاد السوفياتي سابقا.
أما الاشتراكية، فلا يمكن فصلها عن بلوغ مستوى مرتفع سواء في إنتاجية العمل أو في تلبية متطلبات الجماهير الاستهلاكية. وهي تفترض ديموقراطية جد واسعة بالنسبة للقسم الأعظم من السكان، ومجابهة الأفكار والآراء بكل حرية، واستقلالية المنظمات الجماهيرية عن الأحزاب والدولة. كما تفترض التسيير الذاتي للجماهير وممارستها للسلطة بنفسها. هكذا فالاشتراكية لم توجد قط في هذه البلدان. لقد ارتكب ستالين جريمة كبرى عندما قرن مفهوم الاشتراكية بالفظاعات البيروقراطية من قبيل الديكتاتورية البوليسية ومعسكرات الاعتقال (Goulag) والتفاوتات المتنامية، ومن قبيل الفساد والرشوة المعممين وفرض الوصاية على الشباب والعلوم والإبداع الأدبي والفني.
لا تمثل هذه البلدان بتاتا أي ضرب من الرأسمالية. فأزمتها تخص المجتمعات الانتقالية لفترة ما بعد الرأسمالية، والتي هيمنت عليها شريحة بيروقراطية محظوظة وطفيلية اغتصبت سلطة العمال. وكانت تتسم هذه المجتمعات بتناقض أكثر فأكثر حدة بين القدرة على التقدم الاجتماعي من جهة، وبين الفوضى الاقتصادية والتفاوتات والاضطهاد والرشوة التي تنتج عن الديكتاتورية البيروقراطية من جهة أخرى.
يمكن للبيروقراطية أن تباشر بعض الإصلاحات كي تنقد سلطتها السياسية، لكن كل تلك المحاولات الإصلاحية التي قام بها كل من تيتو وخروتشيف، ماو ودينغ باءت بالفشل، رغم نجاحاتها الأولية. وعرفت مجهودات غورباتشوف نفس المآل. إلا أن هذه الإصلاحات ساهمت في نفس الوقت في تغذية تمايز اجتماعي عميق شمل حتى أوساط البيروقراطية نفسها، مع ظهور قوى سياسية واجتماعية مناصرة للرأسمالية ونهوض نشاط جماهيري على مستوى القاعدة، نهوض لم يسبق له مثيل في الاتحاد السوفياتي منذ الثورة-المضادة الستالينية.
إن الطريقة التي ردت بها جماهير أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي على الأزمة المتنامية في هذه البلدان قد تغيرت تدريجيا منذ أواخر السبعينات وبداية الثمانينات. وقد تبين للاشتراكيين الثوريين أنهم تأخروا في إدراك هذا التحول بل أخطأوا، لنفس السبب، بصدد إمكانيات مخرج سريع لهذه الأزمة يكون ملائما للاشتراكية. إن العامل الأساسي الذي يفسر هذا التبدل في سلوك الجماهير يكمن بلا شك في القمع الذي انهال على حركات "الاحتجاج" منذ تلك الفترة في هذه البلدان، سواء منها حركات الاحتجاج العمالية أو الثقافية. وقد أفسد هذا القمع طاقة النضال الاشتراكي التي كانت مثلا لدى نقابة "التضامن" في 81-1980.
لكن إلى جانب هذا القمع، تنضاف النتائج الموضوعية للأزمة الشاملة والحادة منذ ذلك الحين. وهذه النتائج يشكلها ليس فقط تدهور شروط عيش الجماهير بل أيضا وعي بإفلاس نظام اقتصادي يقوم على الإمرة والوصاية (“Economie de commandement”). هذا الأخير تمت مماثلته خطأ بالاشتراكية نظرا لاستعمال الماسكين بزمام السلطة لمفهوم "الاشتراكية القائمة فعلا"، ونظرا للدعاية الإمبريالية التي تصف هذه البلدان ب"الاشتراكية".
إن غياب تعبئة الحركة العمالية العالمية من أجل دعم النضالات المعادية للبيروقراطية خلال الفترة الممتدة بين 1953 و 1981، كان وراء لجوء جماهير هذه البلدان إلى البورجوازية للبحث عن الدعم الإيديولوجي والمادي، عوض توجهها إلى البروليتاريا العالمية في وقت كانت فيه البيروقراطية قد انهارت. وفجأة تكسرت استمرارية تلك الحلقة التي بدأت مع التمرد العمالي في ألمانيا الشرقية سنة 1953 والتعبئة العمالية في بولونيا مرورا بثورة 1956 الهنغارية، وامتدت إلى "ربيع براغ" في 69-1968 والى طاقة التسيير الذاتي الاشتراكي التي أبان عنها انفجار نقابة "التضامن" في بولونيا خلال 81-1980.
لم تتصد جماهير أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي لأزمات انهيار الديكتاتوريات الستالينية والما بعد-الستالينية في 1991-1989 بأي نوع من المبادرة السياسية الطبقية. فقد تركت المجال مفتوحا، على الصعيد السياسي وفي الحالة الراهنة، لأجنحة من البيروقراطية بما فيها تلك المناصرة للرأسمالية ول"ليبراليي" البورجوازية-الصغيرة والمتوسطة الذين يعتبرون "اقتصاد السوق" وسيلة للسير على طريق التراكم البدائي للرأسمال. زيادة على هذا، أدت الأنظمة البيروقراطية، بإلغائها للحريات الديموقراطية الأساسية والحرية الفردية، إلى جعل مجموع مؤسسات الدولة ذات الطابع البورجوازي التي تتم ممثالتها مع الديموقراطية، تستعيد اعتبارها في أعين الجماهير.
لكن القيام بالمحاولات الأولى فيما يخص الخوصصة الاقتصادية ثم الانفتاحات على الرأسمال العالمي وبداية عودة الرأسمالية، سيم حتما وفق سياسة تقشف وتفاوت حاد تهدد بتحويل مثل هذه العودة إلى كارثة حقيقية، ترمي بعشرات الملايين من الأشخاص إلى النكوص والى البؤس الاجتماعي والثقافي. وكلما دفعت الأنظمة القائمة في هذا الاتجاه، كلما تزايدت مقاومة الجماهير واحتدت، خصوصا في أوساط العمال. ويمكن أن نتوقع أيضا مقاومة واسعة لمحاولات الهجوم على الأوضاع الاجتماعية للنساء، خاصة ما يتعلق بحق الإجهاض.
أمام هذه المقاومة سيكون دعاة الليبرالية الاقتصادية المفرطة، ما داموا لا يربطونها بمواصلة انفتاح ديموقراطي، مجبرين على اللجوء إلى تضييق جديد للحريات الديموقراطية، لا بل إلى القمع الاستبدادي إذا ما سمحت موازين القوى بذلك. إن تعميم هذه الحريات وتدعيمها يستلزم إرساء سلطة عمالية وشعبية. في غياب هكذا سلطة ونظرا إلى الأهمية التي ستكتسيها المقاومة الجماهيرية، ستعرف هذه البلدان مرحلة طويلة من التقلقل والبلبلة يمكن أن تنضج خلالها شيئا فشيئا شروط انتصار عمالي. لكن الأمر يستدعي الوقت ومزيدا من التجربة النضالية قبل أن يستحوذ العمال على استقلالهم السياسي الطبقي وعلى مستوى الوعي الضروريين لمثل هذا الانتصار.
5) الانتقال نحو الاشتراكية يستبعد هيمنة السوق
إزاء احتداد الأزمة في الاتحاد السوفياتي وفي أوروبا الشرقية، استسلمت قطاعات هامة من السكان الكادحين سواء في الشرق أو في الغرب، للفكرة التي تقول بأن هيمنة السوق تعتبر أهون الشرور مقارنة مع الفساد البيروقراطي. وشتان بين هذه الفكرة وبين مدح "اشتراكية السوق" الذي يقوم به الإيديولوجيون الإصلاحيون والإصلاحيون الجدد عبر العالم. بيد أن "اشتراكية السوق" ليست فكرة منطقية". ففي مجتمع اشتراكي أصيل، يكون المنتجون الشركاء-الأحرار هم الذين يقررون بأنفسهم تحديد إنتاجهم، وكيفية إنتاجه وطريقة توزيع منتوجاتهم، على الأقل في نسبها الأساسية. وهكذا لا يتوافق التسيير الديموقراطي للاقتصاد والتحديد الواعي والجماعي للضروريات وسبل تلبيتها، مع هيمنة السوق والمنافسة.
قبل حلول مجتمع الوفرة، أي إشباع كل الحاجات الموضوعية، غالبا ما يكون كل نظام اقتصادي تحت إكراه القلة النسبية للموارد الإنتاجية. وهذا يعني أن تلبية بعض الحاجيات تتم على حساب الحريات. والذين يراقبون فائض-الإنتاج الاجتماعي (طبقات أو شرائح مهيمنة)، يملكون سلطة القرار النهائي فيما يخص استعمال الموارد التي ما تزال نادرة نسبيا.
في المجتمع الرأسمالي، ترتهن هذه القرارات بالشركات الكبرى وبالثروات الكبرى، أي بضرورات الربح وتراكم الرأسمال الخاص. وتمنح هذه الضرورات صورة أخرى ل"قوانين السوق".
ففي البلدان "الغنية"، تبنى مساكن ثانوية فخمة لقضاء العطل، في الوقت الذي يوجد فيه ملايين من "المشردين". وهناك 1,7 مليار شخص لا يتوفرون على الماء الضروري، في الوقت الذي توجد فيه مئات الآلاف من المسابح الخاصة فقط في كاليفورنيا. وتستثمر أموال طائلة لإنتاج أدوات عديمة الجدوى لا بل مضرة، في حين تظل الحاجيات الأولية لعدة ملايير من البشر دون أية تلبية تذكر.
في الاقتصاد البيروقراطي السوفياتي والتشكيلات المماثلة، كانت تتحدد الأولويات في استعمال الموارد بطريقة تعسفية وتفرض بشكل استبدادي، مما أدى إلى تفاوتات وتبذيرات هائلة ومتزايدة.
أما في الاقتصاد الاشتراكي، الذي يسيره المنتجون-المستهلكون-المواطنون والمواطنات بأنفسهم (هن)، فإن هذه الأولويات ستحدد ديموقراطيا من طرف الجماهير الكادحة وستشكل أساس التخطيط. ويعتبر التخطيط الاشتراكي الديموقراطي أمرا ضروريا لضمان احترام هذه الأولويات. فهو سيحول دون أن تتحكم "القوانين الاقتصادية" العفوية والمطلقة في مسار التطور الاقتصادي. كما سيضمن تحديدا واعيا لهذا المسار، خصوصا في مجال التشغيل وتحديد مدة العمل ووتيرته، وفي مجال إرساء مساواة متزايدة ومنح الأولويات لقطاعي الصحة والتعليم، لحماية البيئة وللثقافة. إن هذه العلاقة بين تسيير ذاتي خاضع لتخطيط ديموقراطي وتلبية حاجيات الاستهلاك، هي التي تسمح بتفوق اقتصاد اشتراكي أصيل على النظام الرأسمالي حتى بشكله المسمى "اقتصاد سوق جماعي". وهذا يترابط مع تركيب بين أشكال متنوعة من ملكية وسائل الإنتاج و"التبادل" الكبرى: فهي جماعية وبعيدة عن أي جهاز دولة من جهة، وتعاونية وخاصة بالنسبة لصغار المالكين من جهة أخرى.
عندما يدرك المنتجون والمنتجات عمليا أنهم (هن) يملكون السلطة ليضمنوا لأنفسهم (هن) مصالح وخدمات نوعية، موزعة بكل حرية، فإنهم (هن) سيبرهنون على طاقة هائلة تحفز على عمل خلاق ومبدع، وتتشكل من مسيرين مسؤولين وأمناء. مد ذاك، سيمتد "روح المبادرة" الاقتصادية بمعناه العقلاني، والذي لا تمتلكه إلا أقلية جد ضئيلة من المالكين الخواص في النظام الرأسمالي وفي ظل هيمنة السوق، سيمتد ليشمل الأغلبية الواسعة من المنتجين والمنتجات.
يمكن للاقتصاد الاشتراكي الذي ينبني على التسيير الذاتي والتخطيط الديموقراطي أن يبدو نوعيا أكثر نجاعة وعقلانية وأكثر إنسانية مقارنة مع الاقتصاد الرأسمالي الأكثر تقدما. يمكن له ذلك إذا ما اعتمد على طاقة الإعلاميات الهائلة، وتفعل فيه حيوية ترتكز على إمكانية تقليص جذري لساعات العمل في اليوم وفي الأسبوع، وعلى تشريك متنام للعمل المنزلي، وإذا ما دمج في انشغالاته تلك التي تتعلق بالحفاظ على البيئة.
لقد أثبتت التجربة اليوغوسلافية بشكل مأساوي، أن التسيير الذاتي العمالي واقتصاد السوق يتنافيان على المدى البعيد. يمكن للعمال أن يحصلوا فيه على سلطات هامة اخل المصنع، بما فيها إقالة مديرهم. لكن إذا ارتهن مصير المصنع بنتائج ترتبط بالسوق والتي ترتبط بدورها بمجموعة من العوامل مستقلة عن إرادة العمال (من بينها مستوى التكنولوجيا التي كانت أساس الانطلاقة، درجة ممارسة الاحتكار بالنسبة للمواد التي تعرض للبيع، تمييز في ما يخص الولوج إلى المؤسسات التي تمنح القروض، تمييز لا يقل أهمية عن الأول في ما يخص الحصول على العملات الصعبة التي تسمح باستيراد المعدات والمواد الأولية وقطع الغيار)، فإن هذه السوق ستسحق العمال وذلك كيفما كانت جهودهم، بل يمكن لمقاولتهم أن تميل نحو الإفلاس. ماذا تبقى إذن من التسيير الذاتي، إن لم يكن "حق" العمال في تسريح أنفسهم؟
في مجتمع الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، يبقى اللجوء إلى ميكانيزمات السوق أمرا ضروريا ومفيدا في القطاعات التي لم يستطع التشريك الموضوعي للعمل أن يرسي فيها بعد الملكية الجماعية، كالصناعة التقليدية مثلا وبعض قطاعات التوزيع والخدمات...الخ. ويمكن لهذا اللجوء أن يساهم في إلغاء الفاقة عبر تحطيم الاحتكارات التي لا تراعي بما فيه الكفاية، حاجبات المستهلكين في الزراعة وتجارة المفرق، لكن شريطة أن لا تحل الاحتكارات الخاصة محل احتكار الدولة، وسيسمح بالخصوص إذا ما قورن بسيادة ديموقراطية اشتراكية تعددية، بمنح الجماهير سلطات القرار في هذه المجالات.
