العولمة الرأسمالية والإمبرياليات والفوضى الجيوسياسية ومستتبعاتها

 

لا تدعي "الموضوعات" التالية الاكتمال ولا عرض استنتاجات ناجزة. غايتها الأولى إنعاش عملية تفكير جماعي عالمية. وغالبا ما تستند على حجج سبق تقاسمها، لكنها تسعى إلى دفع مستتبعاتها نحو أمام. ولهذه الغاية، ومع المجازفة بتبسيط مفرط لوقائع معقدة، تقوم الموضوعات بـ "تصفية" التطورات الجارية، غير المكتملة في الغالب، لتثمين ما يبدو جديدا.

 

فهرس

مقدمة

  1.      مجرة ​​إمبريالية جديدة
  2.      عدم الاستقرار الجيوسياسي المزمن
  3. العولمة وأزمة القابلية للحكم
  4. الإمبرياليات المتشكلة الجديدة
  5. قوى يمين متطرف جديدة، وفاشيات جديدة
  6. الأنظمة الاستبدادية والمطلب الديمقراطي والتضامن
  7. التوسع الرأسمالي وأزمة المناخ
  8. عالم حروب دائمة
  9. حدود القوة العظمى الفائقة
  10.      النزعة الأممية بوجه المعسكراتية
  11. أزمة إنسانية
  12. حرب طبقية معولمة

هذه التحولات عميقة، وقد تبرز سمات متناقضة، ولها عواقب في جميع المجالات. لسنا نشهد إرساء منظما لنمط هيمنة عالمية مستقرة. إن سيطرة رأس المال المعولم يغذي عدم الاستقرار. وليس تطور موازين القوى بين القوى العظمى معطى مسبقا، ويظل رهان نزاعات شديدة يتعذر التنبؤ بما ستفضي إليه. وبالمقابل، يمكن قياس تغير الحقبة المبتدئ في سنوات 1990، وتحليل الديناميات الجارية اليوم وأهميتها السياسية.

I - مجرة امبريالية جديدة

أول ما نعاين هو اختلاف الوضع الراهن عن أوضاع مطلع القرن أو في أثناء سنوات 1950-1980.  بعد ربع قرن من تفجر الاتحاد السوفياتي وصعود العولمة الرأسمالية، أصبحت دينامية النزاعات بين القوى غير مسبوقة وذات عواقب خطيرة بوجه خاص. يمكن إجمال عناوينها العريضة في:

يتشكل الوضع الحالي بشكل كبير عبر الصراع بين القوة الرئيسة القائمة، الولايات المتحدة الأمريكية، والقوة الرأسمالية الصاعدة، الصين، التي تطالب بدخول حلبة الكبار. يجري هذا الصراع في جميع القارات وفي جميع المجالات: الاقتصادية والمالية والنقدية والدبلوماسية والجيوستراتيجية (السيطرة على الموارد وقنوات الاتصال)، من أجل الزعامة داخل المؤسسات الدولية ...

على صعيد التوترات العسكرية، يتبلور الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في شرق آسيا. كانت بكين قادرة، [ابتداء] من عام 2013، على ضمان وجودها في بحر الصين الجنوبي. وتستعمل واشنطن الأزمة الكورية لاستعادة المبادرة. ولا يتردد دونالد ترامب، بقصد إعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية، في التلويح بتهديد تدخل نووي. بات استخدام الأسلحة النووية، لأول مرة منذ عدة عقود، خطراً حقيقيا؛ وتقع مسؤولية ذلك الرئيسية على الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها مسؤولية استئناف سباق التسلح. إن تجهيز بطاريات صواريخ ثاد(Thaad) المضادة للصواريخ في كوريا الجنوبية يبطل بقدر كبير مقدرة الصين النووية، ما يحدو بها بدورها إلى التفكير في نشر أسطول غواصات إستراتيجية خاصة بالمحيطات المحيط .

يشمل استئناف سباق التسلح هذا بناء ناقلات طائرات جديدة وأسطول غواصات و"تحديث" السلاح النووي من قبل دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا التي تسعى إلى جعلها قابلة للاستعمال، ومقبولة سياسيا في النزاعات المحلية.

ليس لروسيا ما لدى الصين من قاعدة، ولا وسائلها الاقتصادية أو المالية. لكنها تتحكم بثاني ترسانة نووية في العالم (منها أسطول محيطات من الغواصات الإستراتيجية)، تمثل مؤهلا هاما في المناخ العام لعسكرة الكوكب، الموضوع في حالة حرب دائمة. على الرغم من نطاق تدخلها الأضيق من نظيره الصيني، تقوم موسكو بدور حاسم في سوريا حيث لا محيد عنها. ويتزايد نفوذها، لا سيما في الشرق الأوسط أو أوروبا الشرقية، ويتنامى طابع النزاع في علاقاتها مع الكتلة الغربية.

يحيل هذا الوضع الجديد على تغييرات عميقة. فضلا عن اتضاح أشكال أولية لإمبرياليات جديدة صينية وروسية (انظر الفصل الرابع)، نسجل بوجه خاص:

* التغير العميق وتنوع المكانة الاعتبارية للإمبرياليات التقليدية: "قوة فائقة" أمريكية؛ وإخفاق تشكيل إمبريالية أوربية مندمجة؛ و"تحجيم" الامبرياليتين الفرنسية والبريطانية؛ ووجود إمبرياليات "بلا أسنان" (ألمانيا بوجه خاص، لكن حتى اسبانيا إزاء أمريكا اللاتينية)؛ وإخضاع الإمبريالية اليابانية (رغم جيشها المهم، لا تملك سلاحا نوويا ولا حاملة طائرات)، وأزمات تفكك اجتماعي ببعض البلدان الغربية (اليونان) منتمية تاريخيا إلى الدائرة الامبريالية…

* تغيرات مهمة في قسمة العمل الدولية، مع "تمييلfinanciarisation  الاقتصاد، وتفكيك صناعة مختلف البلدان الغربية، بخاصة الأوربية، وتغير مركز الإنتاج العالمي للسلع لاسيما في آسيا- هذا دون استهانة بكون الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا تظل قوى صناعية كبيرة.

* تطور متفاوت لكل إمبريالية، قوية في بعض المجالات، وضعيفة في أخرى. فبات من جراء ذلك وضع تراتب للدول الامبريالية أشد تعقيدا من سابق عهده. وجلي أن الولايات المتحدة الأمريكية تظل بالمقدمة؛ فلها دون سواها إمكان ادعاء القوة في كل المجالات، لكنها تسجل مع ذلك انحدارا اقتصاديا نسبيا، وتُحس حدود سلطتها العالمية. (أنظر الفصل التاسع)

لذا ليس توصيف القوى الجديدة (الصين وروسيا) السؤال الوحيد المطروح علينا. يتعين علينا أيضا إعادة تقييم المكانة الاعتبارية المتغيرة للامبرياليات التقليدية- والنظام الإمبريالي برمته. إن مفاهيم كلاسيكية، مثل "المركز" و"الأطراف" و"الشمال" و"الجنوب"، تستدعي إعادة نظر في ضوء تنوع داخلي متنام لكل من هذه المجموعات الجيوسياسية.

II - عدم استقرار جيوسياسي مزمن

تتمثل ثاني معاينة في كون العولمة الرأسمالية لم تنتج “نظاما عالميا جديدا” مستقرا، بل بالعكس.

ثمة كتلة إمبريالية مسيطرة يمكن نعتها بـ"الكتلة الأطلسية" – لأنها مهيكلة حول محور أمريكا الشمالية/ الاتحاد الأوربي- بمعنى الكلمة الجيوستراتيجي لا الجغرافي: إذ تضم استراليا و نيوزيلندا واليابان. إنها كتلة متراتبة تحت هيمنة أمريكية. ويمثل حلف شمال الأطلسي ذراعها المسلح الدائم. ويبرز تمددها إلى الحدود الأوربية لـ"دائرة" التحكم الروسية أن وظيفتها الأولية لم تفقد راهنيتها، فيما غدت تلك الحدود منطقة نزاعات. سعى حلف شمال الأطلسي إلى مزيد من الانتشار شرقا، دون كبير نجاح. وتبرز الأزمة بالشرق الأوسط أن هذه المنظمة ليست إطارا عملياتيا كفيلا بفرض شريعته بكل مكان. والتوترات حادة مع ركيزتها الإقليمية، تركيا. وقد جرى عقد تحالفات متباينة حسب كل ساحة عمليات مع أنظمة متعارضة كالمملكة السعودية وإيران. ويظل الإسهام العسكري لأعضائها الأوربيين هامشيا. ويغذي هذا الوضع هجمات رونالد ترامب عليها في بداية ولايته.

  • على صعيد إيديولوجي، تواجه الطبقات السائدة أزمة مشروعية، وفي الغالب اختلالات في اشتغال المؤسسات- تفقد التحكم بعمليات انتخابية حتى في بلدان أساسية كالولايات المتحدة الأمريكية (انتخاب ترامب) أو المملكة المتحدة (بريكسيت).

وللأزمة المزمنة الراهنة أسباب متعددة.  

يظل دوما دور الدول الإمبريالية متمثلا في تأمين الشروط الملائمة لتراكم الرأسمال، لكن الرأسمال المعولم يشتغل إزائها على نحو أكثر استقلالا قياسا بالماضي. وأسهم هذا الفكاك في جعل مناطق النفوذ القديمة التي كانت حصرا على الإمبرياليات التقليدية (ما خلا، والى حد بعيد، أمريكا اللاتينية) ذات نفاذية. ولحركية الرأسمال الفائقة عواقب مدمرة لتوازن المجتمعات، ما ينسف إمكانات إضفاء استقرار على الدول.

