
هذا المقرر صادق عليه المؤتمر العالمي الثامن عشر بـ109 صوتا مؤيدا، و 12 صوتا معارضا، و7 أصوات ممتنعة و 4 عدم مشاركة في التصويت.
مقدمة
قبل أربع سنوات، كان التنبؤ بوتيرة تسارع الأزمة متعددة الأبعاد، أو تضافر الأزمات الرأسمالية، أمرا مستحيلا. عاد دونالد ترامب إلى حكومة الإمبريالية المهيمنة معززا، هذه المرة بحكومة ومشروع نيوفاشي أو ما بعد فاشي ”خالص“: مشروع 2025 لمؤسسة هيريتيج (أحد أقدم مؤسسات التفكير اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة، وأفضلها تمويلاً )، الذي تبنّاه الحزب الجمهوري الترامبي. يمثل هذا المشروع قطاعات رأس المال الأمريكي الأشد جذرية - من حيث الليبرتارية النيوليبرالية وازدراء مؤسسات الديمقراطية البرجوازية الأعرق: عمالقة التكنولوجيا، والتمويل المشفر، ورأس المال المخاطر، وصناعة الوقود الأحفوري، بالإضافة إلى صناعة الأسلحة، التي باتت أكثر ربحية من أي وقت مضى.
نظراً لحجم وعنف الإجراءات المطبقة بالفعل على الصعيدين الوطني والدولي، باتت الإدارة الأمريكية في عهد ترامب-ماسك مهيأة لتصبح قنبلة موقوتة حقيقية، قادرة على تشديد أقصى لجميع أزمات "الأزمة متعددة الأبعاد" التي نسلط الضوء عليها في هذه الوثيقة. إنه انعطاف يفتح عصرا عالميا جديدا، أشد اضطراباً وخطورة واستعصاء على التوقع. يسعى ترامب 2.0 إلى مواجهة تراجع الهيمنة الأمريكية النسبي في العقود الماضية ببسط تفوق قائم على التوسع وإعادة الاستعمار والسلب والإلحاق على نطاق عالمي - تفوق من شأنه إعادة الولايات المتحدة إلى وضع الهيمنة بلا منافس الذي تلا مباشرة للحرب العالمية الثانية. هذا الهدف المستحيل هو المعنى الوطني والدولي لماغاـ MAGA. (أجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى)
ولاية ترامب الثانية أشد ضرراً على الشغيلة والشعب الأمريكيين، وللجغرافيا السياسية، والاقتصاد العالمي، وتوازن القوى الدولية من ولايته الأولى. يناصب العداء للجميع: الصين في المقام الأول، ثم منظمة الأمم المتحدة، ومعها جميع مؤسسات النظام العالمي للسنوات الثمانين الماضية، وكذا دول البريكس وأي حكومة ذات سيادة تقف في طريقه. هذا دون الحديث عن المؤسسات الديمقراطية البرجوازية الأمريكية التي ينوي فرض تغيير غير مسبوق عليها.
إن ترامب، المستقوي بفوز انتخابي مقنع، وبسيطرة على الكونغرس والمحكمة العليا، وحكومة من الصقور والمليارديرات غير الأكفاء ولكن الموالين، جاد حين يهدد باستعادة قناة بنما، والاستيلاء على غرينلاند، وضم كندا، فضلاً عن خطة صريحة تروم محو غزة وترحيل سكانها إلى مصر والأردن، ودعم الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، بعد أن فرض وقف إطلاق النار الأخير على نتنياهو المتردد ولكن الخاضع كليا. وقد باتت إدارته تقوم بعمليات طرد مهينة ومروَّجة إعلاميا (يصل شغيلة مهاجرون من أمريكا اللاتينية والهند، موصوفون بأنهم لصوص، إلى بلدانهم مقيدين بسلاسل).