إن استعمال قاعدة نقدية (Etalon monètaire) قارة والعمل بالسوق وفق سير جزئي وعابر يجب أن يندمجا في اقتصاد مسير بكل ديموقراطية، أي في مجموع قرارات سياسية تحرص على ألا تفاقم ميكانيزمات السوق الجزئية التفاوتات الاجتماعية، ألا تزيد من عوز الشرائح الأكثر حرمانا من السكان، ألا تمس بنظام الحماية الاجتماعية الذي يضمن لكل المواطنين والمواطنات تلبية حاجياتهم الأساسية، وألا تدهور أوضاع النساء اللواتي تعتبرن أكثر عرضة للاضطهاد سواء كعاملات أو كمستهلكات. وهذا كله يقتضي تقوية ميكانيزمات الديموقراطية الاشتراكية والمراقبة العمومية لكل دواليب الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
بدون سلطة سياسية يمارسها العمال فعليا، لن تساهم تقوية معايير السوق، ولو بشكل جزئي، في إرساء الشفافية والديموقراطية، بل ستزيد من احتداد التبقرط وفساد جهاز الدولة ومن مصادرة حرية البروليتاريا السياسية من طرف الشرائح المحظوظة.
لا يمكن حل كل هذه المشاكل بمناهج تبسيطية وبمخططات معدة سلفا. وسيكون على الاشتراكيين الثوريين أن يتناولوها بفكر رحب وبعيد عن أي دوغمائية، وذلك عبر الاستفادة من التجارب العملية وتصحيح مواقفهم على ضوئها، وكذا على ضوء نقاش دائم مع التيارات التقدمية الأخرى ومع القطاعات الجماهيرية الأكثر كفاحية.
تستلزم مهمة بناء الاشتراكية نفسا طويلا. فهي بمثابة مختبر تاريخي حقيقي، حيث كل الطرق ممكنة ولا يمكن رسم أسهلها سلفا. كما أن ارتكاب الأخطاء أمر حتمي فيه، ولا يمكن أن تقوده أي عصمة باباوية. إن الضمانة الرئيسية كي لا تعوق هذه الأخطاء مسيرة التقدم، هي قدرة الجماهير على معالجتها عبر إرساء ديموقراطية اشتراكية واسعة، وإصرار الثوريين على مطابقة ممارستهم مع مبادئهم.
6) العمل المأجور عمل مستلب
تتبجح البورجوازية عادة، خصوصا في البلدان الإمبريالية، بكونها قد نجحت في "دمج" المأجورين والمأجورات كمستهلكين ومستهلكات وكمواطنين ومواطنات في آن واحد. يصعب الإقرار به الفكرة، رغم أنها تتطابق جزئيا مع الواقع. فقد زاد كل من الإجهاز الطويل على الحريات الديموقراطية في البلدان الخاضعة للهيمنة البيروقراطية، وعجز البيروقراطيات عن تلبية حاجيات الجماهير من مواد استهلاكية نوعية، من صب الماء في طاحونة الدعاية البورجوازية بهذا الشأن.
والحال أن الرأسمالية حتى "المستنيرة" منها والأكثر غنى تبدو بشكل مؤكد، على ضوء تجارب العقود الأخيرة، عاجزة عن إدماج المأجورين والمأجورات كمنتجين ومنتجات. فالعمل المأجور محكوم عليه أن يبقى عملا مستلبا (بفتح اللام). فإنتاجاته تخضع لضرورات الربح، مما يعني أن جماهير المأجورين والمأجورات تظل خاضعة لعدم استقرار الشغل أي العيش، للبطالة الدورية إن لم تكن دائمة، وللخوف من فقدان الشغل، وكذا لاحتمالات المرض والعجز، ولتقلص المداخيل إبان فترة التقاعد.
ترتبط التفاوتات الاجتماعية حتما بالعمل المأجور. فالأجور، سواء كانت مرتفعة أو منخفضة، لا تصلح سوى للاستهلاك اليومي. فهي لا تنتج ثروات تسمح بالعيش دون القيام بأي عمل، الأمر الذي يخص مالكي الرأسمال وحدهم.
هذا الارتباط يؤدي كذلك إلى استلاب على مستوى تلبية الحاجيات الأساسية كالسكن والصحة، وولوج حقل المعارف والثقافة. فالتفاوتات الاجتماعية التي تطبع النظام الرأسمالي هي أيضا تفاوتات أمام المرض وأمام الموت.
لكن العمل المأجور هو قبل كل شيء عمل مستلب (بفتح اللام) ومستلب (بكسر اللام) باعتباره نشاطا أي عملا في حد ذاته. فلكي يستطيع إخضاع المأجورين والمأجورات لضرورات الربح، يجب على الرأسمال أن يخضعهم لمراقبة اجتماعية خلال سيرورة الإنتاج. ينبغي عليه أن يراقب استعمالهم الزمني، وأن يخضع تنظيم العمل ووتيرته لمتطلبات إنتاج فائض-القيمة. هكذا يظل المنتجون والمنتجات عبيد الآلات والميقت (Chronomètre)، ليس فقط في المصنع بل أيضا في المكتب وفي قطاع الخدمات. ولن يكونوا أبدا أسياد سيرورة الإنتاج، حتى ولو حلت أشكال جديدة من تنظيم العمل محل نظام العمل بالسلسلة، وتأصل كل من تنظيم العمل وفق إنشاء "حلقات أفراد نوعيين" وتنظيمه وفق تكوين مجموعات صغيرة متعاونة ـ وهي أشكال لا تخص سوى أقلية من المقاولات. فهم لا يحددون لا إنتاجهم ولا كيفية إنتاجه ولا لمن ينتجون، وما زالوا عبيد الآلة يسحقهم صراحة أو مداورة نظام تراتبي من كبار المدراء وصغارهم.
يظل الإنتاج والأرباح التي تنتج عنه هدفين في حد ذاتهما. فالعمل، أي النشاط المثمر، ليس وسيلة لتحقيق كل قدرات الإنسان الخلاقة، بل فقط وسيلة لكسب المال.
إن الذي يبدو أكثر إثارة هو كون الأغلبية الواسعة من المأجورين والمأجورات الذين (اللواتي) استلبتهم (هن) بالضبط طبيعة عملهم، تتعرض أيضا إلى النهب والاستلاب على صعيد الاستهلاك، حيث لا تغدو أن تكون مستهلكا سلبيا حتى في أوقات فراغها، وتخضع لتأثيرات الحلول التدريجي لثقافة الصورة الخادعة محل ثقافة الحجة والدليل. وغالبا ما تلجأ إلى الكحول إن لم يكن إلى المخدرات للتغلب على التعب والضجر وعلى انسداد الآفاق والتشاؤم.
لن يصبح مجتمع ما مجتمع رجال ونساء أحرار إلا إذا ارتكز على العمل الحر والغير مستلب (بفتح اللام)، أي على إلغاء العمل المأجور.
ينتج عن الاستلاب الشامل للرجال والنساء استلابهم كذلك من الطبيعة. فالعيش في بيئة اصطناعية تحجب شفافية تفاعل الإنسان مع الطبيعة، حتى في وعيه كذلك. ويشمل هذا الاستلاب أيضا استلابا للطبيعة الإنسانية نفسها، والقضاء على الإنسان ككائن اجتماعي وسياسي يمنح الأولوية لعلاقات مثمرة مع مثيله ولا يخضعها للتراكم الجنوني لمزيد من الأدوات ومواد عديمة الجدوى.
إن إلغاء العمل المأجور ليس وهما ولا خرافة. إنه نتيجة لحركة المعارضة الفعلية لكل أشكال الاستغلال والاضطهاد التي تتنامى ولو جزئيا في صلب المجتمع القائم. ونظرا لطبيعتها التحررية، تحتوي هذه الحركة الفعلية على طاقة ضرب المجتمع البورجوازي في عمقه بالذات (إضرابات نشيطة!). ولن يعالجها الاشتراكيون الثوريون بمواقف جاهزة، كما أنهم لن ينظروا إليها من زاوية "احتوائها" أو عدم "احتوائها" من طرف النظام القائم، أو كونها "تدريجية" أم لا. إن مهمتهم تكمن في إدراك تلك الطاقة وتدعيمها بمساهماتهم ومبادراتهم العملية والسياسية والنظرية. وعليهم قبل كل شيء أن يبذلوا قصارى جهدهم لتوحيد هذه الطاقة تدريجيا حتى تبلغ مستوى هجوم كاسح على مجموع الفوضى الرأسمالية.
II) العقبات التي يجب تخطيها
7) أزمة مصداقية الاشتراكية
ما فتئت تتجلى مقاومة المستغلين والمستغلات (بفتح الغين) والمضطهدين والمضطهدات (بفتح الهاء) لأضرار الرأسمالية والإمبريالية والديكتاتوريات البيروقراطية. لكن تطبعها الآن نتائج الأزمة العامة لمصداقية البديل والمشروع الاشتراكي، والتي بدأت تحتد منذ عشر سنوات على الأقل.
تتغذى أزمة المصداقية هذه، بشكل أساسي، من وعي الجماهير وطليعتها بالإفلاس العملي المتوازي لكل من الستالينية والاشتراكية-الديموقراطية والقومية الشعبوية في "العالم الثالث". وكانت النتيجة أن غاب عن وعي الجماهير "نموذج مجتمع" شامل بديل للرأسمالية.
كل هذا يسمح بالتشكيك ليس فقط في مرجعية ثورة أكتوبر في أذهان الجماهير، ولكن أيضا في الأمل الذي كان يعقد قبل 1914 وبعده، على تحقيق مجتمع لا رأسمالي وبدون طبقات عبر مراكمة انتصارات انتخابية وإصلاحات متتالية. حينئذ، تميل عديد من النضالات الجماهيرية إلى التبعثر، وغالبا ما يشارك فيها العمال والعاملات كمواطنين ومواطنات لا بل كأفراد، دون أي مرجعية للحركة العمالية.
لم تتماثل أبدا هوية النساء مع المنظمات العمالية التقليدية، لأن هذه الأخيرة كانت تغفل خلال عقود من الزمن مشاكل النساء الخاصة، وكانت قياداتها الذكورية تتبنى غالبا مواقف أبوية ومكرسة لدونية المرأة. هذا ما يجعل النساء اللواتي ينخرطن اليوم في المعارك النضالية أقل عرضة للتأثر بأزمة المصداقية تلك، وهو أيضا حال الأجيال الجديدة مقارنة مع الأجيال القديمة.
أكيد أن أزمة مصداقية الآفاق الاشتراكية ليست مطلقة. فهي تخص أكثر تلك البلدان التي ألِفت حركة عمالية جماهيرية، وشهدت فيها هذه الجماهير إخفاقات كبرى خلال عقود خلت. وفي البلدان التي تعرف حركة عمالية فتية نسبيا، والتي لا تؤثر فيها هزائم الماضي كالبرازيل وإفريقيا الجنوبية وكوريا الجنوبية، فوقع هذه الأزمة قليل. أما في جنوب آسيا، فهي أقل جلاء.
بيد أن تأثيراتها المحبطة توجد في كل مكان، وإن بدرجات متفاوتة. ولفهم ذلك، لا بد من إدراك سببين رئيسيين.
من جهة، ومنذ أوائل الثمانينات، لامس وعي الجماهير جرائم الستالينية الحديثة (قمع نقابة "التضامن"، جرائم نظام بول بوط في كمبودجيا، اجتياح أفغانستان، قمع ساحة تيان آن مين، ...الخ)، وفي نفس الفترة التي كبر فيها الاستسلام المخجل للأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الحاكمة (فرنسا، دولة إسبانيا، البرتغال، اليونان، السويد، فينلندا، هولندا، سان دومينغ، فنيزويلا، أستراليا، نيوزيلاندا، ...الخ) أمام سياسة التقشف وتقليص الأجور المباشرة وغير المباشرة. وفي هذه الظروف، لم يقترن ارتباط الجماهير بهذه الأحزاب ـ ارتباط على أي، جد نسبي ـ بأمل استعمالها كأداة للنضال من أجل مجتمع اشتراكي، واتخذ أساسا شكل اختيار أهون الشرور ـ إضافة إلى أنه يخضع إلى تقلبات أكثر فأكثر سعة للنتائج الانتخابية.
ولكن من جهة أخرى، لم تخض هذه الجماهير نفسها، خلال هذا العقد، نضالات شاملة ذات دينامية معادية للرأسمالية، شبيهة بتلك التي شهدتها سنوات الستينات والسبعينات. فمنذ الثورة النيكاراغوية في 1979، لم تكن هناك أي ثورة ظافرة. ومنذ الثورة البرتغالية، لم تشهد البلدان الإمبريالية ولو إضرابا عاما واحدا طويل الأمد ولا أي انفجار ثوري. ولم تعرف بلدان الشرق أي صعود جماهيري شامل ضد الديكتاتورية البيروقراطية شبيه بانفجار نقابة "التضامن" في 81-1980.
إذن، ليس إفلاس الأحزاب الستالينية والما بعد-الستالينية والأحزاب الإصلاحية هو الذي يغذي وحده تشكك الجماهير بصدد "نموذج مجتمع شامل". فهذا الأخير يعكس ايضا حسا وإدراكا بتدهور موازين القوى العالمية على حساب البروليتاريا، تدهور صريح لكنه أقل حدة مما يزعمه الإيديولوجيون من مختلف المشارب. وهذا الإدراك يكبح بدوره انخراط هذه الجماهير نفسها في نضالات اجتماعية - سياسية شاملة.
8) تخصيص الاستهلاك ونتائجه
لقد طبع موجة الازدهار الاقتصادي الطويلة الأمد التي تلت الحرب العالمية الثانية في المتروبولات الإمبريالية، وكذا مستتبعاتها في البلدان الشبه-الصناعية التابعة، توسع استهلاك الحاجيات الحيوية لدى الطبقات الوسطى والشرائح العليا من البروليتاريا. وهذا الازدهار يفسره في الواقع، بشكل كبير، تضخم الديون لدى عامة الأفراد التي غالبا ما تلجأ إلى السلف لاقتناء دار للسكن أو أدوات إلكترو-منزلية أو سيارة. وقد نتج عن تبدل العادات والتقاليد الذي أحدثه "مجتمع الاستهلاك"، "تخصيص" الاستهلاك وانكفاء متنامي للأفراد على ذواتهم.
يجب أن نتجنب إدانة مجمل هذا التطور على صعيد الاستهلاك لدى قطاعات الجماهير الشعبية. فلا يمكن أن ننكر مدى قيمته التحررية خاصة بالنسبة للنساء، اللواتي ما زلن حتى الأمس يرزحن تحت عبء الأشغال المنزلية. إن الفكرة التي تعتبر بلوغ حد أدنى من الرفاهية مؤشرا على التبرجز، هي فكرة رجعية بالأساس. فلم يناد الاشتراكيون أبدا بالزهد والتقشف. وليس محكوما على الرجل والمرأة بإنتاج قوتهما بعرق جبينهما.