            العولمة الرأسمالية والتمييل وتدويل سلاسل الإنتاج المتزايد، كلها تقلص مقدرة الدول على تطبيق سياسات اقتصادية باسم المصالح الجماعية للطبقات المسيطرة. 

  • مستوى التمييل غير المسبوق، وتطور الرأسمال المسمى "وهميا"، الملازم للرأسمالية المعاصرة، اتخذ في السنوات الأخيرة أحجاما كبيرة. ويؤدي ذلك، دون قطع الصلة، إلى درجة أعلى من ابتعاد العمليات الإنتاجية، فيما تنحل العلاقة بين المُقرض الأصلي والمقترض الأصلي. دعم التمييل النمو الرأسمالي لكن تطوره الفائق يفاقم التناقضات.
  • بات نظام الديون فاعلا في الشمال كما الجنوب. انه أداة رئيسة بيد ديكتاتورية الرأسمال على المجتمعات، ويقوم بدور سياسي مباشر، كما تؤكد حالة اليونان، لفرض بقاء النظام النيوليبرالي وتعميقه: يستعمل الدين ذريعة لتفكيك المكاسب الاجتماعية وتدمير الخدمات العمومية، ولفرض تخلي الدول عن ممارسة سيادتها. ويقوم، إلى جانب معاهدات التبادل الحر، بمنع تطبيق الحكومات لسياسة بديلة تتيح الخروج من الأزمة الاجتماعية.

• تتطور الاستدانة الداخلية لبلدان الجنوب بقوة لصالح رأس المال المحلي في أيدي البرجوازية التي تحافظ على خصائصها الكمبرادورية. لا يتطور الدين العام في شكل خارجي فقط، في سياق علاقات هيمنة الشمال على الجنوب أو المركز على الأطراف. كما أنها تستخدم كأداة للتراكم والهيمنة من طرف الطبقة الرأسمالية في البلدان التابعة.

• لم يكن لأزمة 2007- 2008 في  العديد من بلدان الجنوب نفس آثارها المدمرة في الشمال]. كانت هذه البلدان محمية نسبياً بفعل تراكم العملات الأجنبية الذي أتاحته بداية ارتفاع أسعار السلع في عام 2003 – وبفعل أسعار فائدة منخفضة تاريخياً. ولكن منذ عام 2008، ازدادت الديون السيادية بنسبة 50٪ على صعيد العالم، بتشجيع من نظام ولوج إلى الاقتراض لم يتغير رغم الأزمة، وفي الشمال بفعل تشريك خسائر البنوك الخاصة. في هذه الحالة، سيكون لأزمة مالية  كبيرة جديدة تداعيات عنيفة على الكوكب برمته.

  • أصبحت الصين واحدة من أكبر الدائنين للديون السيادية، جنبا إلى جنب مع الإمبريالية التقليدية والمؤسسات المالية الدولية ورأس المال المالي الكبير، من خلال سياسة هجومية لمنح القروض المشروطة بالوصول إلى المواد الأولية. في حالة حدوث أزمة، يمكن أن تستخدم صعوبات الدفع لدى الدول المدينة لتسريع الاستحواذ على ثرواتها، وبالتالي تعزيز تطلعها إلى أن تصبح قوة إمبريالية كبرى.
  • تُخاض "حرب عملات" حقيقية، وهذا أحد أوجه النزاعات بين الإمبرياليات، إذ يحدد استعمال عملة ما مناطق التحكم.
  • كانت التحالفات الجيوسياسية بالأمس “مجمدة” بنزاعات شرق- غرب من جهة وبالنزاع الصيني السوفييتي من جهة أخرى، وباتت أكثر تغيرا وعدم ثبات.
  • أسهم انطلاق السيرورات الثورية بالمنطقة العربية، ثم عنف الثورة المضادة المحفزة من قبل أقطاب متنافسة فيما بينها، في خلق وضع غير متحكم به في منطقة واسعة تمتد من الشرق الأوسط إلى الساحل، وحتى أبعد في جزء من إفريقيا جنوب الصحراء.
  • بعد انفجار الاتحاد السوفييتي، كانت البرجوازيات والدول الامبريالية (التقليدية) غازية جدا في مرحلة أولى: تغلغل في أسواق الشرق، وتدخل بأفغانستان (2001) وبالعراق (2003)… ثم كان ثمة  توحل عسكري، والأزمة المالية، وبزوغ قوى جديدة والثورات العربية... ليفضي كل ذلك إلى فقد المبادرة و التحكم الجيوسياسيين: باتت الولايات المتحدة الأمريكية اليوم تتفاعل باستعجال أكثر مما تخطط فرض نظامها.
  • في هذا السياق، يصبح دور القوى الإقليمية هاما: تركيا، إيران، المملكة السعودية، إسرائيل، مصر، الجزائر... أفريقيا الجنوبية، البرازيل، الهند، كوريا الجنوبية... إنها تلعب، رغم موقع تابع في نظام السيطرة العالمية تحت هيمنة أمريكية، لعبتها الخاصة، زيادة على دور الدركي الإقليمي (مثل البرازيل في هايتي). (أنظر الفصل الرابع).

كشفت الأزمات المالية لـ1997-1998 و2007-2008 التناقضات الملازمة للعولمة الرأسمالية، وكانت لها عواقب كبيرة على الصعيد السياسي (نزع الشرعية عن نظام السيطرة) والاجتماعي (بالغة القسوة في البلدان المتضررة مباشرة) وهيكلية- مع تفجر الديون بوجه خاص. وكانت تلك الأزمات في خلفية الحركات الديمقراطية الكبرى التي انبثقت بعد بضع سنوات (الاعتصامات بالميادين)، لكن أيضا تطورات رجعية صريحة ومعادية للديمقراطية غداها خوف "الطبقات الوسطى" الكبير (تايلاند مثلا).

يؤدي عدم الاستقرار الهيكلي للنظام المعولم، في تركيب مع الأزمة البيئية والتنقلات الكثيفة للسكان، إلى أشكال فقر جديدة (مثل الفلبين)، تجبر المنظمات التقدمية على تطبيق سياسات ملائمة.

III - العولمة وأزمة القابلية للحكم

أرادت البرجوازيات الإمبريالية الإفادة من انهيار الكتلة السوفييتية وانفتاح الصين على الرأسمالية بقصد خلق سوق عالمية موحدة القواعد بما يتيح لها نشر رساميلها وفق مشيئتها. ولم يكن لعواقب العولمة الرأسمالية إلا أن تكون بالغة العمق- وفاقمتها تطورات لم ترد البرجوازيات الامبريالية، المغتبطة، توقعها.

في الواقع كان ذلك المشروع يستتبع:

  • تجريد المؤسسات المنتخبة (برلمانات، حكومات…) من سلطة قرار الخيارات الأساسية، وإجبارها على أن تطبق في تدابير متخذة في مكان آخر: المنظمة العالمية للتجارة، واتفاقات التبادل الحر الدولية، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي الخ، مسددا على هذا النحو ضربة قاضية للديمقراطية البرجوازية الكلاسيكية- ما جرى التعبير عنه إيديولوجيا بالإحالة إلى “الحكامة” بدلا من الديمقراطية.
  • نزع الشرعية، باسم سمو حق "التنافس"، عن “الأنماط الملائمة” من سيطرة البرجوازية الناتجة عن التاريخ الخاص للبلدان وللمناطق (المساومة التاريخية من الطراز الأوربي)، وشعبويات من طراز أمريكي لاتيني، وتحكم دولتي من الطراز الأسيوي، وأنم اط متنوعة من الزبونية القائمة على إعادة التوزيع…). فقد كانت كلها تقيم علاقات معدلة مع السوق العالمية وبالتالي عقبات بوجه الانتشار الحر للرأسمال الإمبريالي.
  • إخضاع القانون العام لقانون المقاولات التي يجب على الدولة أن تضمن أرباحها المرتقبة عند الاستثمار، ضدا على حق السكان في الصحة، وبيئة سليمة، وحياة غير هشة. إنه أحد الرهانات الكبرى للجيل الجديد من اتفاقات التبادل الحر التي تتمم الجهاز المشكل من المؤسسات الدولية من قبيل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي
  • سيرورة متصاعدة بلا نهاية من تدمير الحقوق الاجتماعية. إذ أدركت البرجوازيات الامبريالية التقليدية مستوى الضعف والأزمة الذين ألما بالحركة العمالية ببلدان ما يسمى “المركز”. وباسم “التنافسية” بالسوق العالمية، أفادت من ذلك لشن هجوم مستمر، ومنهجي، لتدمير الحقوق الجماعية المكتسبة بوجه خاص في الحقبة التالية للحرب العالمية الثانية. لم تكن ترمي إلى فرض "عقد اجتماعي" جديد أكثر ملاءمة لها، بل إلى إنهاء كل اتفاقات من هذا القبيل والاستيلاء على كل القطاعات المربحة المفلتة منها بانتمائها للخدمات العامة، من صحة وتعليم وأنظمة تقاعد، ونقل، الخ.
  • عملية واسعة النطاق لنزع ملكية المستغلين والمضطهدين- سهلتها خصخصة الخدمات العامة وارتفاع الديون الخاصة- تغرقهم في عدد متنام من الحالات في وضع يُذكر بمصير  الطبقات الشعبية في القرن التاسع عشر بأوروبا. تم طرد عشرات ملاين الأسر من الطبقات الشعبية من بيوتها، لاسيما نتيجة انفجار الفقاعات العقارية في اليابان (سنوات 1990) والولايات المتحدة (2006-2007)، وإيرلندا وإيسلندا (2008)، واسبانيا (2009). وفي اليونان، باتت البنوك، في إطار المذكرة الثالثة لعام 2015، حرة في طرد الأسر العاجزة على سداد ديون الرهن العقاري. 