أعلن الزعيم العالمي لمنكري تغير المناخ، ترامب 2.0، عن حوافز كاملة لاستكشاف الوقود الأحفوري واستغلاله (احفر يا صغيري احفر!)، ودمر بالفعل وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA) ، وأمر بإلغاء تمويل جميع برامج تعاون الولايات المتحدة في مشاريع حماية البيئة في الخارج. إن رفض ”الرأسمالية الخضراء“ من قبل فصائل الإمبريالية الجديدة الحاكمة هذه يتعلق بالمنافسة مع الصين، المسيطرة في مجال التقنيات البديلة للوقود الأحفوري (طاقة الرياح والطاقة الشمسية والنقل الكهربائي). يستلزم الذكاء الاصطناعي، الذي يراهن عليه هؤلاء كأسرع وسيلة لتجاوز الصين، موارد طاقية هائلة وسيطرة على الموارد المعدنية.
يحتاج الفاشيون الجدد، المدعومون اليوم من قطاعات أساسية من رأس المال الأمريكي، من أجل إعطاء الأولوية لأمريكا، إلى إنكار تغير المناخ، وإلى ازدراء مطلق للتهديدات الرهيبة التي تنيخ بها الكارثة البيئية على حياة مئات الملايين من البشر الأبرياء، تمامًا كما يحتاجون إلى كراهية المختلفين والمقاومين والنساء ومجتمع الميم-عين. إنهم بحاجة إلى تمجيد القوة الذكوري وكاره النساء كوسيلة للفرض، وللرغبة في إخضاع الصين وروسيا وأوروبا والعالم بأسره. ولكن عليهم قبل كل شيء هزم الحركات النقابية والطلابية والجمعيات والنسوية والسود والمنظمات غير الحكومية المؤيدة للديمقراطية، وحتى صحافة المقاولة الأمريكية الناقدة.
يعبر مشروع ترامب أيضًا عن ضرورة أن تمنع فصائل رأس المال الإمبريالي التي يمثلها، بأي ثمن – حتى لو كان تفكيك الدولة الأمريكية وإنهاء أي سياسة اجتماعية ومساواة – التحول الديموغرافي للولايات المتحدة إلى أمة متنوعة عرقيًا وسياسيًا وجنسيًا ودينيًا، وما يمثل ذلك من تهديد سياسي للنخبة السياسية والاقتصادية الأنجلوساكسونية البيضاء البروتستانتية Wasps.. وكما يشير محللو حركة «حياة السود مهمة»، فإن هذا رد فعل استراتيجي على خطر أن تصبح غالبية السكان الأمريكيين غير بيض أو بروتستانت أو أنجلوساكسونيين، كما هو الحال في كاليفورنيا (بما في ذلك اللاتينيين والأفريقيين الأمريكيين والخلاسيين والأسيويين والسكان الأصليين).
وقد حفز فوز ترامب حركات اليمين المتطرف في المراكز الرأسمالية والبلدان الطرفية أو شبه الطرفية. والسكان الأكثر عرضة للتهديد من الإمبريالية المهيمنة في عهد ترامب هم سكان الشرق الأوسط، وفي مقدمتهم الفلسطينيون. وقد باتت الإدارة الأمريكية الجديدة، إلى جانب حكومة نتنياهو الإبادية، طليعة اليمين المتطرف العالمي، داعمة بالكامل مشروع الدولة الصهيونية الاستعماري. تقود إسرائيل حملة إرهاب واسعة النطاق في حرب غير متكافئة، تشكل قفزة نوعية في حرب دامت 75 عامًا من الفصل العنصري والاستعمار والتطهير العرقي. الهدف الأول هو اجتثاث الشعب الفلسطيني بتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وبمنطق تفوق عرقي. ولكن في جميع البلدان، يتعرض اللاجئون والمهاجرون ومناضلو البيئة ومناضلو التضامن مع فلسطين وغيرهم لإجراءات قمعية تتخذها الحكومات اليمينية (وغيرها)، موجهة رسمياً ضد تهديدات «إرهابية» و«إجرامية» و«معادية للسامية» مزعومة.