إن إعادة إنتاج مثل هذه الخرافة من قبل بعض التيارات البيئوية الراديكالية ليست مبررة هي الأخرى. فليس صحيحا أن الموارد لا تكفي لضمان حد أدنى من الرفاهية لكل سكان العالم. إن الأمر يستدعي فقط تخطيط استعمال هذه الموارد بصورة عقلانية، والقضاء على كل إنتاج لمواد أو أدوات ضارة، بدءا بالأسلحة، وإلغاء التبذيرات الكبرى، ثم تشجيع البحث عن منتوجات جديدة تتوافق مع ضرورات الحفاظ على البيئة وعن منتوجات تعوض الموارد الطبيعية النادرة، وإعطائه كامل الأولوية. أما الفكرة التي تقول بأنه يجب العزم على التضحية بمصالح الأجيال الحالية لا بل بوجودها، بدعوى درء الأجيال القادمة من الخطر، هي فكرة فظة ولا إنسانية.
لكن النتيجة الطبيعة للتأثيرات الإيجابية لتطور مستوى الاستهلاك في أوساط بعض الفئات الشعبية، كانت قد تمثلت في بروز ظواهر سلبية، تقيم عراقيل جديدة على طريق التحرر. فمراقبة الرأسمال لعملية إنتاج مواد الاستهلاك الحيوية، تؤدي إلى زيادة هائلة في التبذيرات، وفي استعمال طائش للموارد، كما تؤدي إلى الحث على الاستهلاك الفردي على حساب الاستهلاك الجماعي (الخدمات الاجتماعية). وتدهورت جودة المنتوجات بصورة سمحت بارتفاع سرعة تعويضها بشكل كبير، مما أدى إلى عرض هائل ل"منتوجات جديدة" ساعد على تقوية "متطلبات" مزيفة، وعلى تشجيع فرط الاستهلاك. وكشف التلاعب بحاجيات الإنسان عبر الإشهار الكثيف، عن وهم ما يسمى ب"حرية المستهلك". إن "الرأسمالية المتأخرة" تحتاج إلى جو تسود فيه فاقة دائمة تولد الحرمان المعمم.
إضافة إلى كل هذا، يؤدي تخصيص الاستهلاك المتزايد إلى حرمان الأفراد من نسج أبسط العلاقات الإنسانية. فبعد أن كان مصدر الاختلالات والأزمات ولاعقلانية متنامية في مجال الإنتاج والشغل وتوزيع العائدات، هاهي أضرار مبدأ "كل وشأنه" تطال مجالات الاستهلاك والترفيه.
كما ينتج عن هذا التخصيص كذلك، تقليص متزايد للتواصل المباشر بين الأفراد وللحياة الجماعية، وكذا حرمان الكائن البشري من كل ما تمنحه هذه الحياة الجماعية من روح التعاطف والمودة، مما يدفع بالمرأة والرجل إلى الارتماء في حياة مطبوعة بالعزلة والخشونة. إنها عراقيل حقيقية على طريق النضال من أجل مجتمع بديل وبلوغ وعي اشتراكي، لكنها ليست مستعصية بل يمكن تجاوزها إذا ما تم إيجاد استراتيجيات ملموسة.
في بلدان "العالم الثالث"، كان التطلع إلى "مجتمع الاستهلاك" قد تجلى خاصة في الوسط الحضري، وذلك ليس تبعا لتنامي العائدات ـ باستثناء أقلية جد صغيرة من السكان ـ بل أساسا تبعا للدعاية التي تقوم بها وسائل الإعلام (راديو، تلفزة) ل"نموذج مجتمع الاستهلاك" الذي تعرفه المتروبولات الإمبريالية. أما في الوسط القروي، فما زال هذا المنحى في بداياته.
9) أفول "الثقافات-المضادة"
إن الميل إلى نزعة التخصيص والأفول البين لأنماط التفكير والممارسة الجماعيين الذي ترافق معه، كان من بين نتائجهما الوخيمة أفول "الثقافة-المضادة" العمالية في البلدان الأكثر تصنيعا.
إن الإيديولوجية المهيمنة في كل مجتمع طبقي هي إيديولوجية الطبقة المهيمنة. ومن الوهم أن ننتظر من البروليتاريا المحرومة من الموارد المادية الكافية، أن تحل محلها داخل المجتمع البورجوازي. لكن "إيديولوجية مهيمنة" لا تعني بتاتا "إيديولوجية وحيدة". ففي العالم الرأسمالي تتعايش كل من الإيديولوجية البورجوازية المهيمنة، وإيديولوجية الطبقات المسيطرة القديمة، و"الثقافة-المضادة" العمالية المستوحاة بهذا القدر أو ذاك من القيم الاشتراكية.
إن سعة انتشار هذه "الثقافة-المضادة" تختلف باختلاف الزمان والمكان. لكنها أصبحت بدورها مهيمنة في أوساط المأجورين والمأجورات في عديد من البلدان الإمبريالية وفي عدة بلدان شبه-صناعية، وذلك إبان صعود الحركة العمالية المنظمة في الفترة الممتدة بين سنوات التسعين من القرن الماضي وسنوات الخمسين من هذا القرن. وقد كانت، بارتكازها على قيم التضامن والتعاون، تؤثر على عشرات الملايين من البشر وتلهمهم، مانحة إياهم الأمل ووضوح الأفق، ومحددة سلوكهم اليومي.
ترسخت هذه "الثقافة-المضادة" في شبكات منظمات تجمع الأطفال والشباب، والبالغين والشيوخ، خلال كل مراحل حياتهم تقريبا. وتتكون هذه الشبكة من منظمات الرواد والشباب، ومن الأحزاب السياسية ودور الشعب، تنظيمات رياضية ومختلف صناديق التعاضد، منظمات متقاعدين ومتقاعدات، منظمات نسوية، ومن أجواق غنائية ومجموعات مسرحية. وكانت النقابة الجماهيرية أكثر التنظيمات أهمية فيها. وإن ساعدت هذه الشبكة الهائلة على بروز وعي سياسي وعلى سلوك انتخابي طبقي، فإنها لم تحدده بصورة تلقائية. إلا أنها بدأت بالتفكك مع نزعة التخصيص التي نتجت عن "مجتمع الاستهلاك". وإذا كانت الحركة النقابية أقل تأثرا، فإن التنظيمات الأخرى عرفت كلها أفولا مأساويا في بعض الأحيان.
إن التعبير الأكثر وضوحا على هذا الأفول هو تراجع الصحافة العمالية. سابقا كان يتم توزيع ملايين النسخ من الجرائد الاشتراكية والشيوعية. أما اليوم فنجد أن الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية القوية كالحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني والحزب الاشتراكي النمساوي، الحزب العمالي البريطاني، والحزب الاشتراكي في كل من فرنسا ودولة إسبانيا، لم تعد تملك حتى جريدة يومية.
لم يكن لأفول" الثقافة-المضادة" العمالية أي تأثير انتخابي مباشر، بل يمكن أن يتزامن لوقت معين مع ارتفاع جديد لعدد الأصوات الممنوحة للأحزاب العمالية التقليدية، أساسا لأسباب تتعلق باختيار "أهون الشرور". لكنه سيجعل قطاعات من الطبقة العاملة تقبل بتغلغل الأفكار الرجعية في أوساطها. ويتجلى هذا في انتعاش أفكار تنظيمات أقصى اليمين في صفوف عدد لا بأس به من هذه القطاعات، خصوصا وأن قيادات المنظمات العمالية التقليدية تقدم لها تنازلات مخزية لأهداف انتخابية ضيقة.
في بلدان "العالم الثالث"، شكل التماسك الاجتماعي في المشاعات القروية، رغم أنه مقوض بنظام العشائر كما هو الحال في الهند، أو بتنامي التمايز الاجتماعي، شكل ثقلا موازنا صريحا لهيمنة الإيديولوجية البورجوازية الشاملة ولقيمها السائدة.
أما في الاتحاد السوفياتي سابقا، وفي البلدان الأخرى التي تهيمن فيها بيروقراطية محظوظة، فإن لأفول الثقافة العمالية وقيمها الذاتية، جذور خاصة. فهي مرتبطة قبل كل شيء، بفقدان المصداقية الرهيب الذي ألحقته البيروقراطيات الستالينية والما بعد-الستالينية بالشيوعية والماركسية والاشتراكية، التي تمت مماثلتها خطأ ولكن ممارسة بأضرار ومساوئ الديكتاتورية. ونتج عن هذا أزمة إيديولوجية وأخلاقية عميقة تزعزع، هنا أيضا وفي مرحلة أولى، رغبة الجماهير في مواجهة "قيم" الإيديولوجية البورجوازية.
نجم عن كل هذا، فراغ سيسمح بتسرب ميولات إيديولوجية رجعية كالإيمان بالخرافات الدينية واعتناق السلفية الدينية، التمسك بالعنف وبالنزعة الشوفينية، النبذ الصريح لحقوق الإنسان وللمساواة بين الجنسين وازدراء النساء، نزعة كره الأجانب والعنصرية، احتقار وبغض جزء أساسي من سكان هذا العالم.
لا يجب الخلط بين المساوئ المشينة لأفول "الثقافات-المضادة" ـ هذه الأخيرة ترتكز على التعاون والتضامن الجماعيين ـ وبين نبذ حق الأفراد في تطوير شخصيتهم الذاتية. فالذي يتعارض هنا ليس النزعة "الجماعية" والنزعة "الفردية"، بل الجماعية الاجتماعية-الاقتصادية التي تخلق الإطار المادي الضروري للانعتاق الاجتماعي، والنزعة الفردية البورجوازية التي لا تضمن الإمكانية المادية للحرية الفردية إلا لأقلية جد محدودة من سكان المجتمع.
10) مرحلة جديدة من أزمة القيادة العمالية وجذورها الموضوعية
منذ تأسيسها سنة 1938، أعلنت الأممية الرابعة في برنامجها الانتقالي، أن أزمة الإنسانية تتلخص في أزمة قيادة الطبقة العاملة ووعيها الطبقي. وكل ما جرى منذ ذلك التاريخ، ليس سوى إثباتا لهذه الحقيقة.
إلا أن أزمة مصداقية الفكر الاشتراكي التي تسود منذ عشر سنوات، تضفي بعدا جديدا على أزمة القيادة هاته. فالضعف الواضح والبين لتأثير الأحزاب التقليدية على الطبقة العاملة خصوصا على صعيد المقاولات، وعلى النقابات و"الحركات الاجتماعية الجديدة"، لا يصب لا في اتجاه بروز أحزاب جماهيرية جديدة على يسارها، عدا بعض الاستثناءات، ولا في اتجاه تدعيم فعلي للمنظمات الثورية.
يميل موقف الجماهير التشككي إزاء مشروع مجتمعي شامل بديل للرأسمالية "الاجتماعية" إلى تكسير حركات الاحتجاج والتمرد وتجزيئها، مما سيساهم بالتالي في تقليص مدتها وفي سهولة احتوائها، الانتخابي أولا، من طرف الأحزاب التقليدية، وتتعرقل، لنفس السبب، مراكمة التجربة ومركزتها كما يتعرقل تراكم الكوادر، لا بل يتعذر الحفاظ حتى على مستوى متوسط من النضالية. فعلى الصعيد العالمي، قامت مئات الآلاف من المناضلين والمناضلات والكوادر ومن قادة نضالات نقابية نموذجيين، ومئات الآلاف من أنصار الحركة النسائية والمعادين للنزعة العسكرية ومن أنصار التضامن الأممي، قامت بقطيعة نهائية مع الأحزاب الشيوعية والاشتراكية-الديموقراطية. لكن في السياق الحالي، صار العديد منهم يشكك في إمكانية تعويض الأحزاب والمنظمات التقليدية بأخرى أفضل وأحسن، وتراجعوا نحو أنشطة محصورة على القطاعات أو ذات طابع ضيق ومحدود، أو انكفئوا على حياتهم الخاصة.
إنها لخسارة حقيقية أن تفقد الطبقة العاملة هؤلاء المناضلين والكوادر، الذين يشكلون كنوزا من التجربة، والذين كانوا سيساهمون في تسريع عملية بناء منظمات ثورية جديدة قوية. ويجب أن نحيط عن قرب بكل الأسباب الموضوعية والذاتية لهذه الظاهرة.
مع بداية التسعينات، كانت الشروط التقليدية لتشغيل الطبقة العاملة، لتنظيمها ولنضالها اليومي، قد عرفت تحولا تدريجيا، خصوصا في البلدان المصنعة قديما. فقد تم تحويل التشغيل من الصناعات التحويلية ومن المناجم، نحو قطاع الخدمات، وذلك بصورة كثيفة. كما تم تقليص جزئي للتركز العمالي في المقاولات العملاقة، وتم تقليص أشكال تنظيم العمل المرتكزة على نظام السلسلة، التي كانت قد ساعدت على مراقبة جنينية لوثيرة العمل من طرف المندوبين النقابيين.
لقد ترافقت تحولات الاقتصاد الرأسمالي هاته، مع زيادة تدريجية لنسبة النساء في أوساط طبقة المأجورين والمأجورات. بهذا أتيحت للنساء إمكانية الحصول على دخل مستقل، الأمر الذي يشكل بالتأكيد خطوة على طريق انعتاقهن. لكنها تفاقم، في الوقت نفسه، أوضاعهن المادية بشكل عام (يوم عمل مضاعف)، نظرا للصعوبات التي تعترضهن في جعل الرجال يشاركون في الأعمال المنزلية، وكذلك لغياب شبكة وافية من المؤسسات الاجتماعية تتحمل قسطا وافرا من الأعباء المنزلية التقليدية. كما أنها تخضعهن لضرورات عمل أكثر فأكثر استلابا ومكننة، والذي ما فتئ يتعمم في قطاعات الخدمات حيث يتم استخدامهن بكثرة.
إضافة إلى ذلك، يطبع هذه الإمكانية تأخر واضح في ازدياد عدد النساء داخل النقابات، مما يزيد من الصعوبات التي تعترضهن في إبراز مطالبهن الخاصة وخوض نضال لتحقيقها.
كل هذا إنما يكبح التزامهن السياسي الدائم. وفي نفس الوقت، دخلت الأحزاب التقليدية في مرحلة جديدة من سيرورة تبقرطها، والتي ترافقت مع تدعيم لعلاقاتها مع أحزاب الدولة أو تابعة لها. هذه الأخيرة أصبحت في بعض الأحيان تشكل القاعدة الرئيسية للأحزاب العمالية التقليدية، على حساب علاقاتها مع العمال أنفسهم.