وتضاعفت تكاليف التعليم العالي بفعل السياسات النيوليبرالية، من الولايات المتحدة إلى الشيلي، ومن المملكة المتحدة إلى جنوب أفريقيا، مجبرة عشرات ملايين شباب الطبقات الشعبية على الاستدانة بنسب مأساوية. إنه تحول كبير بعد توسيع ولوج الجامعة في القرن المنصرم. كما تنتشر مديونية الفلاحين في جميع أنحاء العالم، مع عواقب لا إنسانية بمعنى الكلمة الحرفي: تم تسجيل أكثر من 300000 حالة انتحار فلاحين مالكين للأرض في الهند منذ عام 1995 (رقم لا يعتبر إذن حالات انتحار الفلاحين بدون أرض والنساء). وبوجه عام، تفاقم الديون الخاصة اضطهاد أكثر السكان هشاشة- على سبيل المثال، تطال معظم عمليات إخلاء المساكن الأسر ذات العائل الواحد أو نساء معيلات أسر يرعين أطفالهن.

 

نمط هيمنة جديد

 

 وتستتبع العولمة الرأسمالية أيضا:

  • تغيير دور الدولة والعلاقة بين الرساميل الإمبريالية والمجالات الترابية. فما عدا استثناءات، لم تعد الدولة شريك إشراف على مشاريع اقتصادية كبيرة أو تطوير بنيات تحتية اجتماعية (صحة، تعليم…). وإن كانت تواصل دعم "شركاتها" متعددة الاستيطان، فإن هذه الأخيرة لا تشعر (بالنظر لقوتها وتدويلها) بتبعية إزاء بلدانها الأصلية كما في السابق: باتت العلاقة "لا متساوقة" أكثر من أي وقت مضى... أما دور الدولة، الذي يظل أساسيا، فيتقلص إلى الإسهام في وضع قواعد تعميم حركية الرساميل، وفتح القطاع العام برمته لشهية الرأسمال، والإسهام في تدمير الحقوق الاجتماعية وإبقاء سكانها ضمن الوضع المتوقع لهم.
  • إننا إذن إزاء نظامين تراتبيين مهيكلين لعلاقات السيطرة الامبريالية. تراتب الدول الامبريالية، المعقد كما أشرنا آنفا (النقطة I)، وتراتب تدفقات الرساميل الكبرى التي تطوق العالم في شكل شبكات.  لم يعد هذان النظامان يتطابقان، رغم أن الدول هي في خدمة تدفقات الرساميل.

تمثل العولمة الرأسمالية نمط سيطرة طبقية إجمالي جديد، غير مكتمل وغير مستقل هيكليا.  إذ يؤدي إلى أزمات مشروعية وقابلية للحكم مفتوحة في بلدان ومناطق عديدة، وإلى وضع أزمة دائمة. ومراكز الضبط العالمي المفترضة (منظمة التجارة العالمية، مجلس أمن الأمم المتحدة...) عاجزة عن النهوض بمهمتها، وتضعف سياسة دونالد ترامب، تحت شعار "أمريكا أولا"، المؤسسات التي تستعملها البرجوازية العالمية إطارات للتشاور.

لا تسيطر طبقة ما على المجتمع على نحو مستديم بلا توسطات، ومساومات اجتماعية، ودون مصادر شرعية، تاريخية كانت أو ديمقراطية، أو اجتماعية أو ثورية…  تصفي البرجوازيات الإمبريالية قرونا من “الدراية” في هذا المجال باسم حرية حركة الرأسمال، فيما تمزق عدوانية السياسات النيوليبرالية النسيج الاجتماعي في عدد متزايد من البلدان. وإن حرمان قسم كبير من سكان بلد غربي كاليونان من خدمات الصحة أمر معبر جدا عن "تطرفية " البرجوازيات الأوربية.

في زمن الإمبراطوريات، كان يجب تأمين استقرار الممتلكات الاستعمارية – وكذا، وإن بدرجة أقل، مناطق النفوذ في زمن الحرب الباردة. أما اليوم فيتوقف ذلك، بفعل الحركية والتمييل، على المكان واللحظة... هكذا يمكن دخول مناطق برمتها في أزمة مزمنة تحت ضربات العولمة. وقد أدى تطبيق الأوامر النيوليبرالية من قبل أنظمة ديكتاتورية إلى انتفاضات شعبية بالعالم العربي، وتعبئات واسعة في أفريقيا، وأزمات نظام مفتوحة وردود مضادة للثورة عنيفة، مفضية إلى عدم استقرار حاد.

تكمن خصوصية الرأسمالية المعولمة في التلاؤم مع عدم الاستقرار كحالة دائمة: تصبح ملازمة للاشتغال العادي لنظام السيطرة الإجمالي الجديد. كان عدم الاستقرار الحاد مرتبطا في السابق بتفجر أزمة اقتصادية، بما هي لحظة خاصة بين حقب مديدة من “الحالة العادية” أي حالة استقرارا نسبي.  طبعا تظل الأزمات موجودة دائما، لكن في بيئة شهدت تغييرا.

IV - الإمبريالية المتشكلة الجديدة والامبرياليات الفرعية الجديدة

كانت البرجوازيات الإمبريالية تعتقد بعد العام 1991 أنها ستلج أسواق البلدان المسماة سابقا “اشتراكية”، لدرجة إخضاعها على نحو طبيعي- متسائلة حتى ما إن بقيت لحلف شمال الأطلسي وظيفة ما إزاء روسيا. ليست هذه الفرضية عبثية كما يُبرز وضع الصين في انعطاف سنوات 2000 وشروط انضمام هذا البلد إلى المنظمة العالمية للتجارة (المناسبة جدا للرأسمال العالمي). لكن الأمور اتخذت مسارا مغايرا- ويبدو أن هذا لم يكن واردا أصلا أو جديا لدى القوى القائمة.

لأول مرة مند قرن ونصف ( حالة اليابان) نشأت مجددا قوة رأسمالية عظمى جديدة في آسيا: الصين. إنه معطى هام، نتاج تاريخ فريد.

في الصين، تشكلت برجوازية جديدة داخل البلد وفي النظام، عبر “تبرجز” البيروقراطية أساسا، بتحول هذه الأخيرة إلى طبقة مالكة بواسطة آليات باتت اليوم معروفة اليوم جيدا. أعادت إذن تشكيل ذاتها على قاعدة مستقلة (إرث الثورة الماوية)، وليس كبرجوازية خاضعة عضويا في الحال للإمبريالية. على هذا النحو، غدت الصين قوة رأسمالية، دائمة العضوية بمجلس الأمن لها حق الفيتو (ينطبق هذا كله على روسيا أيضا)، مع أن تشكيلتها الاجتماعية، الموروثة عن تاريخ بالغ الخصوصية، تظل فريدة (ما أبعد دراسة هذا المجتمع، المتحدر من تاريخ خاص لا مثيل له، عن الاكتمال).

أصبحت الصين، أيا كانت أوجه هشاشة النظام القائم واقتصاده، ثاني قوة عالمية.

منذ عام 2013، تنتهج بكين، بحفز من شي جين بينغ، سياسة دولية متزايدة الطموح، وهجومية، وذات طابع إمبريالي مؤكد: انتشار عسكري (لا سيما قاعدة جيبوتي)، وتوطيد مناطق نفوذ وإخضاع حكومات، واستيلاء على الأراضي والموارد المعدنية، وتصدير رأس المال، وتحكم في شركات بالخارج، وسلب سكان محليين وتدمير كياناتهم... وتتعرض الطبقات الشعبية لعواقب هذه التدابير في عدد كبير من البلدان. منذ عام 2017، يروم برنامج التوسع الكبير غربا المسمى "طرق الحرير الجديدة" (أو  حزام واحد، طريق واحد، Obor اختصارا لـ One Belt, one road ) مضاعفة وجود الصين الاقتصادي والمالي والسياسي والأمني في المحيط الهندي والشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا الوسطى وأوروبا وأمريكا اللاتينية.

حالة الصين فريدة من نوعها. تظل روسيا تابعة اقتصاديا لصادراتها من المواد الأولية (حيث تمثل المواد البترولية نسبة الثلثين)، وتعود مكانتها الدولية كثيرا إلى ترسانتها النووية (توازن القوى العالمية) والى فعالية قوتها العسكرية الإقليمية الضاربة (القرم، سوريا). إنها تنهج سياسات إمبريالية دون أن تملك مع ذلك مقدرة خلق قوة امبريالية جديدة ناضجة (من هنا وصفها بالشكل الأول من الإمبريالية).

حاولت دول البريكس أن تتدخل سوية في حلبة السوق العالمية لكن دون كبير نجاح. ولا تلعب البلدان المشكلة لهذه الكتلة الهشة كلها في نفس الساحة. يمكن على الأرجح اعتبار الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا إمبرياليات فرعية- وهو توصيف يعود إلى سنوات 1970- ودركيا إقليميا، لكن مع فارق مهم قياسا بالماضي متمثل في استفادتها من حرية  أوسع لتصدير الرساميل. انظر “اللعبة الكبيرة” المفتوحة في أفريقيا مع تنافس الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وفرنسا والهند والبرازيل وأفريقيا الجنوبية والصين وقطر وتركيا ونيجيريا وانغولا...