كما تهدف إدارة ترامب 2.0 إلى زيادة عزل إيران ومهاجمتها، وكذلك إسرائيل – وهو ما يفسر جزئياً المحاولات الأمريكية لفصل الصين عن روسيا وإبرام اتفاقات منفصلة مع الهند بقيادة مودي، باختصار، تقسيم دول البريكس، الهشة حالياً. في الشرق الأوسط، قد يؤدي تحييد بوتين حتى لا يتدخل في المنطقة، مقابل سلام لصالح روسيا في حرب أوكرانيا، إلى فتح فصل جديد، أكثر دموية، في الحرب التوسعية الأمريكية-الإسرائيلية ضد إيران.
في أوروبا الغربية، دفع تأثير ترامب، وتهديداته ورسومه الجمركية وابتزازه، ماكرون إلى رفع الإنفاق العسكري الفرنسي إلى نسبة 5٪ المطلوبة أمريكيا. و تهديدات الإمبريالية الأمريكية ضد غرينلاند هي، بالمقام الأول، تهديد لسكانها، الذي وقعوا في شبكة تنافس إمبريالي لم يختاروه. لكنها تهديد أيضاً للعالم، المعرَّض للخطر بسبب الاستغلال الجشع لثروات غرينلاند وعسكرة منطقة القطب الشمالي الهشة. حادث واحد مثل الذي وقع في خليج المكسيك في العام 2010 قد يسبب أضرارا للمحيطات غير قابلة للإصلاح. وبالمثل، فإن أي صدام عسكري في القطب الشمالي قد يفتك بالنظم البيئية العالمية. وتتمثل منظورات المدى القصير والمتوسط في تعزيز إعادة التسلح العام.
بينما يحتد تنافس الولايات المتحدة والصين الاقتصادي والجيوسياسي في عهد ترامب، سيصبح العالم أكثر عسكرة؛ وستتفاقم التهديدات النووية وستتكاثر النزاعات والتوترات، تحت تأثير التناقضات التي يفاقمها المشروع الإمبريالي الجديد. لن يُفعَل أي شيء دون تناقضات كبيرة. كيف سيتمكنون من فصل الاقتصاد الأمريكي عن النسيج الصناعي الصيني؟ إذا كان العدو الرئيس هو الصين، كما تتساءل نيويورك تايمز، فلماذا محاربة من قد يتحالفون معها (في إشارة إلى الهند وأوروبا والمكسيك وكندا المجاورة)؟ لماذا هذه الحرب الجمركية الشاملة، التي ستؤدي إلى ارتفاع الأسعار المحلية؟ إذا كان تغير المناخ يهدد بإفناء جزء كبير من البشرية، فلماذا تشجيعه؟
إنها طبيعة رأس المال بشكل عام وهذه القطاعات بوجه خاص: في مواجهة انخفاض غير مسبوق في النمو ومعدلات الربح والتراكم بعد العام 2008، يتبنون نهجاً متطرفاً ليبرالياً وعدوانيا وفاشياً. وفي مواجهة استحالة البقاء مشرفين على نظام يضمن أرباحًا استثنائية لرؤوس الأموال من جميع الأطياف، اختاروا الاهتمام بمصالحهم وفرض قواعدهم على العالم. لا يمكن لمشروع عالمي للتغيير بهذه الضخامة والحدة أن يفرض نفسه دون مقاومة كبيرة.
حتى لو حُرم المستغلون من البدائل الاجتماعية والسياسية التي يقدمها اليسار الثوري، ستشتد الصراعات من كل نوع. يجب على مناضلي الأممية الرابعة وأنصارها أن يواجهوا هذا السيناريو المريب والصعب بفهم وفعل ثوريين. إن أزمة الرأسمالية متعددة الأبعاد، مع وحوشها - أحدها يوجد في البيت الأبيض - تقرب الكوكب من الانهيار والبشرية من الفناء. مهمتنا الضخمة هي التعاون في بناء فرامل الانقاذ اللازمة.