ونتج عن ذلك أزمة متنامية لتماثل قطاعات هامة من الطبقة العاملة مع الحركة العمالية المنظمة، وكذا أزمة متنامية لهذه الأخيرة نفسها.
لقد وجد العمال والعاملات أنفسهم (هن) أمام ظروف جديدة لم يكن بإمكانهم الرد عليها بشكل سريع وعفوي، وبالتالي كانوا في وضعية دفاعية اتجاه هجوم الباطرونا المعمم، الذي استسلمت له المنظمات التقليدية بشكل كبير. واستتبعت هذه الوضعية عواقب ذاتية كالبلبلة والتيه، يستلزم تجاوزها مزيدا من الوقت وتحقيق انتصارات، جزئية على الأقل، لما يتم القيام بهجوم مضاد. هذا الأخير، رغم أنه في بداياته، اتخذ أشكالا راديكالية جديدة كالإضراب النشيط وتوسيع دائرة النضال لتشمل المستهلكين، والاحتجاج ضد سلطة الدولة أحيانا.
هكذا ستتم، تدريجيا، إعادة تركيب الحركة العمالية. وسترتكز بالتأكيد على تلاقي والتحام تدريجيين بين القطاعات المكافحة في المنظمات الجماهيرية، وبين المناضلات من أجل حقوق النساء، والشرائح الأكثر وعيا في أوساط الشباب وداخل قطاعات من المأجورين والمأجورات والتي توجد اليوم خارج هذين الأخيرين، وقطاعات حركات اجتماعية جديدة في طور التجذر.
إن الذي يعتبر أساسيا بالنسبة للاشتراكيين الثوريين، هو تخطي طور الانتصارات الضيقة والجزئية، وإعادة دمج قيم ومبادئ التضامن بين عمال وعاملات كافة المهن في نضالهم (هن) ضد هجوم الباطرونا، وتوسيع هذا التضامن ليشمل ضحايا التقشف البورجوازي الأكثر عوزا: المهاجرين والمهاجرات، النساء، الشباب، العاطلين والعاطلات، المتقاعدين والمتقاعدات. وهذا ما يطرح ضرورة إعادة هيكلة المنظمات الجماهيرية الموجودة وإيجاد شبكات نضالية جديدة.
لكن أزمة القيادة العمالية الحادة ترتكز أيضا على مرحلة جديدة من دياليكتيك الانتصارات الجزئية. فارتفاع مستوى عيش قطاعات واسعة من الطبقة العاملة في المتروبولات الإمبريالية وقطاعات أقل اتساعا في البلدان الشبه-الصناعية، خلال "الطفرة" الاقتصادية التي تلت الحرب العالمية الثانية، استتبعه ردود فعل تطبعها أكثر نزعة محافظة بالمعنى الوجودي للكلمة، أي الحفاظ على المكتسب بدل توسيعه. ولابد من الوقت لكي يؤدي انحسار اقتصادي طويل إلى انخفاض في مستوى العيش لدرجة تزول معها هذه النزعة، أو تتقلص كثيرا على الأقل.
لقد أتيحت لعديد من "قدماء مناضلي" 1968 إمكانية اندماج ناجح في المجتمع البورجوازي، وذلك منذ النصف الثاني من السبعينات. وإن تقلصت بشكل كبير هذه الإمكانية، خلال التسعينات، فإنها حرمت الطبقة العاملة من الدعائم التي كانوا يشكلونها، كما حرمت المنظمات الثورية من الكوادر والمناضلين، الأمر الذي زاد في ضعف كلتاهما.
لكن لا ينبغي أن نقلل من شأن الميولات التي تدفع في الاتجاه المعاكس وتساعد، على المدى البعيد، في حل أزمة وعي البروليتاريا وقيادتها الثورية.
لقد شكل الثوريون دائما أقلية وسط طبقة المأجورين والمأجورات. ولم يكونوا أبدا في مأمن من التأثر بالإيديولوجيات البورجوازية والبورجوازية-الصغيرة، وذلك حسب التناقض عينه الذي يطبع طريقة اندماجهم في المجتمع البورجوازي.
إلا أن الاشتراكيين الثوريين، وهم يملكون اليوم حظوظ نجاح لم يكن يتوفر عليها الجيلين أو الثلاثة أجيال السابقة، يخوضون نضالا عسيرا من أجل تحديد جديد ومقنع للبديل الاشتراكي. لقد تفكك ارتهان الطبقة العاملة بالأحزاب التقليدية، وهناك إدراك واسع لمساوئ النظام الرأسمالي و"قيمه" ولكل ما يطبعهما من وحشية وهمجية. وتتجه قطاعات فتية نحو "قلب الأوضاع" جذريا.
على الاشتراكيين إذن، أن يستندوا إلى هذا التقسيم الجديد للأدوار لخوض معركة حاسمة بالنسبة للجنس البشري، ألا وهي جعل البروليتاريا تستعيد دورها كقائد النضال ضد الرأسمالية. إنها معركة طويلة وشاقة، لكنها ضرورية أكثر مما مضى. وإن لم تقطع وعدا بالنصر، فهي تضمن إمكانيته.
III) هدفنا : انعتاق معمم
11) هدفنا الشامل
إن الحل الجذري لأزمة الرأسمالية يمر عبر إعادة النظر في اقتصاد السوق المعمم وفي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتبادل، في الإنتاج الموجه نحو الحصول على الربح، في سيادة الدول القومية وفي تحكم البيروقراطية في أنظمة الحماية الاجتماعية. ويندرج هذا الحل في أفق فيدرالية اشتراكية عالمية ديموقراطية وتعددية تسير نفسها بنفسها.
إن نظاما اشتراكيا وديموقراطيا فعلا سيسمح بتفجير طاقة التفكير والعطاء لدى الإنسان، كما سيسمح بجعل العلم والتكنولوجيا في خدمة الرجال والنساء وإخضاعهم لرقابة عمومية بناءة. هكذا ستكون الثقافة والتعليم العالي لأول مرة في متناول الجميع، ويمكن أن ينتج عن ذلك ازدهار للإبداع الثقافي والكشف عن خزان هائل من الطاقات يجهل حتى الآن. ويمكن للتطور العلمي أن يساهم في تحرير المرأة والرجل من عبء عمل متقطع ومجزء، رتيب وميكانيكي، ممل ومدمر نفسيا وجسديا. ولن يتأتى ذلك إلا باجتهاد خلاق وإنساني، بسلوك جماعي مسؤول للمنتجين المتشاركين الأحرار، وبتسيير ذاتي مخطط ومعمم.
إذا ما سعى جميع الرجال والنساء إلى تقليص دائم للعمل الميكانيكي والرتيب، والذي هو بمثابة عمل قسري بالنسبة لأغلبية المنتجين، سيمكن للحركة الاقتصادية أن تنال تدريجيا تحفيزا مغايرا لما هو عليه الآن. فحلول مجتمع تسود فيه مواطنية جديدة تقيم لأول مرة مراقبة المجتمع لجهاز الدولة والإدارة، والذي هو محكوم عليه بالاضمحلال، يستلزم تقليصا جذريا لساعات يوم العمل. فيوم عمل من أربع ساعات يلغي عمليا ضرورة بيروقراطية مهنية ويمكن العمال من إدارة المجتمع وتسييره بأنفسهم. بدون هذا التقليص الذي سيكون له صدى مدو في العالم بأسره، سيبقى مبدأ التسيير الذاتي صوريا.
ليس هذا الإجراء النموذجي للثورة الاشتراكية في جميع البلدان المصنعة نسبيا هدفا طوباويا، بل يستند على أسس موضوعية وذاتية.
تقدر أوساط محافظة ب 50 % على الأقل، حصة الطاقة الإنتاجية العالمية غير المستعملة أو مستعملة لأغراض تدميرية (إنتاج الأسلحة) ومؤذية. وإذا ما تم استعمال هذه الموارد الموجودة الآن بشكل عقلاني ورشيد، لغايات إنتاجية ومنفعية تحترم ضرورات المحافظة على البيئة، سيغدو السير في اتجاه إلغاء البؤس والتخلف في "العالم الثالث" ممكنا، دون أي تقليص لمستوى العيش المتوسط لعمال أحد من البلدان، بل بالعكس سيتم رفعه في كل مكان.
بدأت أقليات دالة اليوم، بالتشكيك في "أخلاقيات العمل" وتراكم المنتجات المادية كهدف أسمى للحياة الاجتماعية. فالأساسي بالنسبة لملايين العمال، ليس هو العمل أكثر لاستهلاك أوفر، بل عمل أقل لعيش نوعي مغاير. ليس المهم بالنسبة لملايين الرجال والنساء، الذين واللواتي يدركون الأخطار البيئية، هو تراكم لا محدود للمنتجات المادية، بل البحث عن حياة نبيلة وعن الكرامة الإنسانية، والحفاظ على الطبيعة التي نحن جزء منها وحماية البيئة.
إن الهدف الشامل الذي نطمح إليه هو انعتاق معمم لكل الرجال والنساء من كل أشكال الاستغلال والاضطهاد، وكل أشكال الاستلاب والتمييز التي يتعرضون لها. فإما أن تكون الاشتراكية نظاما تعدديا، يسمح بتعدد الأحزاب ويرتكز على التسيير الذاتي وإلغاء العمل المأجور، أو لا تكون. وإما أن تكون بيئية، نسوية، أممية، سلمية، ومتعددة الثقافات أو لا تكون.
وهذا يفترض بالخصوص، تحقيق وتطبيق كل مقتضيات الديموقراطية الاشتراكية الواسعة، كما يفترض أن يخضع انتخاب الحكومات وتعويضها، لقرارات تتخذ بكل حرية ـ أي الاختيار بين إمكانيات متعددة ـ عبر الاقتراع العام.
12) وحدها البروليتاريا قادرة على بناء مجتمع بدون طبقات
يمثل الرجال والنساء المأجورين والمأجورات، أي كل الذين واللواتي يضطرون اقتصاديا لبيع قوة عملهم (هن)، القوة الاجتماعية الوحيدة القادرة على شل وقلب المجتمع الرأسمالي، وإرساء مجتمع قائم على تعاون وتضامن الأغلبية الواسعة من السكان. لذلك تعتبر الطبقة العاملة، وفق هذا التحديد، العمود الفقري لوحدة جميع المستغلين والمستغلات (بفتح الغين) والمضطهدين والمضطهدات (بفتح الهاء) في النضال من أجل الاشتراكية.
صحيح أن عدد المأجورين والمأجورات الذين واللواتي يعملون في الصناعة التحويلية الكبيرة وفي المناجم بدأ بالتراجع، في البلدان الصناعية قديما، نسبة إلى الذين واللواتي يعملن في ما يسمى بقطاع الخدمات.
لكن لا ينبغي المبالغة في تعميم وزن وعواقب هذه التحولات الموضوعية ونتائجها الذاتية على العمال والعاملات. فإذا صارت قلاع عمالية تقليدية في صناعة السيارات والصناعات الحديدية وفي الصناعات الميكانيكية تعرف وضعية ضعف وتراجع، فهي ما زالت قائمة ولم تندثر بعد. وإذا كان هناك تحويل كثيف للتشغيل نحو قطاعات الخدمات، فإن عددا كبيرا من هذه الأخيرة يمثل في الواقع قطاعات صناعية (النقل، الاتصالات السلكية واللاسلكية)، إضافة إلى أنها ساهمت في بروز تركزات عمالية هامة. يتركز كل من التصنيع ومكننة العمل في أوساط قطاعات كانت أقل كفاحية فيما مضى كالوظيفة العمومية والأبناك، إلا أنها اليوم أصبحت قادرة على شل الاقتصاد الرأسمالي بشكل أكثر فعالية مما تقدر عليه القلاع العمالية بالأمس.
إن البروليتاريا العالمية جد قوية في الوقت الراهن، لا من حيث تأهيلها (بدرجة لم يسبق لها مثيل) ولا من حيث عددها (أكثر من مليار كائن بشري). إن الاتجاه المهيمن ليس هو تقلص عدد المأجورين، بل توسعهم عبر العالم بما في ذلك البلدان الأكثر تقدما.
أكيد أن هذا التنامي ليس متجانسا في كل البلدان وفي كل المناطق، في كل القطاعات وفي كل الفروع الصناعية. فالازدهار في هذا البلد أو ذاك، في هذا القطاع أو ذاك، يرافقه انحسار في هذا أو ذاك. لكن محصلة هذه الحركة تسير في اتجاه تطور طبقة المأجورين والمأجورات، وليس في اتجاه تراجعها.
إن المسلك العام الذي يجب اتباعه لمساعدة البروليتاريا على أن تكتسب تدريجيا التجربة والوعي الضروريين لخوض نضال ضد الرأسمالية، والسير به قدما نحو اللحظات الحاسمة لمرحلة ما قبل-الثورة ولفترة الأزمة الثورية، هو مسلك البرنامج الانتقالي، الذي يعني أنه يجب الانطلاق من الاهتمامات المباشرة للجماهير والسير بها، على طريق تجربتها النضالية الخاصة، نحو الإطاحة بالمجتمع الرأسمالي. وهو اليوم يتضمن مطالب خصوصا كالرقابة العمالية على الإنتاج والحذف النهائي للميزانية العسكرية، التملك الجماعي للأبناك والمؤسسات الكبرى وفرض ضريبة تتخذ شكل مصادرة على الثروات الطائلة. كما تبقى سياسة الجبهة العمالية الموحدة صالحة خاصة لصد الهجومات على الحريات الديموقراطية وصعود التيارات اليمينية القصوية... الخ.
يجب أن تنطلق المطالب الانتقالية الخاصة من الاهتمامات الفعلية اليومية للجماهير كي تتوصل، عبر تجربتها الذاتية، إلى ضرورة الإطاحة بالرأسمالية والاستيلاء على السلطة.
إن عدم تجانس البروليتاريا يوجد منذ بدايات العمل المأجور، وهو يترافق مع تقسيمات ترتبط بتقسيم في سوق العمل. وقد اقترن التطور اللامتساوي والمركب لقوى الإنتاج دائما بأهداف البورجوازية ودولها للإبقاء على هذا التجانس وتدعيمه. فهو يعبر بدرجات مختلفة عن التباينات في الأوضاع والمداخيل بين عمال وعاملات مختلف الأصول الإثنية و"العرقية"، بين الشيوخ والشباب، بين الرجال والنساء، النشيطين والعاطلين، "المحليين" والمهاجرين، المؤهلين وغير المؤهلين، وبين اليدويين والذهنيين في كل بقاع العالم.