الاندفاع صوب أفريقيا

 عندما يكون القصد نهب الموارد الطبيعية وسلبها، ونزع الملكية، والدول المعسرة، وتآكل النسيج الاجتماعي، والصراعات المسلحة وعسكرة السياسة، ترتمي بقية العالم على أفريقيا.

يجري، في سياق ما تواجه البشرية من أزمة حضارية متعددة الأبعاد، انقضاض جديد نحو وفرة الموارد الطبيعية. منذ الفترة الاستعمارية حتى الآن، هيمن استخراج الموارد الطبيعية من أفريقيا على الاقتصادات. وكما وصف والتر رودني فترة سابقة، غذى استخراج الحديد واليورانيوم والماس والذهب والصمغ، ضمن سلع أخرى ثمينة، التصنيع وتوسع الرأسمالية في الغرب على حساب اقتصاد أفريقيا والتنمية الاجتماعية، مغذيا فساد العملية السياسية.

في عام 2013، على سبيل المثال، وقعت ستة من أكبر عشر اكتشافات نفطية بأفريقيا.

واليوم، تعصف الشهية للمعادن الإستراتيجية، النفط ومنتجات أخرى، بالقارة برمتها. ويستمر السعي إلى الأرباح والهيمنة في إثارة السباق نحو الاستخراج، أيا كانت العواقب على ظروف حياة الشعوب وعلى البيئة. ويمكن إبراز الطبيعة المدمرة التي يمثلها هذا الأمر للسكان الأفارقة بعديد الأمثلة، لكن حالة جمهورية الكونغو الغنية بالموارد أكثر مدعاة للدهشة. يوجد بباطن أرض الكونغو 24 تريليون دولار (مقدرة بأسعار عام 2011) من الموارد الطبيعية، منها طبقات غنية بالنفط والذهب والماس والكولتان المستخدم في رقائق الكمبيوتر والكوبالت والنيكل لمحركات الطائرات وبطاريات السيارات، والنحاس للأنابيب، واليورانيوم للقنابل ومحطات الطاقة والحديد لكل شيء تقريبا. هذه الثروة مصدر معاناة خفية، تؤدي إلى تهجير قسري واسع النطاق للسكان.

لقد أصبحت أفريقيا منطقة نزاعات بين القوى العظمى جراء الإفلات من العقاب الذي أرساه صندوق النقد الدولي، وبرامج التقويم الهيكلي وبرامج تثبيت البنك العالمي، وكذا اتفاقيات التجارة والاستثمار للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وتسعى القوى الجديدة لتأكيد طموحاتها بالمشاركة في الانقضاض الجديد على هذه القارة. وقد انضمت إلى الصين، التي أصبحت أكبر مستثمر صاف في أفريقيا، كل من روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا- ليس في شكل مبادرة مشتركة بين دول البريكس BRICS، بل رغم عضويتها في هذا النادي (ما يدل على فراغ هذا المشروع نفسه).

وفقاً لتقرير صادر عام 2016، استثمرت الصين في 293 مشروعاً للاستثمار الأجنبي المباشر في أفريقيا منذ عام 2005، ما مجموعه 66.4 مليار دولار- معظمها في مشروعات ضخمة مدمرة للبيئة حيث هي مسؤولة تقريبا عن ربع الاستثمار. ويلتقي برنامج الاتحاد الأفريقي لتطوير البنية التحتية في أفريقيا هنا مع البرنامج الصيني Obor.

بعض الخلاصات الأولية

  1. لقد تأجج تنافس القوى الرأسمالية الاقتصادي. يتعلق الأمر بنزاعات بين قوى رأسمالية، وهي من ثمة مغايرة نوعيا لنزعات الحقبة السابقة. قد تفضي إلى حروب تجارية حقيقية.
  2. فيما يخص حرية حركة الرساميل، بوسع البرجوازيات (حتى الخاضعة) والشركات متعددة الاستيطان بـ”الجنوب” استعمال القواعد التي سنتها البرجوازيات الإمبريالية التقليدية في 1991، لاسيما في مجال الاستثمارات، ما يزيد تعقيد التنافس في السوق العالمية قياسا بالماضي. وفيما يخص بيع السلع، يظل خلق تنافس عام بين العمال محفَّـزا بقوة من قبل المقاولات بالمراكز الإمبريالية التقليدية، وهي المتحكمة بولوج أسواق الاستهلاك بالبلدان المتطورة وليس شركات البلدان المنتجة؛ بيد أن الأمر أقل صحة اليوم بالنسبة للصين، وحتى الهند والبرازيل. ليست هوامش مناورة القوى "الاقليمية" مكتسبة حتما، كما تبرز الآن حالة البرازيل حيث تعيد الإمبريالية الأمريكية تأكيد نفوذها.
  3. ليس ثمة أزمة شرعية الطبقات السائدة وحسب، بل أيضا أزمة إيديولوجية. وتتجلى في سعة الأزمة المؤسسية، عندما يفرض المرشحون "السيئون" أنفسهم، وضد المؤسسة، وعندما يفقد الانتخاب ذاته كل صدقية بنظر قسم متنام من السكان. ولعجز عن الرد على ذلك، ستلجأ الطبقات السائدة أكثر إلى سياسة "فرق تسد"، مستعملة العنصرية، وكره المسلمين، ومعاداة السامية، وكره الأجانب، والتنديد، سواء بالكوريين في اليابان، أو المتحدرين من أفريقيا في الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل، أو بالمسلمين في الهند، أو بالشيعة وبالسنة وبالمسيحيين في البلدان الإسلامية... تمثل المعركة ضد العنصرية وضد كره الأجانب، أكثر من ذي قبل، ساحة أساسية للمقاومة على النطاق العالمي. والأمر عينه بالنسبة لضروب التمييز الأخرى (الجنسي، الاجتماعي...)

V - قوى يمين متطرف جديدة، وفاشيات جديدة

تتمثل إحدى أولى عواقب القوة المزعزعة للعولمة الرأسمالية في صعود مهول لقوى يمين متطرف جديدة وفاشيات جديدة، ذات قاعدة جماهيرية (محتملة). يكتسي بعضها أشكال تقليدية نسبيا، مثل منظمة الفجر الذهبي في اليونان، والحزب الوطني الديمقراطي في ألمانيا، وجوبيك Jobbik في المجر. وتتقمص أخرى نزعات جديدة كارهة للأجانب وقائمة على انطواء هوياتي. وقد حققت تقدما بارزا على نحو خاص في بعض البلدان الأوربية، مثل الحزب من أجل الحرية PVV في هولندة، والجبهة الوطنية الفرنسية، والعصبة الايطالية، والحزب من أجل الحرية في النمسا، و"الفنلنديين الحقيقيين"، والحزب من أجل استقلال المملكة المتحدة Ukip. إنها تستفيد من أزمة ثلاثية الأبعاد: اجتماعية ومؤسسية وهوياتية. يتباين برنامجها الاقتصادي، لكنها تشترك خطابا عنيفا من معادة الأجانب وعنصرية كارهة للمسلمين.

نجح اليمين المتطرف في كسر هامشيته الأيديولوجية، في هولندا، وأيضا في فرنسا وبلدان أخرى، بتغيير حدود الخطاب السياسي، إذ جرى تبني مواضيع اهتمامه من طرف اليمين التقليدي وصولا إلى يسار الوسط. تحاول الحكومات اكتساب شرعية جديدة من خلال تأجيج نار القومية والخطر الخارجي: "غزو" رأس المال الأجنبي أو الهجرة. وفي الولايات المتحدة، تضرب الحملة الانتخابية لدونالد ترامب، الفائز السياسي غير المنتظر، بجذورها عضويا في نزعة تفوق البيض.

وتولد قوى يمين متطرف أخرى في شكل أصوليات دينية، وهذا في جميع الديانات “الكبرى” (المسيحية والبوذية والهندوسية، والإسلامية…)، أو "قومية دينية" مثل اليمين المتطرف الصهيوني… وتمثل هذه التيارات اليوم تهديدا في بلدان مثل الهند، وسري لانكا، وإسرائيل.

وكانت قادرة على التأثير على حكومات لها من الأهمية ما لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية في ظل بوش. وفي فرنسا نزلت القطاعات الكاثوليكية الأشد رجعية بكامل ثقلها خلال الحملة الانتخابية الرئاسية (دعما لفيون)، وهي تحظى بمكانة مركزية في العديد من بلدان أوروبا الشرقية بما في ذلك هنغاريا. وتحدث الإنجيلية الراديكالية خرابا في أمريكا اللاتينية وأفريقيا. لذا، ليس للعالم الإسلامي احتكار ما بهذا الصدد، لكن الأمر اتخذ هناك بعدا دوليا خاصا، مع حركات “عابرة للحدود” مثل الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش)، أو حركة طالبان (انظر الوضع في باكستان)، وشبكات ذات ارتباطات شكلية إلى هذا الحد أو ذاك من المغرب إلى اندونيسيا، وحتى جنوب الفلبين.

تنسق قوى اليمين المتطرف أيضا على المستوى العالمي في أشكال غير متجانسة. وهكذا، فإن "الحركة الأوراسيوية" بزعامة ألكسندر دوغين تدمج قوى جديدة يمينية، وفاشية، و"تآمرية"، و"معسكراتية" ومختلف الأصوليات الدينية، في شبكة مفتوحة على تحالفات "حمراء- داكنة" خطيرة.