I/أ- أزمة عالمية متعددة الأبعاد
باتت مشكلات البشرية الكبرى ذات طابع عالمي أكثر من أي وقت مضى. أصبحت الأزمة الرأسمالية متعددة الأبعاد بالنسبة للمجتمع البشري وللأرض. ثمة ترابط جدلي بين مختلف المجالات، دون تراتب، بين (أ) الأزمة البيئية – التي تنتج منذ بضع سنوات ظواهر مناخية متطرفة باطراد، وتقصر مهلة تنفيذ التدابير الرامية إلى ضمان بقاء البشرية نفسها على الأرض؛ (ب) حقبة الركود الاقتصادي المستمر وعواقبها الاجتماعية المدمرة؛ (ج) تقدم اليمين المتطرف على الطريق الذي فتحته الديمقراطيات والحكومات النيوليبرالية المأزومة؛ (د) اشتداد الصراع على الهيمنة في النظام الدولي بين الولايات المتحدة والصين؛ (هـ) تكاثر الحروب وتفاقمها بشكل خطير.
فتحت أزمة العولمة النيوليبرالية لحظة جديدة في تاريخ الرأسمالية. وهي حقبة مغايرة نوعياً عن تلك التي مررنا بها منذ بدء العولمة النيوليبرالية في متم سنوات 1970، وهي حبلى أكثر بالنزاع، من حيث الصراع الطبقي والصراع بين الدول، من تلك التي بدأت قبل 33 عاماً مع انهيار الاتحاد السوفيتي والأنظمة البيروقراطية في أوروبا الشرقية.
1.1 .ما الذي يميز الأزمة متعددة الأبعاد الحالية؟
ثمة فرقان مهمان بين الوضع الراهن وتضافر أزمات مطلع القرن العشرين ("عصر الكوارث" من 1914 إلى 1946). التهديد الأكثر إلحاحًا، والذي لم يكن قائما قبل قرن، هو الأزمة البيئية الناجمة عن قرنين من التراكم الرأسمالي المفتر.
بارتكازه على حرق الوقود الأحفوري، وعلى الاستهلاك المتزايد للحوم والأغذية المحولة بنحو فائق، يفاقم الاقتصاد الرأسمالي أزمة المناخ بسرعة، معرضا بذلك مستقبل البشرية على كوكب الأرض للخطر. يؤدي ذوبان القطبين والأنهار الجليدية إلى تسارع ارتفاع منسوب مياه البحر وأزمة المياه. وتتقدم الصناعات الزراعية والتعدين واستخراج الهيدروكربونات (ليس بدون مقاومة) في الغابات الاستوائية، الأساسية للحفاظ على النظم المناخية والتنوع البيولوجي في الكوكب. ستستمر آثار الأزمة المناخية في التجلي بشكل عنيف، مدمرة البنى التحتية والنظم الزراعية وسبل العيش، ومسببة تنقلات بشرية كثيفة.
لن يحدث أي من هذا دون تزايد الصراعات الاجتماعية.
ثاني عنصر (مختلف كثيراً عما كان قبل مائة عام) هو غياب البدائل الثورية الجماهيرية. فبوجه تغيرات متسارعة دوما، تزداد خطورة مشكلة غياب بديل ذي مصداقية عن للرأسمالية في أعين الجماهير، وغياب قوة، أو مجموعة قوى، مناهضة للرأسمالية تقود الثورات الاقتصادية والاجتماعية. كما أن هشاشة الرأسمالية ونظام علاقات الدول الخاص بها ترجع إلى تشظٍّ سياسي وأيديولوجي كبير للحركات الاجتماعية ولليسار.
1.2. الأزمات تعزز بعضها بعضًا: الحروب وإعادة الإنتاج الاجتماعية والخوارزميات.
ليست الأزمة متعددة الأبعاد مجرد مجموع أزمات، بل مزيجٌ مترابط جدليّا. كل مجال يؤثر على المجالات الأخرى ويتأثر بها. أدى ارتباط الحرب في أوكرانيا (قبل اندلاع الصراع في فلسطين) بالركود الاقتصادي إلى تفاقم الوضع الغذائي الحرج لأفقر سكان العالم، حيث يعاني أكثر من 250 مليون شخص من الجوع أكثر مما كان قبل عشر سنوات (2014-2023). تتزايد تدفقات النازحين بسبب الحروب وتغير المناخ والأزمة الغذائية وانتشار الأنظمة القمعية، لا سيما في أفقر البلدان.