تدفع الأزمة باتجاه تعميق الفوارق والتفاوتات. وينتج عن احتداد بطالة الشباب في عديد من البلدان، بروز شريحة اجتماعية لم تلج أبدا حقل العمل ومدفوعة إلى التهميش. وهي تشكل، إلى جانب العمال المهاجرين والنساء اللواتي لفظهن سوق العمل وجميع أنواع المحرومين، شريحة بروليتاريا دونية بعيدة عن تقاليد التضامن العمالي.
يندرج مشروع ما يسمى بالمجتمع الازدواجي، أو مجتمع أكثر منه تقسيما في البلدان المصنعة، والذي يتضمن قسما من البروليتاريا بعيد عن كل حماية ومرغم على عيش أوضاع مزرية شبيهة بأوضاع القرن 19 في المتروبولات الإمبريالية وبأوضاع "العالم الثالث" حاليا، يندرج في إطار عزم الرأسمال على نهج مخطط يهدف إلى جعل الحركة العمالية في وضعية ضعف دائمة. إن مواجهة هذا المخطط بالمطالبة بضرورة امتصاص البطالة عبر تقليص جذري لساعات العمل دون تسريع وتيرته ودون تقليص الأجور، تعد إذن مهمة مركزية بالنسبة للحركة العمالية.
بيد أن كلا من تدويل قوى الإنتاج وبروز الشركات متعددة الجنسيات والثورة التكنولوجية الثالثة، يفعل، على المدى البعيد، لصالح تقارب تدريجي للمطالب وتداخل النضالات والمنظمات.
تشمل البروليتاريا جمهور المأجورين الزراعيين الذين يعدون بمئات الملايين في العالم. وإذا كان وزنهم الاجتماعي قد تراجع نسبة إلى عامة السكان النشيطين، فإنه في ارتفاع بالأرقام المطلقة في بلدان كالهند أو إندونيسيا، البرازيل أو مصر، باكستان أو المكسيك.
فضلا عن ذلك، هناك حدود غير واضحة تفصل وتوحد، في آن واحد، بين بروليتاريا المدن وأشباه-البروليتاريا في الحقول (مزارعين مستقلين يمتلكون مساحة جد ضئيلة من الأرض لا تسمح لهم بالعيش طوال السنة ويضطرون إلى القيام بعمل مأجور مؤقت) بما في ذلك الفلاحون الفقراء. إن طاقة تحريك وتعبئة الطبقات والشرائح الاجتماعية بدأت تعبر عنها الآن حركات عارمة من أجل احتلال الأراضي، لا بل من أجل استثمارها المنتج، والتي ستشكل جزءا لا يتجزأ من الثورة الاشتراكية في البلدان المعنية.
كذلك، يمثل الجمهور الواسع من أشباه-البروليتاريا المهمشين في مدن "العالم الثالث"، إحدى القوى الأكثر اتقادا في القطيعة مع النظام الاجتماعي القائم. ويمكنه أن يشكل قاعدة لأنصار أو لعملاء حركات شعبوية رجعية. لكن، يكفي للمنظمات العمالية أن تدافع بانتظام عن مصالح أولئك المعدمين وأن تحفز وتساعد على تنظيمهم الذاتي، لكي يصبح النضال من أجل "إصلاح مديني"، إلى جانب النضال من أجل إصلاح زراعي، إحدى القوى المحركة والدافعة للثورة الدائمة في "البلدان المتخلفة".
في عديد من البلدان الرأسمالية الأساسية، خصوصا في الولايات المتحدة وفي الهند، في المكسيك وفي الأرجنتين، وفي مصر وإيران، لم تظفر البروليتاريا بعد باستقلالها السياسي الطبقي. فهي ما زالت، في أغلبيتها الواسعة، تحت الوصاية السياسية لقوى شعبوية أو حتى بورجوازية تقليدية. ويعتبر النضال من أجل انتزاع هذا الاستقلال السياسي، المهمة الرئيسية والأولى في هاته البلدان.
13) البروليتاريا وحلفاؤها و"الحركات الاجتماعية الجديدة"
يعتبر الفلاحون الكادحون في بلدان "العالم الثالث" والذين ما زالوا يشكلون، رغم تراجع عددهم بشكل تدريجي، أكثر من مليار كائن بشري، حليف البروليتاريا الأكثر أهمية في نضالها ضد هيمنة الرأسمال. فهم، إلى جانب قسم من سكان المدن المهمشين وجزء من البورجوازية-الصغيرة، قابلين للتعبئة والتحرك من أجل أهداف معادية للإمبريالية التي تشكل إحدى مهام التحرر الرئيسية في هذه البلدان.
خلال العقود الأخيرة تطورت، على هامش الحركة العمالية أو أحيانا في تناقض معها، حركات اجتماعية كالحركات النسائية، والحركات البيئية والسلمية، والمعادية العنصرية والداعية لتحرر المثليين الجنسيين. وتعكس هذه الحركات تناقضات جديدة أو متفاقمة بفعل عواقب الأزمة، سواء في المجتمعات الرأسمالية أو في مجتمعات الهيمنة البيروقراطية. كما تعبر عن وعي أكثر عمقا وأكثر شمولية لمختلف أوجه الاضطهاد. لقد نجحت هذه الحركات في إقحام قطاعات شعبية جد واسعة في النضال.
كان على الطبقة العاملة والحركة العمالية المنظمة أن تضطلع كليا بهذه المعركة. لكن حال دون ذلك حتى الآن قياداتها التقليدية، إضافة إلى ضعف اليسار الثوري وتأخر تدخله بصدد هذه المسألة، مما جعل تلك الحركات تتوسع وتنمو بشكل تلقائي.
إذ نشارك بكل فعالية في هذه الحركات ونحن واعون بطاقتها المعادية لرأسمالية، فإننا نناضل من أجل إقامة تحالف استراتيجي معها ومع النضالات العمالية والحركة العمالية. لكننا نحترم في الوقت نفسه، الاستقلال الذاتي المشروع لهذه الحركات الاجتماعية التي لا يكفي إدماجها فقط في الحركة العمالية في حد ذاتها.
بالطبع، تشكل البروليتاريا المستندة إلى الفلاحين الفقراء القوة الوحيدة القادرة على رسم أسس مجتمع جديد يرتكز على الحرية والتضامن الكاملين والمتكاملين. لكن، وفي الوقت الذي أصبحت فيه البورجوازية جد منظمة على الصعيد العالمي مقارنة مع القرن الماضي، نجد أنه لم يعد هناك وجود لمنظمة أممية عمالية جماهيرية. إنه وجه من أوجه أزمة القيادة السياسية البروليتارية، لكن يمكن تجاوزه ببروز أجيال مناضلة جديدة وباستيعاب تجارب الأمس، بمراكمة انتصارات جديدة كفيلة باستعادة الثقة في النفس، بتجديد حوار طالما انقطع بين الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية ومثيلتها في مجتمعات الشرق، وبإعادة تنظيم عميقة للحركة الجماهيرية ولطليعتها السياسية.
14) النضال ضد اضطهاد النساء
تعكس الحركة النسائية أقدم اضطهاد عرفته الإنسانية. إنها تدافع عن مصالح أكثر من نصف البشرية، وتشكل بعدا أساسيا لكل نضال من أجل التحرر الإنساني.
تشكل النساء 53 % من سكان العالم. وإذا ما احتسبنا العمل المنزلي إلى جانب العمل المؤدى عنه، فإنهن يقمن بالجزء الأعظم من ساعات العمل على الصعيد العالمي. وبالمقابل فعمل النساء، حتى لو كان مؤدى عنه، بخس القيمة مقارنة مع عمل الرجال.
بشكل عام، تستثنى النساء من مسؤوليات السلطة والقرار. ويتم إبقاؤهن في وضعية التبعية والامتثال، ولا يمتلكن حتى سلطة مراقبة وضعهن الخاص. هذا، وعليهن تقع مسؤولية العناية بالأطفال وضمان استمرار الجنس البشري. ويضطلعن بهذه المهمة في غياب الوسائل والبنيات التحتية الضرورية، وفي أغلب الأوقات دون أي مشاركة رجولية تذكر. كل هذا يجعلهن في وضعية جد هشة، اقتصاديا واجتماعيا، ويجعلهن أكثر عرضة لكل الترديات ولكل الأخطار التي تهدد صحتهن، ولكل أنواع العنف والاعتداءات الجنسية.
إذا كانت وضعيتهن تختلف باختلاف البلدان ـ وإذا تم هناك تقدم ملحوظ على مستوى منح الحمل وحق الإجهاض، بموازاة مع تزايد العمل النسوي المأجور في البلدان الأكثر تطورا ـ فإن النساء يتعرضن دائما لاستغلال اقتصادي مضاعف ولخضوع اجتماعي وسياسي في كل بقاع العالم. فهن أولى ضحايا كل الكوارث من جفاف وبؤس، وحرب وتدابير التقشف الاقتصادي، وأزمة وبطالة. ويشكلن القطاع الأكثر هشاشة وسط الجماهير الكادحة، كما يمثلن، إلى جانب الأطفال، نسبة 85 % من عشرات الملايين اللاجئين على صعيد الكرة الأرضية اليوم.
إن النضال ضد اضطهاد النساء يعتبر إذن بعدا أساسيا في النضال من أجل التحرر الاجتماعي برمته. إن الأمر لا يتعلق فقط بمسألة مطالب ديموقراطية أو حقوق مدنية كيفما كانت أهمية هذا البعد في حد ذاته. فالقضاء على اضطهاد النساء أمر ضروري لكل نضال ظافر من أجل مجتمع أفضل.
إنه يتضمن حق النساء المطلق في التحكم بأجسادهن وفي الولوج الحر إلى كل وسائل منع الحمل، في الإجهاض بكل حرية، في المساواة في الأجور سواء في العمل أو في التدريب المهني، في الحرية الجنسية، في إمكانية العيش دون تعسف أو عنف مبنيان على التمييز الجنسي ودون اعتداءات جنسية، في إزالة مسؤولية العمل المنزلي المقصورة على النساء، وفي حق الحصول على دعم مادي كاف للولادة ورعاية الأطفال.
إننا نساند وندعم بلا قيد ولا شرط نضال النساء وتنظيمهن الذاتي من أجل وضع حد لدونيتهن. نعترف دون أدنى تحفظ بحق النساء في التحكم بمصيرهن. إن هذه المعركة جزء لا يتجزأ من النضال من أجل الاشتراكية. لن يتحقق تحرر النساء دون إرساء مجتمع اشتراكي، أي دون إلغاء الملكية الخاصة الرأسمالية والبطريركية. ولن تتحقق الاشتراكية الحقة دون تحرير النساء. فطالما يضطهد نصف البشرية نصفها الآخر، يستحيل تحرر كلاهما. يناضل الثوريون رجالا ونساء لإضفاء طابع بشري على كل المؤسسات الاجتماعية بما فيها منظماتهم، وحتى على الحركة العمالية نفسها بكل منظماتها السياسية والنقابية.
15) النضال من أجل حقوق المثليين الجنسيين من الرجال والنساء
لقد تنظم المثليون الجنسيون من الرجال والنساء، في مناطق مختلفة من العالم، بشكل مستقل للدفاع عن حقوقهم، وضد عنف الدولة والشارع وضد القمع الإيديولوجي، وكرد على الهيمنة المفروضة لممارسة الجنس مع المغاير.
إن دينامية النضال التحرري للمثليين الجنسيين لها أكثر من دلالة ديموقراطية. فهي يمكن أن تتجاوز إطار المساواة الجنسية، وتعد تحديا للأفكار المسبقة المنغرسة بعمق. إنها تساهم في النضال ضد كل أنواع التقسيمات في صفوف العمال. كما أنها يمكن أن تشكل تحديا للعائلة البطريركية وللتقسيم الجنسي للعمل باعتبارهما ركيزة اضطهاد النساء وعنصرا للرقابة الاجتماعية، سواء في البلدان الرأسمالية المصنعة أو في البلدان التابعة أو في البلدان الخاضعة للهيمنة البيروقراطية.
يجب على الاشتراكية أن تعبر بكل وضوح عن هدفها في تحرير الإنسانية من القمع الجنسي الذي يعيق تطور الأفراد. لهذا يساهم الاشتراكيون الثوريون المعنيون في نضالات المثليين الجنسيين من الرجال والنساء، ويدعمون مطالبهم لأجل حماية شرعية وكاملة ضد كل تمييز يقوم على التوجيه الجنسي.
16) بدون اشتراكية يستحيل نضال ناجع من أجل حماية البيئة
كان ماركس وانجلز قد أدركا ميل الاقتصاد الرأسمالي إلى تخريب الطبيعة وإتلافها. وقد وضح انجلز في أواخر حياته كيف أن الإنسانية ستؤدي ثمنا باهظا إذا ما استمرت السيطرة الميكانيكية على قوى الطبيعة. لكن هذا الوعي الجنيني بمسائل البيئة لم يتم قط تطويره، لا من طرف الحركة العمالية المنظمة ولا من طرف المنظرين الماركسيين الذين تلوا انجلز. بل على العكس، ظلت الحركة العمالية، بما في ذلك جناحها الثوري، رهينة تصور للاشتراكية يستبعد إدراج التكلفة البيئية في النموذج الاقتصادي الذي تصبو إليه.
إن الاشتراكيين اليوم، مدينون إذن للبيئيين المعاصرين، بما فيهم الأحزاب المسماة بالخضر الذين استعادوا ووسعوا الوعي البيئي الذي حمله اشتراكيو القرن 19. إن مراجعة النظرية الاشتراكية في هذا الاتجاه، هي بمثابة نقد ذاتي ومسؤولية لا مناص منهما.
لكن من الضروري أيضا أن نشير إلى انحراف أحزاب الخضر وانسياقهم مع المذهب التدريجي والإصلاحي-الجديد الذي ينتج، كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية والأحزاب الستالينية والما بعد-الستالينية في المتروبولات الإمبريالية، عن انعطافهم نحو السياسة الواقعية وعن مشاركتهم في التسيير اليومي للدولة البورجوازية وللاقتصاد الرأسمالي. هذا الانسياق يبعدهم أكثر فأكثر عن موقفهم المبدئي كبيئيين، بل يجعلهم قاصرين عن إدراك ضرورة الإطاحة بالرأسمالية والتي بدونها سيستحيل القيام بنضال شامل وناجع ضد الأخطار التي تهدد البيئة الطبيعية.