بوجه عام، يجب علينا تحليل أعمق لقوى اليمين المتطرف الجديدة، دينية كانت أو غير دينية: فهي ليست مجرد نسخ للماضي، بل تعبر عن الوقت الراهن. يصح هذا بوجه خاص بالنسبة للتيارات الأصولية الدينية. ينبغي توصيفها سياسيا لفهم دورها (نعيد إلى الأذهان أن قسما لا يُستهان به من اليسار الجذري العالمي كان، حتى عهد قريب، يعتبرها تعبيرا مناوئا للإمبريالية “موضوعيا”، وإن كان رجعيا أيديولوجيا). وهذا ضروري أيضا لمحاربة التأويلات “الجوهرانية” لـ”صدام الحضارات".

إنها تيارات يمين متطرف ومضادة للثورة. وأسهمت على هذا النحو في وقف دينامية الثورات الشعبية الناتجة عن “الربيع العربي”. وهي لا تحتكر العنف الأقصى (انظر نظام الأسد)، ولا “الهمجية” (النظام الامبريالي “همجي”). لكنها تمارس على المجتمع تحكما وإرهابا “من أسفل” يذكر في حالات عديدة بفاشيات ما بين الحربين قبل وصولها إلى السلطة.

على غرار كل الألفاظ السياسية، يجري استعمال كلمة الفاشية في غير محلها أو تأويلها بكيفيات مختلفة. لكن، وهذه مسألة تناقشها منظماتنا، كيف تتطور الحركات الأصولية أو قوى أقصى اليمين القومية، ومن منها يمكن اعتباره فاشيا أو لا- في بلدان مثل باكستان (تيارات طالبان) أو الهند (المنظمة القومية الوطنية RSS  )، فضلا عن داعش. قد يكون وصف "فاشية دينية" اسما لتوصيف تيارات من هذا القبيل أيا كانت ديانتها.

 أيا كانت الأوصاف الأكثر ملاءمة لتوصيف قوى اليمين المتطرف الجديدة، يطرح صعودها على جيلنا المناضل مشاكل سياسية لم نواجهها في الحقبة السابقة- مشاكل المقاومة "المناهضة للفاشية" على نطاق كبير.  يجب أن ننكب عليها ولذلك نحتاج تشارك التحاليل والتجارب المحلية والإقليمية. 

على نحو أعم، يغذي تجدد قوى اليمين الجذرية اندفاعة رجعية بالغة الخطورة ترمي بوجه خاص إلى النيل من الحقوق الأساسية للنساء وللمثليين جنسيا بالاستناد في الغالب على الكنائس المؤسسية في مجال الوقف الإرادي للحمل (في اسبانيا، حيث جرى إحباط مشروع لإلغاء حق وقف الحمل إراديا، وايطاليا…)، ووضع الأسرة (بالدعوة إلى العودة إلى رؤية محافظة جدا لدور المرأة)، وحتى إطلاق حملات مطاردة ساحرات ضد مثليي الجنس (إيران، وبلدان افريقية حيث توجد تيارات إنجيلية قوية…). على هذا النحو تهاجم الرجعية حق النساء والأشخاص في تقرير مصيرهن/هم (الاعتراف بتنوع التوجه الجنسي)، وحقوق منتزعة بنضال مديد.

تستهدف هذه الحركات بوجه خاص النساء اللواتي يعانين اضطهاد مزدوجا عنصريا وجنسيا. في معظم البلدان الغربية، يرجع نمو هذه الحركات إلى الدعاية المعادية للمسلمين (حتى لو أنها ليست الميزة الوحيدة للحركات والأحزاب الرجعية)، وخاصة ضد النساء المسلمات، وقد ازدادت الاعتداءات ضد المحتجبات منهن.

فيما يهاجم بعض هذه الحركات بجلاء النساء والأشخاص مثليي/ات ومتحولي/ات ومزدوجي/ات الجنس[م..م.م.ج] LGBTI، يمكننا ملاحظة ظاهرة جديدة: مثلية وطنية ونسوية وطنية في الدول الأوروبية والولايات المتحدة وإسرائيل. إذ بذريعة حماية النساء والمثليين تهاجم بعض قطاعات السكان، مثل المهاجرين أو المسلمين، متهمة إياهم باغتصاب النساء أو اعتبار الإسلام معاديا لمثلية الجنس. تتقدم هذه الحركات منذ عدة سنوات، وهي في الواقع، مرتبطة غالبا باليمين المتطرف. ونتيجة لذلك، غالباً ما يشهد اليمين المتطرف في البلدان الإمبريالية توترات بين التيارات التي تسعى إلى استعمال الميز الجنسي والميز ضد مثلي/ات ومتحول/ا ت ومزدوجي/ت الجنس لدى قاعدتها وتلك التي تحاول استمالة حقوق النساء والمثليين LGBTI  من أجل تعزيز كره الإسلام والأحكام المسبقة المعادية للمهاجرين.

مع ما يبدو من تناقض بين المثلية الوطنية لدى حركات اليمين المتطرف بالبلدان الإمبريالية وحملات اليمين المتطرف ضد م.م.م.ج LGBTI في البلدان التابعة، فإنها في الواقع تعزز بعضها البعض. وتلتقي في اعتبار مثلية الجنس وحقوق م.م.م.ج منتجات مصدرة من البلدان الإمبريالية. يجب محاربة هذه الكذبة من طرف حملة كير queer الدولية ضد حملة اسرائيل لتجميل صورتها باستعمال قضية المثلية الجنسية pinkwashing.

إننا نؤكد مجددا، في ضوء الإيديولوجية الأصولية الدينية المستمرة والحديثة في بلداننا، أهمية علمانية الدولة، وكذا حرية ممارسة أي دين.

يجب أن تكون الدولة علمانية، دون تجريد المجموعات الدينية من صفتها تلك أو استخدام نزع الصفة الدينية أداة لتقويض حقوق الأقليات (فرنسا).

لا تعني الدولة العلمانية نزع الصفة الدينية عن المجموعات والأفراد على نحو يمس حقوقهم الإنسانية.

ولا تعني حرية العبادة حرية ممارسة الزعماء الدينيين سلطة ورقابة بواسطة أجهزة الدولة. لا تعني حرية العبادة سوى حرية ممارسة الإيمان. ما يعني أن حرية العبادة في لبنان يجب ألا تتيح للزعماء الدينيين ممارسة صيغتهم الخاصة من "دولة القانون الديني".

وينبغي أن يؤخذ بالحسبان واقع وجود علاقات سلطة اضطهادية مفروضة على النساء وعلى أجسادهن وحياتهن في الممارستين المشار إليهما أعلاه، والإشارة إلى أن القوانين الدينية خاضعة إلى حد كبير لوحدة العائلة وفصل الأدوار بين الرجل والمرأة. على سبيل المثال، لا توجد في لبنان قوانين تنظم وضعا فرديا محميا من طرف الدولة، وما يوجد من قوانين دينية ترعاها الطوائف.

نريد التأكيد، فيما يخص بلدانا مثل إيطاليا والمكسيك، حيث كان فصل الكنيسة عن الدولة مكسبا تاريخيًا، على أن هذا الفصل يتضاءل باستمرار مع تكاثر العلاقات العامة بين الدوائر السياسية الحكومية العليا والزعماء الدينيين، لاسيما فيما يتعلق بحقوق المرأة و م.م.م. الجنس.

يسعى هذا النوع من الإجراءات والعلاقات، رغم عدم التعبير عنها بهذا النحو، إلى اتخاذ قرارات مشتركة بشأن جسد المرأة وحقوقها؛ كما هي حالة الإجهاض بالمكسيك. وجلي أن هذه القرارات تهدد حياتنا.

وقد أدت النزعة المحافظة النيوليبرالية، الساعية إلى تقوية الأسرة الأبوية عوض النساء والمانعة للطلاق، إلى زيادة كبيرة في العنف المنزلي ضد النساء. وفضلا عن الإفلات من العقاب، خلق خفض ميزانيات الدعم المادي لضحايا العنف الزوجي بيئة اجتماعية مثيرة لعنف الذكور.

وتستعمل الحركات "الدينية الفاشية" منهجيا العنف الجنسي ضد النساء والقاصرين في مناطق سيطرتها، لا سيما في شكل اغتصاب واستعباد جنسي. وتستخدم هذا لتجنيد أعضاء جدد ومحاربة مجموعات أخرى. تعرضت آلاف النساء الأيزيديات والكرديات في العراق وسوريا للأسر والاغتصاب من قبل أعضاء تنظيم داعش.

VI - أنظمة مستبدة، ومطلب الديمقراطية، وأشكال التضامن

يساعد على صعود قوى اليمين الرجعية الأيديولوجيةُ الأمنية التي تدفع بها اليوم الحكومات البرجوازية باسم المعركة ضد الإرهاب أو الهجرة “غير القانونية”. وبالمقابل، تستعمل تلك الحكومات ما غذّت من مخاوف لتوطيد الدولة الجنائية، ولإقامة أنظمة متزايدة الطابع البوليسي، ولتمرير تدابير نافية للحريات: إن مجموعات سكانية بكاملها تعتبر حاليا “مشبوهة” وعرضة لمراقبة.