لا يمكن تفسير تصاعد التوترات العسكرية الإقليمية والدولية، ولا التسليح السريع للخطاب والميزانيات الحكومية، ولا النمو الأخير لصناعة الأسلحة، دون الأخذ في الاعتبار هذا التفاقم في التنافس على الأسواق العالمية، وتكثيف الاستخراج الاستعماري الجديد، والصراع على المعادن الإستراتيجية (سواء لإنتاج السيارات الكهربائية أو الأسلحة من الجيل الأخير، أو لتغذية وحش الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي). ما من جهة في العالم خلو من منطقة توتر شديد خاصة بها: الشرق الأوسط وبحر الصين وأفريقيا هي أمثلة جيدة على ذلك. وبالمثل، لا يمكن تفسير سلسلة الإبادة البيئية في القارات الخمس وجميع البحار إلا إذا بربطها بتصاعد تنافس الرأسماليين والإمبرياليين، ما يثبت مرة أخرى أن اقتصاد التسلح – لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية –عنصر مكون ودائم للإمبريالية بجميع أشكالها، في جميع العصور والمناطق الجغرافية.
أدى تغير المناخ، وإفقار الأراضي، واستيلاء الأوليغارشيات على الأراضي الأجود خصوبةً، وكذا انخفاض حصة الشغيلة في الدخل القومي، وإهمال وتدهور الخدمات الأساسية (الصحة، والتعليم، والمياه، وغيرها) من قبل الدول النيوليبرالية، إلى زيادة التفاوتات بين الأفراد – وبوجه خاص إلى زيادة الفجوة في الوصول إلى الدخل والممتلكات والثروة بين البلدان والطبقات الاجتماعية والمجتمعات والشعوب، وبين الرجال والنساء والأشخاص المعرضين للعنصرية وغيرهم.
دفعت الآفاق البيئية والاقتصادية الكارثية فصائل برجوازية مهمة في مختلف البلدان إلى التخلي عن مشروع الديمقراطية الشكلية، المعتبر أفضل وسيلة لإنماء أرباحها. وتتجه قطاعات نشاط متزايدة الأهمية إلى بدائل استبدادية داخل الديمقراطيات الليبرالية، ما يؤدي إلى تعزيز الحركات الأصولية اليمينية المتطرفة وصعود حكومات يمينية متطرفة في جميع القارات. ثمة انقسام – يحتاج استمراره برهنة– بين الفصائل البرجوازية في مختلف البلدان: يتجه قسم من الطبقة الحاكمة نحو اليمين المتطرف، بينما يظل قسم آخر متمسكًا بمشروع الديمقراطية البرجوازية. وأبرز مثال على هذا الانقسام بين الفصائل الرأسمالية هو التقاطب بين الترامبية (التي اكتسحت الحزب الجمهوري) والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة.
إن انتشار تنشئة اجتماعية نيوليبرالية فائقة الفردانية، مقترناً باستخدام اليمين المتطرف لشبكات التواصل الاجتماعي والآن للذكاء الاصطناعي (AI)، يفاقم نزعَ التسيُّس وتفككَ الطبقات الشعبية والنزعةَ المحافظة. تُسهم التكنولوجيات الرقمية، فضلا عن تأثيرها على العمالة وتنظيم الشغيلة، في تعميق التبعية-الشخصية، وحتى في تقلص مباشر للفلاحين الصغار والمتوسطين، الذين يُعتبرون المنتجين الرئيسيين للأغذية في العالم. تُدخل الرأسمالية النيوليبرالية الحالية الأجهزة الرقمية والخوارزميات كقوى إنتاج جديدة، ما أدى إلى ظهور العمل على المنصات الرقمية - المسمى أحيانًا ”أوْبَرة“ (ubérisation ) وقد بات يشغل أكثر من مائتي مليون عامل - وبعلاقات اجتماعية متنوعة يتوسط فيها حصريًا السوق.