من الواضح أن العائق الأساسي لحل مثل هذه المشاكل لا يكمن في انعدام المعارف العلمية، بل في كون التلوث ما زال يذر أرباحا أكثر من أي اختيار بيئي آخر. ينضاف إلى هذا دور الإمبريالية، التي تبقي شعوب "العالم الثالث" في بؤس دائم وتجعلها بالتالي في حاجة إلى حلول مباشرة للمشاكل الأساسية المرتبطة بالعيش والبقاء وتجعلها عاجزة عن أخذ مصالح الأجيال القادمة بعين الاعتبار، هذا الدور يساهم في خلق مشاكل من قبيل إتلاف الغابات الاستوائية والإبادة غير القانونية لأنواع من الكائنات الحية مهددة بالإنقراض، أو القيام بأعمال زراعية أو فلاحية تساعد على التصحر.
في مجتمع يرتكز على البحث عن الربح والسعي إلى الإثراء الخاص، والذي تهيمن فيه المنافسة والأنانية والبحث عن "الفعالية" الاقتصادية الضيقة، يتم استعمال الثروات دون مراعاة عواقب استعمالها على المدى البعيد، فبالأحرى عواقبها على البيئة. سيكون هناك دائما مقاولون يتحايلون على نص قانوني مستوحى من اهتمامات بيئية، وذلك لتنمية أرباحهم الخاصة.
إن كل تشريع يسعى إلى تقليص التكلفة البيئية لعمليات الإنتاج الشائعة وذلك عبر "إرغام الملوثين على الأداء"، لن تكون له سوى تأثيرات جزئية في أحسن الحالات. فبقدر ما يعتبر هؤلاء "الملوثون" مقاولات عظمى، فإنها ستلقي بعبء هذا الثمن على المستهلكين.
إن نضالا فعالا ضد التلوث ومن أجل حماية شاملة للبيئة، وكذا البحث الدؤوب عن مواد ومنتجات تعوض الموارد الطبيعية وتدبير استعمال هذه الأخيرة بشكل صارم، يستدعي أن تكون القرارات المتعلقة بالاستثمارات وباختيار تقنيات الإنتاج بيد الجماعة التي ستقوم بذلك بكل ديموقراطية وبعيدا عن كل مصلحة خاصة. إنه يقتضي إذن حلول مجتمع بدون طبقات.
لكن الأمر يتعلق بمجتمع اشتراكي ديموقراطي فعلا، وليس بمجتمع ما بعد-رأسمالي خاضع للهيمنة البيروقراطية ولا حتى بإلغاء محض للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتبادل الكبرى. لقد أبانت تجربة الاتحاد السوفياتي سابقا وتجربة بلدان أخرى لها نفس البنية، بشكل مأساوي، كيف أن سلطة البيروقراطية المطلقة واستبدادها وتبذيراتها، وتهورها واستهتارها، يمكن أن تؤدي إلى كوارث بيئية شبيهة بالتي سببتها الرأسمالية.
يعتبر البعض بأن الانفجار الديموغرافي في "العالم الثالث" يشكل إحدى الأسباب الأساسية للمخاطر التي تهدد البيئة. هذا المنطق يستند إلى استنتاجات سريعة عامة وبالتالي لا يركن إليه.
في الواقع، ليس الانفجار الديموغرافي لا أمرا دائما لا مناص منه، ولا ناجما عن أية ضرورة إثنية-"عرقية" ولا حتى "ثقافية". إنه مرتبط بالبؤس، وكذا بغياب بنية تحتية ملائمة للحماية الاجتماعية. وعلى الأطفال أن يعوضوا هذه البنية التحتية.
وهو مرتبط كذلك باضطهاد النساء وبالحمل المفروض عليهن، بأميتهن وتربيتهن غير الكافية في مجال التخطيط العائلي، وبولوجهن الجد محدود إلى وسائل منع الحمل. ويتحمل الجناح الأصولي/السلفي للكنائس، والفاتيكان قبل كل شيء وإن لم يكن وحده، مسؤولية عظمى في هذا الصدد.
لن تكون هناك أية مراقبة عقلانية للنمو الديموغرافي، في غياب الاشتراكية وبدون تقدم حاسم نحو تحرر النساء.
17) النضال ضد الاضطهاد القومي
تعتبر المسألة القومية إحدى المسائل الأكثر إثارة في الوضعية العالمية. وحتى إذا ما تجاوزنا وضعية المستعمرات التي ما زالت قائمة (بورتو-ريكو، أرخبيل الأنتيل، كاناكي...الخ)، فإن بلدان "العالم الثالث" شهدت "استقلالا" لم يرق بها إلى مستوى سيادة قومية حقيقية. فهي ما زالت خاضعة للهيمنة الإمبريالية بكل أشكالها، والتي تتراوح بين السيطرة السياسية-العسكرية المباشرة، والتبعية المالية والتكنولوجية والثقافية. ويزيد من حدة هذه التبعية عبء الديون، ثم نتائج سياسة الخوصصة وتفكيك القطاع العام التي يمليها صندوق النقد الدولي. تحت ذريعة مكافحة تجارة المخدرات، تعيد الإمبريالية بسط وجودها العسكري المباشر في أمريكا اللاتينية، ويمكن أن تقوم بذلك غدا في مناطق أخرى من العالم. ويعد تحكم الشركات متعددة الجنسيات والدول الإمبريالية في وسائل الاتصال السمعية-البصرية، وفي إنتاج وتوزيع البرامج عبر الأقمار الاصطناعية، وسيلة إضافية للتأثير والتحكم الثقافيين.
فضلا عن ذلك، ينتج عن التقسيم الاستعماري أو الاستعماري-الجديد لدول "العالم الثالث" وعن خصوصية تشكل نخبها الحاكمة، سواء القومية منها أو التي نصبتها الإمبريالية، وجود قوميات مجزأة وأقليات قومية أو إثنية مضطهدة (بفتح الهاء).
في المتروبولات الإمبريالية نفسها، حيث امتدت سيرورة تشكل الدول-القومية على مدى قرنين إن لم يكن أكثر، ما زالت توجد قوميات مضطهدة (شعوب هندية، سود، لاتينية وغيرها في الولايات المتحدة الأمريكية، كيبيكيين، إرلنديين، شعوب مضطهدة في دولة إسبانيا،...الخ). وفي بعض الحالات، يغذي هذا الإضطهاد حركات جماهيرية قوية من أجل التحرر القومي. أما محاولات حل هذه المشاكل من خلال دمج وتركيب إجراءات قمعية عنيفة مع إصلاحات سياسية محدودة، فقد اصطدمت بمقاومة الشعوب المعنية. ومن الوهم أن نؤمن بفكرة حل هذه المسائل في إطار إعادة ترتيب الرابطة الأوروبية. بل بالعكس، من المحتمل أن تؤدي الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية والترابية، التي ستنتج عن معاهدة "العقد الوحيد" (L’Acte unique europèen) إلى انبعاث المطالب القومية سواء تلك التي تم ارتجال حلها أو التي يستعصي حلها.
إن الأزمة الحالية في الاتحاد السوفياتي سابقا وفي يوغوسلافيا سابقا تتجلى كذلك في احتداد المطالب والحركات القومية الجماهيرية. هذه الأخيرة تعبر عن التناقض بين احترام الحقوق الديموقراطية القومية، وبين الديكتاتورية البيروقراطية والبوليسية التي تشكل الشوفينية أحد عناصرها الأساسية. إن أشكال الاضطهاد القومي القائمة في هذه البلدان كانت وما تزال جد متنوعة. وغالبا ما وجدت تطلعات الجماهير المعادية للبيروقراطية في المطالب القومية تعبيرا سياسيا شاملا يجمع بين التطلعات اللغوية والثقافية، والاقتصادية والبيئية، وبين ضرورة سيادة واستقلال قوميين.
لا يمكن للحلول السياسية الملموسة أن تتحدد بشكل عام، لكنها ستتحدد حسب كل حالة على حدة وعلى أساس قاعدة مبدئية.
إن الاشتراكيين الثوريين أمميون قبل كل شيء. فهم يدافعون دائما عن المصالح المشتركة لعمال وعاملات جميع القوميات دون إخضاعها لأية مصالح خاصة، كما يحاربون العنصرية وكره الأجانب والشوفينية، والاحتقار والميز المبنيان على أساس إثني، والقمع وكل عنف إزاء أي من المجموعات قومية كانت أو "عرقية" أو إثنية وكيفما كانت الخلفيات الموضوعية والذاتية لهذا العنف.
إن نقطة الانطلاقة لكل سياسة أممية حقيقية هي بالتأكيد الفصل الجذري بين قومية المضطهدين (بفتح الهاء) وقومية المضطهدين (بكسر الهاء)، والمعارضة الحازمة لهذه الأخيرة، ثم التضامن مع نضالات المضطهدين (بفتح الهاء).
يترجم هذا الموقف بالدفاع اللامشروط عن حق الأمم المضطهدة (بفتح الهاء) في تقرير مصيرها، أي حقها في الاستقلال الذاتي أو في أن تملك كامل السيادة لتتنظم مع أمم أخرى في إطار فيدرالي أو كونفدرالي، يتم الاتفاق عليه بكل تراض وحرية كما يكون قابلا للفسخ كذلك بكل تراض وحرية. لهذه الغاية، من الضروري أن يبرز عمال الأمة المضطهدة (بكسر الهاء) تضامنهم الكامل مع نضال الأمة المضطهدة (بفتح الهاء)، ليس فقط بهدف تدعيمه ولكن أيضا من أجل إضعاف دولة من يضطهدهم طبقيا.
إلا أنه يجب أن نفصل بين حركة جماهيرية من أجل حق تقرير المصير، والتي نساندها دون أي شرط، وبين القومية كإيديولوجية ونهج سياسيين، وذلك حتى في صفوف القوميات المضطهدة (بفتح الهاء). فعمليا، تغذي النزعة القومية ذات الأصول البورجوازية والبورجوازية-الصغيرة انحرافا شوفينيا معاديا للديموقراطية إزاء شعوب أخرى. ولا تنعدم التبريرات في هذا الصدد والتي يتم إيجادها بكل سرعة: ضمان أمن وحماية الدولة الجديدة المستقلة، ضمان وحدة وتجانس الأمة وبقائها، الدفاع عن "الحدود الطبيعية" (التاريخية) أو استرجاعها،... الخ. وهكذا يتحول مثل هذا النوع من النزعة القومية بشكل سريع إلى مضطهد (بكسر الهاء) وغالبا ما تغدو توسعية بعد حصولها على استقلال دولتها، كما أبانت يوغوسلافيا مثلا على ذلك بشكل مأساوي.
إضافة إلى ذلك، يعارض الماركسيون الثوريون كل إيديولوجية قومية، حتى تلك التي تتعلق بأمة مضطهدة (بفتح الهاء)، ترتكز على الإيمان بالتعاون الطبقي وبالتضامن بين أرباب العمل وعمال الأمة (أو بين البيروقراطيين والعمال) في مواجهة "العدو الخارجي". فهذا يتعارض مع الحاجة إلى التضامن الأممي بين كافة العمال والعاملات دون اعتبار اللون أو الانتماء القومي أو الجنس أو المعتقد.
مثل هذه الأخطار لم يتم تفاديها إلا في البلدان التي اندمج فيها النضال من أجل الاستقلال القومي مع النضال من أجل الاشتراكية بصورة بليغة ـ كوبا ونيكاراغوا على سبيل المثال. أما المثال الأكثر وضوحا، فهي الطريقة التي استطاعت أن تعالج بها الحكومة الساندينية سياستها، بعد أخطاء جسيمة في البداية في علاقاتها مع السكان الهنود بالساحل الشرقي لنيكاراغوا، وكيف سعت إلى إرساء علاقات معهم تقوم على الاحترام المتبادل والتضامن، وذلك رغم الظروف الصعبة التي نتجت عن الحرب التي تشنها عصابات الكونتراس. إنه دليل حي على أن شعار الاستقلال القومي وتعبئة الجماهير حول هذه المسألة لا يتعارضان بالضرورة مع الأهداف والتطلعات الأممية.
إننا نناضل من أجل عالم تنتفي فيه الحدود، ومن أجل إلغاء كل أنواع الامتيازات، من أجل إدماج كل القوميات في ديموقراطية اشتراكية عالمية، يتقارن فيها ازدهار ثقافة عالمية مشتركة مع ازدهار كل الثقافات القومية الخاصة. هذا الهدف الطموح لا يقتضي فقط إلغاء جميع الامتيازات القومية واللغوية، وجميع أشكال الوصاية المفروضة حتى على الأمة الأكثر ضعفا، ولكن يقتضي أيضا علاج الأضرار العريقة للاضطهاد القومي أو العرقي، وذلك عبر "تمييز إيجابي" لصالح الأقليات المضطهدة (بفتح الهاء). هكذا فقط يمكن أن تقوم مساواة دقيقة بين جميع الأمم.
آنذاك سيندرج النضال ضد الاضطهاد القومي في أفق مجتمع اشتراكي ديموقراطي. ويجب على الطبقة العاملة والحركة العمالية أن تكونا على رأس النضال ضد الاضطهاد القومي، وأن لا تعتبرا نفسيهما خارج هذه القضية، بل عليهما أن تكونا طليعة القوميات و"العرقيات" المضطهدة (بفتح الهاء) مع العمل على تقوية تضامنها الأممي مع نضالات جميع العمال والعاملات، بما فيها عمال القومية المضطهدة (بكسر الهاء).
18) النضال ضد النزعة العسكرية
منذ الستينات برزت معارضة جماهيرية في البلدان الإمبريالية ضد إعادة التسلح وضد الاعتداءات العسكرية التي تقوم بها بورجوازيتها الخاصة. وقد لعبت هذه المعارضة دورا أساسيا، في حالة الجزائر والفيتنام، في إجبار الإمبريالية على إيقاف المجزرة. وفي مختلف بلدان أوروبا تطورت، خلال الثمانينات، حركة قوية معادية لصنع الصواريخ والقذائف شكلت أقوى وأوسع حركة تعبوية للشباب في هذه البلدان، كما كانت أيضا حافزا على تنظيم النساء في حد ذاتهن.
بالنسبة للاشتراكيين الثوريين، يشكل كل فعل جماهيري يضع العوائق والعراقيل أمام الاعتداءات الإمبريالية أو تدخلاتها في بلدان أخرى، ظاهرة سياسية جديرة بالدعم. إننا نتعاون بكل صدق وإخلاص مع كل التيارات التي تعمل في هذا الاتجاه، مؤكدين بالخصوص على حق تقرير المصير بالنسبة للشعوب المضطهدة (بفتح الهاء).
إننا نعارض كل محاولة من قبل الإمبريالية، بما فيها تلك التي تتم تحت مظلة هيئة الأمم المتحدة، لتحديد مصير بلد من بلدان "العالم الثالث" أو أوروبا الشرقية، ضدا على مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها. ليست للولايات المتحدة الأمريكية ولا لأوروبا الرأسمالية ولا لليابان أي مشروعية في تحديد مستقبل بلدان آسيا أو إفريقيا، أمريكا اللاتينية، أوروبا الشرقية أو جزر المحيط الهادئ.