لقد استخدمت الأجهزة الجديدة الرامية إلى تحطيم المعركة الشعبية من أجل التحرر، في منطقة العالم المتأثرة بالسيرورة الثورية المنطلقة من تونس ومصر، كل ترسانة الممارسات الأشرس، وكان عنفها مضاعفا بفعل تنافس القوى. في سوريا واليمن وليبيا وجزئيا في العراق، تم استئصال الحركات من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية بالحرب الشاملة من قبل سلطات الدولة الكاريكاتورية وحلفائها من جهة (إيران وروسيا من جانب، ودول الخليج من جانب آخر)، والجهاديين من جهة أخرى. وفي مصر والآن بتركيا، يؤدي التطرّف القمعي للأنظمة المهتزة إلى سحق غير مسبوق للتطلعات الديمقراطية. وصار الشعب الكردي، الرافض التنازل عن نضاله، ضحية كفّارة لنظام أردوغان؛ فيما تستفيد دولة إسرائيل في ظل نتنياهو من الفوضى المحيطة، ومن تواطؤ الجنرال السيسي وخاصة الرئيس الأمريكي ترامب، لمواصلة خنق الشعب الفلسطيني. وتبدو البلدان المغاربية ولبنان، قياسا بذلك، أقل تأثراً برياح الثورة المضادة الشديدة هذه، بالرغم من تشديد ملكية المغرب قبضتها الحديدية. وفي تونس، مهد سيرورة نهاية العام 2010، لن يمكن تدمير الحركات الاجتماعية رغم أن غياب بديل أمر ينيخ بثقله على الوضع.

 

ومع ذلك، لا تنفك الحركات الاحتجاجية تولد من جديد في جميع أنحاء المنطقة حتى إيران، لأن سياسات القمع باسم "محاربة الإرهاب"، والنيوليبرالية المدمرة وفساد كل تلك الأنظمة المتأصل، لا يمكنها القضاء على سكان شباب على بينة بفضل الإعلام ومستاء من انسداد الآفاق.

وفي أمريكا اللاتينية، توجد الحكومات (والأحزاب) المسماة تقدمية في أزمة. وينطبق هذا على تجارب مستلهمة لليبرالية اجتماعية وكذا على الأكثر جذرية، البوليفارية، إلخ. إنها تدفع ثمن تنازلاتها للنيوليبرالية و/أو حدود توجه إنمائي جديد néo-développementiste، قائم على تصدير الوقود الأحفوري والمواد الخام بوجه عام.

لقد سهلت مواطن ضعف هذه التجارب "التقدمية" الهجوم الرجعي الشرس لليمين المؤيد للإمبريالية والمعادي الديمقراطية. ويكتسي هذا الهجوم الليبرالي الجديد، اللاشعبي، والمناهض لحقوق العمال والعاملات، والنساء، والشعوب الأصلية، والشعوب ذات أصل أفريقي، شكلين مختلفين ولكن متكاملين: انتصارات انتخابية (الأرجنتين، الشيلي) وانقلابات مؤسسية زائفة (هندوراس، باراغواي، البرازيل).

تطورت مقاومة شعبية عريضة بأشكال مختلفة بوجه هذا الهجوم، ضد الانقلابات والتدابير الرجعية واللاشعبية. ويشارك مناهضو الرأسمالية بنشاط في هذه التحركات، ساعين إلى تعزيز الديناميات المناهضة للنظام القائم.

نشهد، حتى في بلدان تقاليد الديمقراطية البرجوازية العريقة، تغير نظام حقيقي. صودق على قوانين حرب أهلية تحت غطاء محاربة الإرهاب. وجرى نشر أنظمة مراقبة جماهيرية. ومُنح الجيش سلطات شرطة (فرنسا) أو جرت عسكرة قوات الشرطة. ودُمجت في القانون العادي تدابير استثنائية. وتمدد السلطة التنفيذية صلاحياتها على حساب السلطة القضائية.

يعرض إضعاف الدولة البرجوازية الديمقراطية هذا، المفترض أنه يعبر عن إرادة الشعب، بشكل مباشر النساء وقطاعات مجتمعية أخرى أكثر هشاشة تاريخيا لقوانين السوق "الوحشية"، التي لا يمكن سوى للأقوياء تحملها.

إن التخلي عن العقد الاجتماعي كما عرفناه في النصف الثاني من القرن العشرين فتح الأبواب لاستحواذ الرأسمال متعدد الجنسيات على جميع الأملاك المشتركة. وتمتد هذه السرقة إلى الأجزاء الحميمة والشخصية من أجساد النساء وأعضائهن الحيوية (والبشر عمومًا).

ويسهم التعميم التدريجي لحالات الاستثناء في إنكار إنسانية مجموعات اجتماعية بكاملها: أقليات، مهاجرون...  ويسهم في ذلك اللجوء المنهجي لجريمة "القذف"، و"تعييب الذات الملكية"، والمس بالهوية أو السلامة الوطنية. وليس اللجوء الماكر إلى سياسة التجريد من الإنسانية (التي غذى إبادات الأمس الجماعية) علامة على تيارات رجعية بل مضادة للثورة فعلا.

سببت العولمة الرأسمالية أزمة المؤسسات المسماة ديمقراطية (حيث كانت توجد) والبرلمانية البرجوازية. وبوجه فقد الشرعية هذا، يتمثل الميل السائد في إرساء- عنيف أو زاحف- لأنظمة مستبدة مفلتة من السيادة الشعبية (ومن الاستثناءات المؤكدة للقاعدة أن ديكتاتوريات عسكرية قديمة قد تضطر إلى التنازل عن قسم من سلطتها، كما الحال في بيرمانيا، دون أن يتم مع ذلك إرساء نظام ديمقراطي). وبات حق السكان في الاختيار لاغيا ببساطة باسم اتفاقات وقوانين صادقت عليها حكوماتهم.

على هذا النحو، يكسب المطلب الديمقراطي ("الديمقراطية الحقيقية الآن") بعدا تمرديا مباشرا أكثر مما كان في الغالب سابقا، ما يتيح تحميله مضمونا بديلا، شعبيا. كما أن تعميم السياسات النيوليبرالية، وما يلازمها من تحويل "المشتركات" إلى سلع، يتيح تلاقي المقاومات الاجتماعية، كما شهدنا في حركة العولمة البديلة.  كما تتيح العواقب التي باتت محسوسة لتغير المناخ مجالا جديدا لتلاقيات كامنة مناهضة للرأسمالية.

بيد أن العواقب المستديمة لهزيمة الحركة العمالية، والهيمنة الأيديولوجية النيوليبرالية، وفقد البديل الاشتراكي للصدقية، تتعارض مع هذه الميول الايجابية. يصعب اتخاذ نجاحات، كبيرة أحيانا، لحركات احتجاج (اعتصامات في الميادين، عصيان مدني…) بعدا مستديما.  يمكن لحدة الاضطهاد، في هذا السياق، أن تعزز مقاومات هوياتية "منغلقة"، حيث تظل مجموعة مضطهدة غير مبالية بمصير مضطهدين آخرين، كما يسهم إضفاء الطائفية على نزاعات عديدة في تقسيم المستغلين والمضطهدين.

 لا يمكن للنظام النيوليبرالي أن يفرض نفسه إلا بنجاحه في تدمير أشكال التضامن القديمة وخنق بزوغ أشكال تضامن جديدة. لا يمكن، أيا كانت أهمية أشكال التضامن، أن نعتبر أنها تتطور "على نحو طبيعي" ردا على الأزمة، وكذلك شأن النزعة الأممية بوجه رأسمال معولم... يجب بذل جهد متفق عليه ومنهجي في هذا المضمار.

VII - التوسع الرأسمالي و أزمة المناخ

نحيل القارئ إلى مقرر المؤتمر العالمي السابع عشر للأممية الرابعة حول الإيكولوجيا. نشير هنا بإيجاز إلى أن إعادة دمج "الكتلة" الصينية السوفييتية في السوق العالمية أتاحت توسعا هائلا للمساحة الجغرافية لسيطرة الرأسمال. كما أسس تسارعا دراميا للأزمة البيئية الشاملة، في مجالات متعددة. بات تقليص نفث غازات الاحتباس الحراري واجبا لا يقبل تأخيرا في البلدان النافثة الكبرى بالجنوب وليس بالشمال وحسب.

في هذا السياق، يجب ألا يشجع سداد "الدين البيئي" للجنوب التطور الرأسمالي العالمي ويفيد الشركات متعددة الاستيطان اليابانية- الغربية المقيمة بالجنوب، أو الشركات متعددة الاستيطان الخاصة بالجنوب (من قبيل الصناعة الغذائية البرازيلية، الخ)، ما لن يؤدي سوى إلى إذكاء اشد للأزمات الاجتماعية والبيئية.

ثمة دوما حاجة إلى تضامن شمال- جنوب، مثاله الدفاع عن ضحايا الفوضى المناخية. لكن المطلوب على جدول الأعمال في علاقات "شمال- جنوب" هو نضال مشترك "مناهض للمنظومة" من وجهة نظر الطبقات الشعبية، أي معركة مشتركة من أجل بديل مناهض للرأسمالية، وتصور آخر لتطور "الشمال" كما "الجنوب".

نقطة الانطلاق هي المعركة الاجتماعية- البيئية من أجل "تغيير النظام، لا المناخ"، وأساسها الحركات الاجتماعية وليس تحالفات البيئة وحدها. يجب، والحالة هذه، العمل من أجل تمفصلها. ما لم يضف طابع بيئي على المعركة الاجتماعية (على غرار ما يمكن القيام به منذ الآن في النضالات الفلاحية والحضرية)، سيقتصر نمو تعبئات "المناخ" العددي على سطح الأمور.

بفعل احترار الغطاء الجوي الإجمالي، غدت المجالد تتقلص، ومستوى المحيطات يرتفع، والصحاري تمتد والماء يندر، والزراعة مهددة والظواهر المناخية القصوى أكثر تواترا.  وفاقت عواقب الإعصار الفائق Haiyan  في الفلبين ما جرى التحذير منه. وبات المستقبل المعلن حاضرا. ولهذه التطورات نتائج مزعزعة تتجاوز المناطق المعنية مباشرة وتخلق أزمات متسلسلة (حالة التوتر بين بنغلاديش والهند حول مسألة اللاجئين المهاجرين أو النزاعات بين الدول حول التحكم بمصادر المياه العذبة).