من ناحية أخرى، يؤدي استمرار النظام في الهجوم العنيف على ما تبقى من دولة الرفاهية، وفرض الاستغلال المفرط لعمال الصناعة والخدمات، ولا سيما في مجال الرعاية وإعادة الإنتاج الاجتماعية، إلى إلقاء النساء، ولا سيما العاملات، وبنحو أشد عنفاً النساء ضحايا العنصرية (من أصل أفريقي، والغجريات، ونساء الشعوب الأصلية وأفريقيا و نساء جنوب آسيا العاملات في بلدان الشمال) في مأزق بين حياة البقاء (السيئة) والتصدي. تٌبقي النيوليبرالية النساء في سوق العمل الرسمي (في الشمال) أو في أشكال أقل هيكلية وغير رسمية(في جميع أنحاء العالم، ولكن بشكل خاص في الجنوب)، ما يقلل أجور ودخل العاملين (سواء في الصناعة أو الخدمات أو التجارة). تسهم أيديولوجية العودة إلى الأسرة التقليدية، التي تشكل جزءًا أساسيًا من النموذج النيوليبرالي وتصل إلى أقصى حدودها في الأصولية اليمينية المتطرفة، في إثقال كاهل جميع النساء العاملات بمهام رعاية الأطفال والمسنين والمرضى والمعاقين. كانت دولة الرعاية تنهض بهذا العمل في الماضي، لا سيما في البلدان الرأسمالية المتقدمة، لكنه يتعرض اليوم لتخفيضات حادة.
كما أن لتشكل كتل جيوسياسية آثار على السياسة الجنسية، فحلفاء الولايات المتحدة، مثل تايوان وتايلاند، يطبقون الزواج المثلي، في حين تراجعت الصين عن أوجه تقدم سابقة لصالح مجتمع الميم-عين، وترعى إيران، الدولة المعادية للولايات المتحدة، محورًا معاديًا للتحرر الجنسي (برغم وجود أعضاء في الكتلة التي تقودها الولايات المتحدة، من الفاتيكان إلى المملكة العربية السعودية، رجعيون بنفس القدر في هذا المجال).
بينما تشهد شبكات إعادة الانتاج الاجتماعية أزمة، في البلدان الطرفية أكثر من المركز، يقوم المجتمع النيوليبرالي بإلقاء عبء مهام الرعاية على الأسرة (العودة إلى الأسرة) ويضفي عليها طابعا عرقيا (إسنادها لغير البيض وللسود وللنساء الأصليات وللمهاجرين)، لكنه لا ينهض بمسؤولية إعادة الإنتاج الاجتماعية الاجتماعي برمتها.
1.3 الوضع الاقتصادي والاجتماعي
ما زلنا نعاني من عواقب الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي أطلقها الانهيار المالي في العام 2008، والتي بدأت في 2007، وأطلقت ركودا عالميا. لم يعد بإمكان نمط الاشتغال الرأسمالي النيوليبرالي ضمان معدلات النمو والأرباح والتراكم التي ميزت أواخر سنوات 1980 و1990. ثانياً، يزعزع التقاطب الجيوسياسي، المتفاقم بسبب الحروب وصعود النزعة القومية الرجعية – التي تعززت بشكل كبير بوصول ترامب 2.0 –سلاسل القيمة والإنتاج والتجارة الدولية فائقة الطابع المُعولم.