مؤخرا، برزت في صفوف شبيبة مختلف بلدان أوروبا، وكذا اليابان، حركة راديكالية تدعو إلى رفض الجيش البورجوازي والخدمة العسكرية والتسلح بجميع أشكاله. هذه الحركات تضرب في عمق الدولة البورجوازية التي يعتبر الجهاز العسكري أساسها الجوهري. كما أنها تملك طاقة لتهديد المركب العسكري-الصناعي باعتباره سندا حيويا آخر للدولة البورجوازية.
هذه الحركات إذن، تستحق هي الأخرى تأييدا كاملا من قبل الاشتراكيين الثوريين.
19) إحياء النضال الأممي وتجديده
عرف تدويل قوى الإنتاج خلال العقود الأخيرة تسارعا جديدا. ولم تعد الشركات متعددة الجنسيات تخضع للمراقبة من طرف الحكومات، بما فيها حكومات القوى الإمبريالية الأساسية. تهيمن أقل من 700 من هذه الشركات لوحدها على السوق العالمية، وتنقل من بلد إلى بلد استثماراتها ومراكز الإنتاج والتخزين والتوزيع، وذلك وفق معيار واحد هو البحث عن الربح الأقصى. هكذا ويؤدي تدويل القوى المنتجة والرأسمال، وتدويل الخدمات وتقسيم العمل، إلى تدويل متنامي للصراع الطبقي.
كان خلق الأمميات العمالية الأولى منذ أكثر من قرن، تعبيرا عن روح الإقدام والمبادرة لدى الحركة العمالية. إلا أن الأجهزة البيروقراطية بنزعتها المحافظة والشوفينية أدت إلى التراجع والانكفاء، والى التعاون مع الباطرونا "الوطنية"، وذلك بانصرافها عن استراتيجية أممية فعالة في الرد على هجوم التروستات.
في البلدان الإمبريالية، يمكن لتراجع هذه النزعة الأممية أن يكتسي شكل النزعة الشوفينية الكلاسيكية: الألمان"يون" أو اليابان"يون" أو المكسيك"يون" أو الأمريك"يون"، مستغلون (بكسر الغين) ومستغلون (بفتح الغين) على السواء، هم المسؤولون على البطالة التي تصيب"نا" ! كما يمكن أن يكتسي شكل انحياز لصالح أوروبا التروستات والباطرونا، أي شكل "أورو-شوفينية" الأغنياء والأثرياء، والتي ليست سوى وجها آخر للنزعة القومية الرجعية.
إن الرد الفعال والوحيد على الاستراتيجية العالمية للشركات الاحتكارية، هو التضامن الأممي بين عمال جميع البلدان في مواجهة الباطرونا "الوطنية" والأجنبية على السواء. ويمر هذا التضامن عبر تنسيق العمل النقابي ما وراء الحدود، بهدف معارضة محاولات التخفيض من مستوى الأجور وشروط العمل في مختلف البلدان بمحاولات السير به نحو الارتفاع التدريجي. وهذه المقاربة لن تلحق أي ضرر بعملية التصنيع وبخلق فرص الشغل في بلدان "العالم الثالث"، بل ستعوض "نموذج التطور والتنمية" الذي يرتكز على تصدير الأجور المنخفضة بنموذج يتمحور حول القضاء على البؤس وعلى توسيع السوق الداخلية وعلى تحويل كثيف للتكنولوجيات المتطورة نحو البلدان المتخلفة.
على مجموع الحركة العمالية أن تناضل من أجل الإلغاء النهائي والمباشر لديون البلدان المتخلفة وديون بلدان أوروبا الشرقية. إنه التزام وتعهد يستلزمهما التضامن الأولي مع السكان الأشد بؤسا والأكثر تعرضا للاستغلال.
إن النضال الأممي اليوم، هو أيضا نضال ضد تقسيم الطبقة العاملة وضد العواقب التي تنتج عن هذا التقسيم من عنصرية وكره للأجانب في قلب المراكز الإمبريالية نفسها (خصوصا ضد العمال المهاجرين)، وضد دينامية الميولات الفاشية التي يمكن أن يحملها في طياته.
ليست الثورات قابلة للتصدير، كما أنها ليست نتيجة لمخطط انقلابي يسهر على نسج خيوطه "مركز أممي من المتآمرين". فالجماهير لا تخضع لتوجيه أي كان، فهي تنتفض ضد أنظمة الاستغلال والاستبداد، وضد أنظمة البؤس والذل التي فرضتها وما تزال الإمبريالية تفرضها.
بالمقبل يتم تصدير الثورات-المضادة تحت غطاء الاتفاقات والتحالفات الإمبريالية أو البيروقراطية. لم تنج أي معركة ضد هيمنة الرأسمال (بدءا بالثورات في كل من روسيا، فينلندا، ألمانيا، وهنغاريا وصولا إلى الثورتين الإسبانية واليوغوسلافية)، أو ضد النير الاستعماري (من الثورتين الصينية والهند-الصينية إلى حروب التحرر الإفريقية)، أو ضد استبداد الأنظمة الاستعمارية-الجديدة (كوبا، نيكاراغوا، سالفادور،...الخ)، لم تنج من الاصطدام مع التدخل العسكري الإمبريالي أو من ضغط تهديداته.
أمام هذا العدوان الإمبريالي، أبان التضامن الأممي الكثيف عن فعاليته في بعض اللحظات الحاسمة. فقد حالت الحركة العمالية السويدية دون شن السويد حربها على استقلال النرويج سنة 1905, وأنقذت الحركة العمالية البريطانية الثورة الروسية، في 1920، بوقوفها ضد العدوان العسكري لإمبرياليتها الخاصة، التي كانت تريد أن تتدخل إلى جانب بولونيا. كما أوقف التضامن الجماهيري مع كل من كوبا ونيكاراغوا التدخل الإمبريالي، ولو أنه لم ينجح في رفع الحصار المفروض على هذين البلدين.
لكن تدخل الثورة-المضادة في كل من الهند-الصينية ونيكاراغوا، والذي دام سنوات طويلة، كان باهظ الثمن. فقد خلف شعوبا مستنزفة ومنهكة وأنظمة اقتصادية مخربة ومهدمة وبالتالي عاجزة على ضمان تحسين سريع لمستوى العيش. إن التضامن النضالي عبر مختلف أشكاله والذي سيسمح بتحقيق نصر سريع وبأقل تكلفة ممكنة، يشكل الرد الضروري على تدويل الثورة-المضادة.
تكتسي الأزمة الاجتماعية للرأسمالية بعدا عالميا أكثر من أي وقت مضى. فليس هناك أي حل حقيقي على الصعيد القطري للمسائل الأساسية المتعلقة بنزع السلاح وبالطاقة، بتدمير الغلاف الجوي، بالمجاعة والأمراض في بلدان "العالم الثالث". وإذا كانت مواجهة هذه الكوارث والويلات ستبدأ على صعيد قطري، فإن إلغاءها النهائي لن يتم إلا على صعيد عالمي.
كان غورباتشوف قد تخلى عن الوهم الرجعي بصدد إمكانية إنجاز بناء الاشتراكية في بلد واحد أو في معسكر واحد، بتأكيده على الطابع العالمي الذي تكتسيه المشاكل الكبرى. وإذا كان هذا التشخيص أكثر واقعية، فإنه في جميع الأحوال لا يصل إلى حد استنتاجات الماركسيين الذين يعتبرون أن الثورة الاشتراكية العالمية، وهي تضم أهم البلدان الصناعية، وحدها قادرة على حل أزمة البشرية.
على العكس من ذلك، ينتج عن تأكيد غورباتشوف على الطابع العالمي للمشاكل وهم رجعي آخر، مفاده أن حل كل المشاكل الكبرى يمكن أن يتم عبر تعاون متزايد مع الإمبريالية. إن هذه السياسة، بقدر ما تمارس ضغطا على الحركات الجماهيرية في اتجاه مساومة مع الإمبريالية أو استسلام إزاءها، تساهم في تأبيد نظام الاضطهاد وتجعل درء الكوارث أمرا مستحيلا على المدى البعيد.
20) نناضل من أجل أن يظفر الأفراد بالكرامة، بالثقة في النفس وبالسعادة
تعمد البورجوازية بكل خبث إلى اتهام الاشتراكيين بكونهم يريدون التضحية "بالفرد" وبالبحث عن "السعادة الفردية"، في سبيل أفكار طوباوية و"الانضباط لرغبة الدولة". أكيد أن ممارسات البيروقراطيات العمالية، سواء الستالينية أو المابعد-الستالينية منها أو الاشتراكية-الديموقراطية، قد تساهم في تغذية هذه الخديعة. لكن وقاحتها بادية للعيان.
إن المجتمع البورجوازي، وليست "الطوباوية الاشتراكية"، هو الذي يقوم بخنق تألق الشخصية الإنسانية وكمالها، وذلك للأغلبية الواسعة من سكان العالم، ليس فقط في "العالم الثالث" بل كذلك في البلدان المسماة غنية. فالإكراهات المادية والتفاوتات الاجتماعية، والعمل المستلب (بفتح اللام) والاستهلاك الموجه، وغياب حرية الاختيار عمليا في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، تشكل كلها الخطوط الموجهة لهذا الخنق.
يجب الرد على البورجوازية وعلى "قيمها" المتعفنة بالدفاع عن حق الفرد في السعادة، كما يجب الرد عليها بالمبادئ العامة لحقوق الرجال والنساء.
إن المحافظين-الجدد من أنصار الليبرالية، وهم في هذا الصدد ورثة شرعيون لأسلاف الإيديولوجية البورجوازية، يسقطون في تناقض مستعصي الحل: لكل فرد الحق في البحث عن سعادته... بشرط ألا يتعارض هذا الحق مع "قانون الأجور الحديدي لاقتصاد السوق"، أي مع الدفاع عن مصالح الرأسمال.
بالنسبة لنا، نحن الاشتراكيون الثوريون، ليست هناك "قوانين اقتصادية ثابتة" ولا "إكراهات اقتصادية حديدية" مفروضة بشكل حتمي. فالمستوى الذي بلغته الثروة المادية اليوم، يسمح للرجال والنساء كي يختاروا بين مختلف الأولويات. لكنهم يجب أن يظفروا بحرية القيام بهذه الاختيارات تبعا لحق الجميع رجالا ونساء في الكرامة الفردية، وفي السعادة الفردية، وفي تألق الشخصية الإنسانية وكمالها.
يمدح المحافظون الليبراليون مجتمعا يكون فيه التفاوت الاجتماعي قائما على أساس تباينات في جدارة الفرد وأهليته. والواقع أن "استبدادية الجدارة" هذه، تحجب الاستغلال والاضطهاد اللذان يشكلان أساس التفاوت الاجتماعي. فالذين يملكون سيزيدون اغتناء، والذين لا يملكون شيئا في البداية لن يملكوا شيئا في النهاية. إن خبث "استبدادية الجدارة" المزعومة تلك، يتجلى في الوقت الذي نسجل فيه "جدارة وأهلية" القيام بالفساد والجريمة لخلق ومراكمة ثروات طائلة.
إننا نعارض هذه الأضاليل بالنضال من أجل تكافؤ الفرص اجتماعيا كقاعدة تسمح لكل فرد أن يظفر بالسعادة الفردية. ليس لأي بنية اجتماعية، سواء كانت استبدادية السوق أو كانت نظاما اقتصاديا يقوم على "الإمرة والوصاية"، الحق في فرض سعادة مزعومة على الرجال والنساء رغما عنهم وضدهم.
بالإضافة إلى كل هذا، يشكل النضال من أجل البقاء المادي للجنس البشري المبرر الأساسي لاعتناق الاشتراكية.
إن النضال الاشتراكي هو نضال من أجل مجتمع يرتبط فيه تطور حر لجميع الرجال والنساء بتطور حر لكل فرد امرأة أو رجل. ففي عالم يميل نحو البلبلة والارتياب، ونحو الخشونة والإحباط فيما يخص مستقبله، سيكون النضال من أجل اشتراكية حقة نضالا من أجل استعادة الثقة في النفس ومن أجل سعادة الفرد.
21) ثوريون نحن
لإرساء اشتراكية حقيقية وديموقراطية، ليس هناك من سبيل آخر سوى القطيعة مع الرأسمالية ومع الأنظمة البيروقراطية والإطاحة بهما عبر التعبئة الجماهيرية، أي سبيل الثورة.
إن حصيلة هذا القرن الذي هو في طور النهاية، ليست إفلاس الستالينية وحدها بقدر ما هي إفلاس الاشتراكية-الديموقراطية كذلك، إفلاس اندماجها المتزايد في دواليب جهاز الدولة البورجوازية وكذا تسييرها الوفي والعنيف لمصالح الإمبريالية ثم تحالفها المقدس مع شركائها البورجوازيين. وهي أخيرا إفلاس القومية البورجوازية والقومية البورجوازية-الصغيرة في بلدان "العالم الثالث"، العاجزة عن استكمال مهام التحرر القومية والانعتاق الاجتماعي. لم يكن القرن العشرين إذن قرن تقدم سلمي وتدريجي، بل كان قرن الثورات والحروب والثورات-المضادة.
ليست الجماهير ثورية بشكل دائم. فهي لا تنطلق في أعمال ثورية إلا بالضرورة عندما تصبح الوضعية القائمة غير محتملة، وعندما لا تعود هذه الجماهير تطيق ما لا يطاق، وعندما يحدث لديها تحول إبان أزمة ثورية تكسر من خلاله حلقة الخضوع والتبعية. ومن المحتوم أن تحدث هذه الأزمات بصورة دورية.
تكمن مهمة أولئك الذين واللواتي يدركون هذا الواقع في المساهمة في المراكمة اليومية للتجارب وفي توحيد وتربية العناصر الأكثر كفاحية، وفي رسم أهداف بحيث يكون مسلك الأزمة الثورية نحو الانتصار وليس نحو الثورة-المضادة التي ستجعل المستغلين (بفتح الغين) والمضطهدين (بفتح الهاء) يدفعون ثمنها على مدى سنوات طويلة.
يماثل المستغلون (بكسر الغين) والحاكمون الثورة بالعنف والإرهاب. فهم يخلطون الأوراق والمسؤوليات ويمزجون بين تكاليف الثورة وتكاليف الثورة-المضادة. يقومون بذلك كأن نظامهم لم يكن نظام عنف يومي متجسد في المجاعة والبؤس وفي العمل المضني ثم في الحروب التي لها، في آخر الحساب، عواقب تدميرية أكثر من أي ثورة كانت. ويقومون بذلك كأن الثورات-المضادة والديكتاتوريات الفردية (الفاشية !) أو الشبه-الفاشية التي غالبا ما تنتج عنها، لم تثر أعمال العنف والتعسف ولم تتسبب في خسائر لا مثيل لها.