يمثل تنظيم ضحايا فوضى المناخ، والدفاع عنهم ومساعدة تنظمهم الذاتي لبنة أساسية من لبنات المعركة الإيكولوجية.

تتمثل المسألة الأساسية بالجنوب في السيادة الغذائية التي تمنح الشعوب حق ووسائل تحديد أنظمتها الغذائية الخاصة. وتعطي السلطة لمن ينتجون ويوزعون ويستهلكون بدلا من المقاولات الكبرى ومؤسسات السوق المسيطرة اليوم على القطاع. وتتيح إنهاء الاستيلاء على الأراضي وتتطلب إصلاحا زراعيا واسعا لإعادة الأراضي إلى المنتجين.

 إن الوجه الأشد تدميرا في الأزمة البيئية هو أثرها على التعدد الإحيائي- ما بات يسمى "الانقراض السادس". ولا يمكن فصل مستقبل النوع البشري عن أزمة التنوع الإحيائي هذه.

VIII - عالم حروب دائمة

لقد دخلنا عالم حروب دائمة. ولا يتعلق الأمر بنزاعات دولية وحسب، بل يميز الوضع الداخلي لبلدان بإفريقيا وامريكا اللاتينية، مثل المكسيك.

والحرب قائمة لتستمر بأوجه متعددة. يجب علينا إذن أن نهتم مجددا بالكيفيات التي تخاض بها، لاسيما المقاومات الشعبية، من أجل فهم أفضل لشروط النضال، وواقع الوضع، ومتطلبات التضامن الملموسة... ولهذا القصد يتعين تحليل كل حرب بخصوصياتها. ونحن إزاء أوضاع بالغة التعقيد، كما الأمر بالشرق الأوسط، حيث تتداخل في مسرح أحداث واحد (العراق وسوريا) صراعات ذات خصوصيات مميزة لدرجة إذكاء توترات وتناقضات بين قوى تقدمية.

لكن نحن بحاجة إلى الحفاظ على بوصلة في وضع جيوسياسي بالغ التعقيد: الاستقلال الطبقي ضد الإمبرياليات، وضد النزعات العسكرية، وضد الفاشيات وصعود حركات هوياتية "مناوئة للتضامن" (عنصرية، كارهة للإسلام، ومعادية للسامية، وكارهة للأجانب، وأصولية، وكره المثلية الجنسية، وكره النساء، وذكورية…)

كل حديث عن الحروب يستدعي آخر عن حركة مناهضة الحرب. وبسبب اختلاف الحروب، ليس تشكيل مثل هذه الحركات في تآزر أمرا بديهيا. ومع ذلك ثمة في آسيا بوجه خاص حركات حيوية مناهضة للحرب. ومن الناحية الاستراتيجية، في قارة أوروبا وآسيا، سيجري تجاوز الحدود الموروثة عن حقبة الكتل حول هذه المسالة بالخصوص.

يجب تأكيد تضامننا مع جميع السكان ضحايا النزعة العسكرية، مع كل المقاومات الشعبية للحروب التي أثارها النظام النيوليبرالي ومطامع القوى العظمى. ويجب إيلاء اهتمام جديد للمعركة من أجل نزع شامل للسلاح النووي، بعد اعتماد معاهدة الأمم المتحدة بهذا الشأن، ومنح جائزة نوبل للسلام للمنظمة التي كانت محركها الرئيسي (الحملة العالمية لإلغاء الأسلحة النووية، ICAN).

IX - حدود القوة العظمى الفائقة

لا تمنع القواعد الوحيدة للنظام الرأسمالي المعولم بعض البلدان من أن تكون مساوية أكثر من أخرى؛ تبيح الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها أمورا لا تسمح بها في جهات أخرى.  وتراهن على مكانة الدولار، وتتحكم بقدر مهم من التكنولوجيا الأكثر تقدما، وتقود قوة عسكرية لا نظير لها. وتحافظ الدولة على احتكار وظائف عالمية، فقدتها قوى أخرى، في العالم الغربي، أو لم تعد تملك وسائلها. والجديد بالأحرى أنها مجبرة في العقد الأخير على مواجهة الصين التي تقود دولتها التوسع العالمي، ولم تعد محتكرة هذا الميدان.

تظل الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الفائقة الوحيدة بالعالم- ومع ذلك تخسر كل الحروب التي خاضت من أفغانستان إلى الصومال. ربما تقع مسؤولية ذلك على العولمة النيوليبرالية التي تمنعها من توطيد اجتماعي (بتحالف مع نخب محلية) لمكاسب عسكرية مؤقتة. وربما الأمر ناتج أيضا عن خصخصة الجيوش، حيث تقوم شركات المرتزقة بأدوار متنامية، وكذا العصابات المسلحة "غير الرسمية" في خدمة مصالح خاصة (مقاولات كبيرة، عائلات كبيرة...).

كما ليس لهذه القوة العظمى، مهما كانت فائقة، وسائل التدخل في جميع الاتجاهات في شروط عدم استقرار هيكلي معمم. قد تكون بحاجة إلى إمبرياليات فرعية قادرة على مساندتها. لكن تَشكـلَ امبريالية أوربية قد أجهض، ولم يعد لفرنسا وبريطانيا غير مقدرات محدودة جدا. وقد وجهت مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوربي (بريكسيت) الضربة القاضية لتشكل إمبريالية أوربية موحدة فيما المملكة المتحدة تقود إحدى أهم جيشين بالاتحاد.

يطرح انتخاب ترامب وتصريحاته من جانب واحد مشكلا قديما في صيغة جديدة: إلى أي حد تكون "المظلة الإستراتيجية" الأمريكية مضمونة؟ الجواب جلي: إلى حد غير مؤكد. وقد استنتج صقور اليمين الياباني الخلاصات من ذلك. ماذا سيكون الأمر في أوربا؟ توجد ألمانيا الإمبريالية تحت الضغط. هل بوسعها مواصلة الاستفادة من مكانتها الاقتصادية المهيمنة دون تحمل مسؤوليات عسكرية؟ أزمة الاتحاد الأوربي، والضغط الروسي والموقف الأمريكي كلها تطرح موضوعيا مسألة إعادة تسلح ألمانيا – فيما تظل مناهضة النزعة العسكرية عميقة جدا بين سكان هذا البلد (وكذا باليابان).

تكشف حكومة اليابان الحالية دون تزويق طموحاتها القومية والعسكرية. بيد أن عليها كسر المقاومة المدنية لإتمام إعادة تسليحها (حاملة الطائرات، السلاح النووي...). وتشهد هذه المقاومة أكبر حيوية في جزيرة أوكيناوا حيث توجد أكبر القواعد العسكرية الأمريكية. وبصورة أعم، لم تتلاشى بعد الذاكرة التاريخية للغزو الياباني لآسيا، التي فتحت الحرب العالمية الثانية في الشرق الأقصى. وطبعا يمثل الأرخبيل الياباني حجر قطعة رئيسية في نظام السيطرة الأمريكية في شمال المحيط الهادئ. غير أن طوكيو تظل عاجزة على تحمل مباشر لمسؤوليات جيوسياسية دولية وتدعم بهذا النحو واشنطن. فضلا عن ذلك، لا تسهل سياسة دونالد ترامب المتقلبة، وعدم اكتراثه بحلفائه، مهمة أبي شينزو.

ليس بوسع الإمبريالية الأمريكية أن تعتمد على حلفاء موثوقين وفعالين في الغرب كما في أوروبا، وفي الشرق، وفي آسيا،.

X - النزعة الأممية بوجه المعسكراتية

لم تعد ثمة قوى كبرى (مقولة لا تنتمي إليها كوبا) "غير" رأسمالية أو "معادية" للرأسمالية. يجب استنتاج كل الخلاصات من ذلك.

كنا في الماضي، وبلا اصطفاف مع الدبلوماسية الصينية، ندافع عن جمهورية الصين الشعبية (وعن دينامية الثورة) ضد التحالف الإمبريالي الياباني الأمريكي- وبهذا المعنى كنا في معسكرها. وعارضنا حلف شمال الأطلسي مهما كان رأينا في النظام الستاليني؛ ومع ذلك لم نكن ذوي نزعة “معسكراتية”، لأن ذلك لم يكن يحد من معركتنا ضد البيروقراطية الستالينية. كنا فقط نفعل في عالم حيث كانت تتمفصل خطوط النزاعات ثورات/ ثورات مضادة، وكتل شرق/ غرب وصينية سوفييتية. لم يعد الأمر على هذا المنوال اليوم.

أدى دوما المنطق "المعسكراتي" إلى التخلي عن ضحايا (وجُدوا في الجانب السيئ) باسم المعركة ضد "العدو الرئيس". يصح هذا اليوم أكثر من أمس، لأنه يؤدي إلى الوقوف في معسكر قوة رأسمالية (روسيا، الصين) أو في المعسكر الغربي عند اعتبار موسكو أو الصين خطرا أولا. يجري بذلك تغذية نزعات قومية عدوانية وتكريس الحدود الموروثة عن عصر "الكتل" فيما المطلوب بالضبط محوها.