العولمة النيوليبرالية في أزمة. بيد أن أيا من كبريات مصاعب الرأسمالية النيوليبرالية لم تؤد إلى تغيير طابع الأمولة المميز لها – التي يقودها رأس المال المالي – مُركِّزة الثروة في حسابات عدد متناقص باطراد من الشركات والأفراد، مع إغراق المزيد من البشر في الفقر. وبرغم من الأزمة، يواصل رأس المال ونظامه الاقتصادي النيوليبرالي إحداث تفاوتات بين البلدان والمناطق وداخل البلدان. في العام 2024 وحده، أنتج النظام 204 مليارديراً جديداً، في حين أن عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر، على أقل من 6.85 دولار في اليوم، لم يتغير منذ التسعينيات. وفي العام 2023، استخرج 1٪ الأغنى في البلدان الإمبريالية 30 مليون دولار في الساعة من البلدان التابعة أو شبه المستعمرة - وهي نتيجة أساسية للنظام المالي، الذي يفرض على حكومات العالم تعديلات غير معقولة، والديون، وخفض الأجور والحقوق الاجتماعية، وجعل الزراعة. سلعة
إن رقمنة عمليات الإنتاج والاستهلاك، التي بدأت منذ 30 إلى 40 عامًا، وتشكل أساس ما يسمى بإعادة الهيكلة النيوليبرالية للإنتاج، تتكثف اليوم مع الاعتماد المتسارع على الذكاء الاصطناعي. إن تطبيق الذكاء الاصطناعي هو رهان رأس المال لاستعادة معدلات الربح والتراكم، بهدف زيادة إنتاجية العمل ومعدلات الربح. ومرة أخرى، سيؤدي ذلك إلى انخفاض فرص العمل، وتهديد استقرار الوظائف والشغيلة، وتعزيز سلطة عمالقة التكنولوجيا.
بالإضافة إلى طابعها الركودي، تزعزع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية - القائمة على المصالح السائدة للمؤسسات المالية - مستوى معيشة الجماهير الكادحة بإثقال كاهل الشغيلة والبلدان التابعة بالديون لدى البنوك الخاصة الإمبريالية الكبرى وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي. ويؤدي رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم إلى زيادة الديون السيادية والخاصة، ما يخلق ظروفاً لأزمات جديدة من التخلف عن السداد، مثل تلك التي اندلعت بالفعل في سريلانكا وغانا وزامبيا، أو التي تم تجنبها في لحظة أخيرة بفضل قروض طارئة من صندوق النقد الدولي والصين لعشرات البلدان مثل الأرجنتين ونيجيريا وباكستان ومصر وكينيا بنغلاديش وتونس. إن سعي الشركات المحموم إلى ”الاحتماء من الأزمة“ (أي الحفاظ على الأرباح) يشجع المضاربة المالية. وتهدد هذه المضاربة النظام بموجات إفلاس، كما حدث في العام 2008.
II/ اليمين المتطرف يتحدى ”الديمقراطيات النيوليبرالية“ والشغيلة والمضطهدين
منذ الكساد الكبير في العام 2008، وبنحو أجلى منذ العام 2016 (بريكست وفوز ترامب الأول)، تحقق قوى اليمين المتطرف الجديدة تقدما على الدول والمجتمعات. ويتمثل رأس حربتها العالمية اليوم في بنيامين نتنياهو، مرتكب الإبادة الجماعية، ودوره كمستعمر عنصري في الشرق الأوسط. وفضلا عن صعودها في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، تهدد قوى اليمين المتطرف الولايات المتحدة والعالم بعودة ترامب إلى البيت الأبيض.
تعزز اليمين المتطرف في القرن الحادي والعشرين وتكاثر بفضل انتصارات انتخابية، ثم تدابير معادية للهجرة وتقييد الحريات والحقوق الاجتماعية. وهي تظهر بوجه «مناهض للنظام» (مناهضة للأنظمة السياسية التي تصفها بشكل منافق بأنها مسؤولة عن تدهور الظروف المعيشية والفساد وانعدام الأمن)، في حين أنها ليست كذلك بتاتا. إنها أقصى تعبير عن الدفاع عن الرأسمالية في مرحلتها الحالية. ولضمان تنفيذ سياساتها الليبرالية المتطرفة، أو في بعض الحالات نزعة قومية كارهة للأجانب، تلجأ إلى خطابات تقليدية رجعية و إلى العنصرية الأشد عنفاً، عادةً تحت أقنعة دينية أصولية– المسيحية الخمسينية في الولايات المتحدة والبرازيل، والهندوسية في الهند، والإسلاموية في باكستان وأفغانستان وإيران.