كلف القصف الأمريكي للهند-الصينية عددا من الضحايا أكثر بكثير مما كلفته الثورة. أما ضحايا معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفياتي سابقا (الكولاك) والذين يعدون بالملايين، فهم ينسبون إلى الثورة-المضادة الستالينية وليس إلى ثورة أكتوبر.
تعلو أصوات تنادي بانقضاء عهد الثورات، وبأنها أصبحت من المستحيلات نظرا لحجم القوات الإمبريالية ولحجم تسلحها. مع ذلك، نجحت حرب التحرير الفيتنامية في صد التدخل الأمريكي الذي استعملت فيه وسائل لم يسبق لها مثيل. كما انتصرت الثورة الكوبية تحت مرأى ومسمع العملاق الإمبريالي, ثم إن الثورة النيكاراغوية أطاحت بحكم سوموزا في عقر الباحة الخلفية لدركي العالم.
ما زال المنادون ب"أهون الشرور" ينادون بالاكتفاء بالرأسمالية وبمساوئها عوض المجازفة بديكتاتوريات بيروقراطية فردانية "ذات الاتجاه الوحيد". فهم إلى حدود الأمس، يزعمون أن الدولة الأخطبوطية في البلدان "الشيوعية" التهمت المجتمع وشلته إلى الأبد. بيد أن هذا المجتمع استيقظ وثار وتمرد على البيروقراطيين وأزاحهم وحطم أغلالهم.
لقد أزيل الستار الستاليني. وسيكون الوقت الذي ستبرز فيه نتائجه الإيجابية، بداية فصل جديد من التاريخ.
في بلدان أوروبا الشرقية وفي الاتحاد السوفياتي سابقا ستدون صفحات جديدة بخصوص النضال الجماهيري من أجل الديموقراطية من جهة، وضد الخوصصة من جهة ثانية. وشيئا فشيئا، ستنبثق من هذه النضالات حركة عمالية سياسية نشيطة تقوم على الاستقلالية إزاء الدولة ونبذ كل احتكار سياسي، وعلى فصل كل الأحزاب السياسية عن جهاز الدولة، والتمثيلية والمساواة بالنسبة للنساء والأقليات القومية، وعلى ممارسة السلطة من طرف أجهزة منتخبة ديموقراطيا، وتفكيك الأجهزة القمعية وإرساء التسيير الذاتي.
في البلدان الإمبريالية، ستكون الاستراتيجية الثورية مبنية على تركيب إرث كل من المراحل التالية: النصف الأول من هذاالقرن، مرحلة الستينات والسبعينات، والمرحلة الممتدة من ماي 68 الفرنسي إلى الثورة البرتغالية. ويتلخص هذا الإرث في ما يلي: التنظيم الذاتي الاشتراكي المعمم، التطلع إلى التسيير الذاتي، حركة مستقلة من أجل تحرر النساء، التضامن الأممي بما في ذلك النضال ضد الإمبريالية، نضال عام من أجل حياة جيدة ونوعية.
في البلدان التابعة، أكدت التجارب الحاسمة المنتصرة منها والفاشلة الخيار الحقيقي المتمثل في: إما ثورة اشتراكية أو مسخ من الثورة. ولا يؤدي هذا الخيار إلى سوء تقدير المهام القومية والديموقراطية، ولا إلى خلط بين مهام مرحلة بداية سيرورة ثورية ومهام مرحلة نهايتها. كما أنه لا يوحي إلى إغفال مسألة التحالفات. لكنه ينطوي على ضرورة تجنب إخضاع الجماهير الكادحة إلى البورجوازية "الوطنية" بشكل قاطع.
ليس خطر التبقرط مرتبطا فقط بالتنظم في حزب سياسي. فجذوره تكمن في وجود الدولة كجهاز من محترفي السلطة، في شروط عيش الطبقة العاملة وظروف عملها، وفي عواقب التقسيم الاجتماعي للعمل على الحركة العمالية. وليست الأحزاب، ولا حتى النقابات ومختلف الجمعيات، في مأمن من هذا الخطر. كما أن ديماغوجيو وسائل الإعلام، حتى "غير المتحزبين"، ليسوا أقل تبقرطا.
إن الوسيلة الوحيدة، ليس للقضاء النهائي على أخطار التبقرط، بل لصدها وتقليصها تدريجيا تكمن في إرساء ديموقراطية داخل المنظمات. وهذه الأخيرة عليها أن تعمل جاهدة على تصحيح ومحاربة التمايزات الاجتماعية والتمييز الجنسي والثقافي في صفوفها، وذلك أساسا عبر تربية وممارسة جماعية ترفعان من مستوى وعي أعضائها، وعبر تنمية نشاط هؤلاء الأعضاء بصورة دائمة والذي بدونه تبقى الديموقراطية الداخلية صورية بشكل واسع، وأخيرا عبر استيعاب دروس التجربة التاريخية خصوصا في مجال ضمان الديموقراطية العمالية من طرف السلطة الحاكمة (حق التكتل !).
22) من أجل أحزاب ثورية جديدة، ومن أجل أممية ثورية جماهيرية
يؤكد الاعتراف الرسمي بجرائم ستالين من طرف السلطات السوفياتية، مضمون ودلالة النضال الذي خاضته المعارضة اليسارية بدءا من 1923، ثم الأممية الرابعة منذ تأسيسها في 1938، ضد الانحطاط البيروقراطي للحزب الشيوعي السوفياتي والأممية الشيوعية. فبفضل حزم وشجاعة المناضلين والمناضلات الذين واللواتي كافحوا (ن) في الاتحاد السوفياتي ضد الستالينية، وبفضل عزم ليون تروتسكي وأولئك الذين ساهموا معه في تأسيس الأممية الرابعة، يمكن لنا اليوم أن نقف قبالة بروليتاريا كل من الاتحاد السوفياتي سابقا والصين وأوروبا الشرقية بكل جرأة وبدون حرج ولا أي شعور بالذنب.
يعتبر بناء منظمات ثورية في مختلف البلدان، متجذرة ما أمكن في واقعها المحلي، وبناء منظمة أممية ثورية في آن واحد، مسألة مبدئية بالنسبة لنا تستجيب للظروف الموضوعية ولمتطلبات الحقبة الإمبريالية.
إن الوجود المادي هو الذي يحدد الوعي، حتى بالنسبة للثوريين كذلك. فالتضامن الأممي ودعم النضالات وتبادل الخبرات مهما كانت كلها أمورا ضرورية وثمينة، تظل غير كافية.
إذا ما شرعنا في البناء الجماعي لمنظمة أممية مع الثوريين في البلدان الأخرى، وإذا ما واصلنا جماعيا إعداد برنامجها، آنذاك نستطيع رؤية العالم بعيون العاملة الروسية أو بعيون الطالب الصيني وهو يناضل ضد البيروقراطية، وفي الوقت نفسه بأعين العامل والفلاح والمرأة الذين يتعرضون لاستغلال كثيف في بلدان "العالم الثالث"، وبأعين عامل المنجم في بريطانيا، وعامل صناعة السيارات في اليابان وعامل الصناعات الإلكترونية في أمريكا الشمالية.
آنذاك فقط، يمكن أن نقف بشكل دائم إلى جانب الحركات المعادية للبيروقراطية، في نفس الوقت الذي نقف فيه إلى جانب المضطهدين (بفتح الهاء) الذين تسحقهم الإمبريالية، والى جانب عمال المتروبولات الإمبريالية الذين يناضلون ضد الباطرونا ودولتها. آنذاك فقط، يمكن أن نبقى ملتزمين بموجهنا وبوصلتنا الوحيدة المتمثلة في الدفاع عن المصالح العامة، الاجتماعية والتاريخية للبروليتاريا، وليس عن المصالح الخاصة والدبلوماسية للدول و"المعسكرات" و"الكتل"، أو مصالح أي من الحكومات أو "الأحزاب-القيادية".
إذا كانت هناك منظمات تناضل اليوم بإخلاص وأحيانا ببطولة من أجل إلغاء الاستغلال في بلدانها، بمعنى منظمات ثورية قطرية، فإنه لا يوجد للأسف أي تيار وازن خارج الأممية الرابعة يضع على جدول الأعمال بشكل مباشر بناء منظمة أممية ثورية.
أما تحفظات تيارات أخرى بصدد بناء منظمة أممية، فلها جذور عميقة. فقد ساهم كل من إفلاس الأممية الثانية، والاستسلام الشوفيني لأحزابها وزعمائها الرئيسيين منذ إعلان الحرب العالمية الأولى، في تغذية الفكرة القائلة بأن مبدأ الأممية لا يتجاوز حدود النوايا الحسنة وأنه يتحطم عمليا عندما تواجه أحزاب جماهيرية أوضاعا صعبة.
بعد موت لينين، كانت تجربة الأممية الشيوعية بإملائها تغييرات في التوجه على فروعها القومية، لا بل تغييرات حتى في صفوف قادتها، وذلك بقرارات تصدر من "المركز"، قد أثارت حرصا متينا ومشروعا من مغبة مركزية بيروقراطية أممية. كما كانت تجربة أخرى أكثر منها كارثية والتي تمثلت في عدم الفصل بين الحزب والدولة وفي إخضاع "الأحزاب الشقيقة" لمصالح الدولة وحاجاتها الدبلوماسية في مختلف "أوطان الاشتراكية"، سوفياتية كانت أو صينية، قد دعمت حرص الاستقلال القطري لدى العديد من المنظمات الثورية.
وأخيرا، كان ثقل المساعدة المادية للدول البيروقراطية قد أثر بشكل وازن على الحركة العمالية العالمية، بما في ذلك المنظمات الثورية التي حرصت، لتأمين دعمها المادي، على تحاشي مواجهة سياسية مع هاته الدول بل استبعاد ضرورة التضامن الأممي إزاء العمال والشعوب ضحايا البيروقراطية، إن اقتضى الأمر ذلك.
غير أن مبدأ التضامن الأممي، في عالم ما فتئ يزيد ترابطا، ليس فقط ضرورة أخلاقية، بل ضرورة استراتيجية وتكتيكية مباشرة. لهذا فبناء منظمة أممية هي مهمة لا يمكن إرجاؤها إلى الغد. وتعتبر الأممية الرابعة، وهي التنظيم الأممي الوحيد في العالم، الأداة التي لا مناص منها اليوم للاضطلاع بهذه المهمة ولو بشكل متواضع,
إننا ندرك بأن عملية بناء أحزاب جماهيرية ثورية في مجموعة من البلدان، وعملية بناء أممية جماهيرية ثورية لا تسيران، بالضرورة، بنفس الخطوات. فكلما ظهرت، في بلد ما، إمكانية بناء حزب عمالي مستقل عن الدولة، عن البورجوازية وعن البيروقراطية، ويضمن في صفوفه حق التكتل بصورة فعلية، فإننا سندعمها. وكلما وجدت منظمة ثورية نتقاسم نفس أهدافها ونهجها في النضال من أجل الإطاحة بالرأسمالية سنقف إلى جانبها. وفي كلتا الحالتين ليس لدينا أي مبرر لتغذية نزعة ذاتية عصبوية. بالعكس، نقترح أن يتوحد الثوريون في منظمة ديموقراطية واحدة على الصعيد القطري، حتى يتسنى لنا جميعا أن نتجه نحو التيارات الأخرى، إصلاحية كانت أو شعبوية يسارية، لنقترح عليها وحدة العمل على جميع المستويات في مواجهة البورجوازية وفي مواجهة البيروقراطية.
لكن، مهما طال عدم اقتناع رفاقنا أو أصدقائنا الثوريين بضرورة وراهنية النضال المباشر من أجل بناء منظمة أممية ثورية، يقوم برنامجها على الدفاع عن مصالح المستغلين والمستغلات (بفتح الغين) والمضطهدين والمضطهدات (بفتح الهاء) في جميع البلدان، فإننا نتشبث بحقنا في مواصلة هذا النضال وحدنا على رؤوس الأشهاد.
إن الاتفاق على مشروع بناء منظمة أممية والعمل في هذا الاتجاه ليسا شرطين ضروريين لنباشر عملية بناء أحزاب قطرية مشتركة مع تيارات أخرى، ما دام الاتفاق على المهام وعلى الممارسة يسمح بذلك. لكن وفي نفس الوقت، لا يفصل بين السياسة القطرية والسياسة الأممية أي سور صيني. ففي عالم يكتسي فيه الصراع الطبقي طابعا عالميا أكثر من أي وقت مضى، ليست الأولى مسألة راهنية في حين أن الثانية تغدو مسألة مستقبل.
إننا نضل مخلصين لمبادئ البيان الشيوعي الجوهرية: ما من مصلحة خاصة تفصلنا عن مصالح مجموع البروليتاريا. إننا لا ندعو إلى أي مبدأ خاص نريد تكييف الحركة العمالية وفقه. كما أنه لا يميزنا عن الأحزاب العمالية الأخرى سوى نقطتين. ففي مختلف نضالات العمال القطرية نغلب المصالح المستقلة عن الأمة والمشتركة لكل المأجورين والمأجورات. وفي مختلف أطوار صراع البروليتاريا مع البورجوازية، نغلب دائما المصالح التاريخية للحركة برمتها.
إننا ندعو جميع الاشتراكيين رجالا ونساء إلى إخضاع ممارستهم اليومية، أينما كانوا ومتى كانوا، إلى ما أسماه ماركس بالضرورة المطلقة: النضال من أجل القضاء على كل الشروط التي تجعل من الكائن البشري كائنا مستلبا (بفتح اللام)، مهانا ومحتقرا، كيفما كانت القوى الاجتماعية التي تقوم بهذه الفظاعات. ولن يتم تجاوز أزمة مصداقية الاشتراكية إلا بتحقيق هذا الشرط.
تدعو الأممية الرابعة بدورها إلى النضال الموحد ضد كل أشكال الاستغلال والاضطهاد عبر العالم، وذلك من أجل ديموقراطية اشتراكية تعددية، من أجل اقتصاد خاضع للتسيير الذاتي وللتخطيط موجهين إشباع الحاجيات عبر تملك وسائل الإنتاج والتبادل والاتصال الكبرى من طرف المنتجين الشركاء الأحرار، من أجل نزع السلاح بشكل كامل ومتكامل، من أجل تحرر النساء والمساواة بين الجنسين، من أجل التضامن الأممي والنضال الأممي، من أجل حماية كوكب الأرض والوجود المادي للجنس البشري.