كما قد تفضي النزعة المعسكراتية إلى مساندة نظام حافظ الأسد المجرم في سوريا- حيث التحالف تحت هيمنة أمريكية ويضم المملكة السعودية. وتكتفي تيارات أخرى بالتنديد بالتدخل الإمبريالي في العراق وسوريا (وهذا واجب) لكن دون حديث عن ماهية داعش ودون دعوة إلى مقاومتها.

يمنع هذا النوع من المواقف طرحا واضحا لمجمل مهام التضامن. إن التذكير بالمسؤولية التاريخية للإمبرياليات، وتدخل العام 2003، والأهداف غير المعلنة للتدخل الراهن في سوريا والعراق، والتنديد بإمبرياليتنا الخاصة، واجبات كلها غير كافية. يجب التفكير في مهام التضامن الملموسة من وجهة نظر الحاجات (الإنسانية، والسياسية، والمادية) للسكان الضحايا وللحركات المناضلة. وهذا متعذر سوى بمهاجمة نظام الأسد والحركات الأصولية المضادة للثورة.

كذلك الأمر في حالة النزاعات على الحدود التي تقسم اليوم الشرق الأوربي، كما في حالة أوكرانيا، كان موقفنا ان نناضل، في جميع البلدان، داخل الاتحاد الأوربي وخارجه، من أجل أوربا أخرى قائمة على اتحاد حر بين شعوب ذات سيادة ضد كل علاقات السيطرة (قومية، اجتماعية...) ما يعني لدينا الاشتراكية.

 XI -أزمة إنسانية

السياسات النيوليبرالية، والحروب، وفوضى المناخ، والاضطرابات الاقتصادية، والتفكك الاجتماعي، والعنف المتفاقم، والمذابح، وانهيار أنظمة الحماية الاجتماعية، والأوبئة المدمرة، واستعباد النساء، وموجات التهجير القسري، وأطفال معذبين... هكذا تلد الرأسمالية الظافرة، المنفلتة من عقالها، عالما تتكاثر به الأزمات الإنسانية.

يعصف تفكك النظام الاجتماعي أيما عصف بالدول في بلدان مثل باكستان. وفي المكسيك بوجه خاص، لم يفض تعفن الرأسمالية إلى بزوغ فاشية جديدة، بل حوّل العصابات الإجرامية المهمشة، العاملة سريا، إلى مجموعات سلطة حقيقية، شريكة للطبقة السياسية السائدة وللرأسمال المالي الدولي. وتمد شبكاتها إلى باقي أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية. وفضلا عن تجارة المخدرات، تورطت في اختطاف النساء والمتاجرة بهن. وتتحكم بأقسام واسعة من التراب ولها قاعدة اجتماعية. وسببت الحرب المزعومة على المخدرات، والنزاعات بين مختلف العصابات الإجرامية والخسائر "الجانبية" عددا من القتلى أكثر مما في الحرب بالعراق. ويسهل وجودها التراكم الرأسمالي بنزع ملكية آلاف الفلاحين والسكان المحليين بطردهم من أراضيهم لصالح الشركات متعددة الجنسية العاملة أساسا في صناعات الاستخراج. وتبرر عسكرة البلد وتجريم الاحتجاج الاجتماعي. ورغم أنها لا تبدي وجها سياسيا، تمثل هذه العصابات أساسا لتراكم الرأسمال، وتحمل ثقافة معادية للنساء، وتمييزية على أساس الجنس، ومعادية للمثليين وللأجانب. وقد تغدو حقلا خصبا لتشكل مجموعات شبه عسكرية في خدمة الاوليغارشيات.

تجري، بضغط من الاستخراجية وأقصى نهب لموارد الطبيعة، والاستيلاء على الأراضي والمياه، واحدة من أكبر أزمات الهجرة واللاجئين على مدى عدة عقود في أفريقيا جنوب الصحراء. معظم اللاجئين والمهاجرين أفارقة، ولكن على عكس الأساطير المعتادة، يظل معظمهم (4.5 مليون) "متموضعين" بإفريقيا. ويُقدر أن 10 إلى 20 مليون أفريقي سينتزعون، في السنوات المقبلة، من أماكن عيشهم نتيجة للاضطراب المناخي الناتج عن الرأسمالية.

وبدل تعزيزه بوجه حال الاستعجال، يُداس القانون الإنساني تحت أقدام الدول. ولم يعد الاتحاد الأوربي يتظاهر حتى باحترام القانون الدولي فيما يخص استقبال اللاجئين. ويمثل الاتفاق الآثم موضع التفاوض مع تركيا مثلا ساطعا عن ذلك، وكذلك شأن مصير إثنية Rohingya في جنوب شرق آسيا.

غالبا ما يشهر عنف بلا حدود نفسه بلا تجميل. ولم يعد العنف الفائق موضوع إنكار، بل يخضع لإخراج، كما قامت به داعش. ويتخذ قتل النساء أشكالا قصوى في بلدان مثل الأرجنتين والمكسيك: أجسام مخوزقة، ومحروقة، تضاهي أشكال العنف "التقليدية" لـ"جرائم الشرف" (وأد متمردات على النظام البطريركي...).

بعد جورج بوش وتفجيرات سبتمبر 2001، جرى إنكار انسانية العدو نفسها من قبل عدد متنام من الحكومات. وباسم معركة الخير ضد الشر، تحررت "الحرب الإنسانية" من القانون الإنساني ومن قانون الحرب: لم يعد للعدو "المطلق" أي حق- يتعفن في زنازين الأصوليين أو في "الثقب الأسود" في غوانتنامو وفي السجون السرية للمخابرات الأمريكية الموجودة ببلدان مختلفة.

يجب الرد على هذه الهمجية الحديثة بتوسيع مجالات الفعل الأممية. يتعين على قوى اليسار المناضل والحركات الاجتماعية أن تؤمن تطوير التضامن "من شعب إلى شعب"، و "من حركات اجتماعية إلى حركات اجتماعية"، مع ضحايا الأزمة الإنسانية.

 بعد حقبة جرى فيها تحقير مفهوم النزعة الأممية ذاتها، أعادت إليها موجة العولمة البديلة، ثم تكاثر "الاعتصامات" بالميادين والأحياء، الاعتبار. يجب الآن أن تجد هذه النزعة الأممية المجددة أشكال نضال بطابع ديمومة أكثر، في جميع ساحات الاحتجاج. لم يجر هذا عفويا، إذ يلاحظ تضاؤل حس التضامن أو تطبيقه ببلدان عديدة.

XII - حرب طبقية معولمة

تخوض الرأسمالية المعولمة حربا طبقية معولمة. وليست أهدافها ظرفية. ولا تسعى إلى فرض مساومة تاريخية أكثر ملاءمة من التي أجبرت البرجوازيات بعد الحرب العالمية الثانية على قبولها- إنها تريد السيطرة دون اضطرار لعقد مساومة مع الطبقات الشعبية. إنها لا تقيم مسبقا أي حدود لهجومها. لهذا تؤسس نمط سيطرة جديد.

تثير وحشية الهجوم مقاومات عريضة أحيانا. ويشهد على ذلك حاليا بجلاء النطاق العالمي للثامن من مارس 2017 وتعبئات النساء المتكررة من الأرجنتين إلى بولونيا، ومن الهند إلى إيران، ومن تونس إلى الدولة الإسبانية أو إيطاليا، ومن تركيا إلى المكسيك، ومن الولايات المتحدة إلى باكستان... وهن يعانين فعلا بشدة من الآثار المركبة للنيوليبرالية، والتهشيش الاجتماعي، وصعود التيارات الرجعية والمضادة للثورة، وحالات الحروب، واحتداد العنف وقتل الإناث. وفضلا عن تنوع الأوضاع والمطالب، غالباً ما تكون النساء في طليعة المقاومات الجماعية للفوضى العالمية الجديدة.

في ظل ميزان قوى غير ملائم، تقدم المقاومات الديمقراطية والاجتماعية نقاط ارتكاز لإعادة بناء قدرة مبادرة الحركات الشعبية والمناهضة للرأسمالية (انظر مقرر المؤتمر العالمي حول هذه المسائل).

لا تزال ثمة أسئلة "مفتوحة" كثيرة حول دينامية الرأسمالية المعولمة، لا سيما في الشأن الاقتصادي، وآثارها الاستراتيجية. على سبيل المثال لا الحصر: هناك خطر أزمة مالية جديدة، دون معرفة المفجر والعواقب. هل سيكون للابتكارات التكنولوجية المرتبطة بالمعلوميات تأثير مهم على إنتاجية العمل؟ هل دخلنا حقبة ركود مديدة؟ هل يمكن لقطاعات وازنة من البرجوازية أن تختار حمائية جديدة، فيما لا تزال اتفاقات التبادل الحر تتوسع؟ هل يسهم احترار المناخ في فرض حدود مطلقة على الرأسمالية؟ يجب أن يستمر عمل التفكير الجماعي بهذا الشأن.

مهما يكن من أمر، سيتواصل تهشيش الشغل وظروف الحياة العامة، وتمزيق النسيج الاجتماعي في معظم البلدان. وسوف تتقوى أشكال الاضطهاد ما لم يتصدى التضامن بما يكفي من بقوة. وسوف تنتشر كوارث أزمة البيئة. ويتفاقم عدم الاستقرار الجيوسياسي.

إن البديل التاريخي "اشتراكية أو بربرية" يتخذ اليوم كامل دلالته - ويضفي معنى كاملا  على النضال الأممي الذي ننخرط فيه. ■

 

* صادق مؤتمر الأممية الرابعة العالمي السابع عشر على هذا المقرر بـ 109 تفويضا مقابل 5 ضد وامتناع واحد عن التصويت.

 

Same author