واستقواءً بخبرتهم الواسعة في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي المتنامية وغير الخاضعة لأي تقنين، يعلنون الحرب على حقوق الشغيلة بوجه عام، وبخاصة على حقوق المهاجرين والنساء ومجتمع الميم-عين والأشخاص ذوي الإعاقة وأقليات (أو أغلبيات) عرقية أو دينية داخلية والأشخاص المعرضين للعنصرية بشكل عام والمناضلين البيئيين. و بما يميزهم من نزعة إنكار علمي بكل أنواعه ولجوئهم إلى نظريات المؤامرة، يشنون حربا مفتوحة ضد الحركات البيئية وضد كل من يؤمن بتغير المناخ.
وعلى غرار أسلافهم النازيين التقليديين، فإنهم عنصريون بشكل أساسي تجاه مختلف المجموعات العرقية – مثل المهاجرين من الجيل الثاني والثالث والرابع في أوروبا والسكان السود والآسيويين والعرب واللاتينيين في الولايات المتحدة – وغالبًا ما يكونون عنيفين بشكل خاص تجاه موجات الهجرة الأحدث، التي يتهمونها بالمسؤولية عن مشاكل البطالة وانعدام الأمن. وفي جنوب شرق آسيا، يتمثل ”العدو المحدد“ في الأقليات الدينية غير الأغلبية، مثل مودي – مع مائتي مليون مسلم في البلد.
برغم أن اليمين المتطرف الحاكم اليوم لا يجنح إلى إرساء أنظمة فاشية كلاسيكية مستوحاة من نموذج سنوات 1930، أفلحت حكومات اليمين المتطرف في الهند وتركيا والمجر ودول أخرى، طيلة سنوات، في جمع أشكال ظاهرية من الديمقراطية البرجوازية مع قمع فعال لوسائل الإعلام المستقلة وللأحزاب والحركات المعارضة، فضلاً عن المثقفين المنتقدين. وهذه النزعة آخذة في التزايد. فقد أدت حرب روسيا على أوكرانيا إلى قمع شرس للأصوات المناهضة للحرب والمعارضة بوجه عام. ويستهدف القمع أيضًا المعارضة الجنسية والجندرية، حيث أصبحت قوانين ”الدعاية للمثلية“ أشد قسوة وتم تبنيها في بلدان أخرى. وفي بلدان مثل إندونيسيا وتركيا، تم مؤخراً إغلاق المجال الذي كان قد انفتح أمام مجتمعات الميم-عين. وفي إسرائيل، تشجب الحكومة الفاشية الجديدة أي معارضة لحرب الإبادة الجماعية في غزة باعتبارها «معادية للسامية»، وتقمعها وفقاً لذلك. وتشن الحكومات الموالية لإسرائيل حملات مماثلة في أمريكا الشمالية وأوروبا.
هذا المزيج من النيوليبرالية المتطرفة والتقليدية الأصولية والعنصرية يخدم بشكل عميق النظام الرأسمالي: فهو يعبر عن سعي فصائل برجوازية واسعة في الشمال والجنوب إلى مخرج «متخلف» اقتصادي وسياسي وأيديولوجي لأزمة النظام الهيكلية. هؤلاء الرأسماليون يدعمون من يعدون بإرساء نظام استبدادي، وتدمير الحقوق (وبالطبع أي أثر لدولة الرعاية)، وإعادة النساء إلى المجال المنزلي (أي إلى مجرد إعادة إنتاج قوة العمل)، وإرجاع الأشخاص المُصنفين على أساس العرق ومجتمع الميم-عين إلى أشد أشكال القمع والطمس، وطرد المهاجرين وذريتهم، والتحكم في الحركات الجماهيرية بيد من حديد، وفرض تعديلات وعمليات مصادرة قاسية، لا سيما على ما تبقى من الفلاحين والمجتمعات القروية. كل هذا يهدف إلى إرساء مجتمع أغلبية مستغَلة بإفراط، خالٍ من الصراعات مثاليا، حيث يمكن لرأس المال استعادة أرباحه ومعدلات تراكمه المفقودة.
إن صعود هذا التكتل اليميني المتطرف وتقدمه نتيجةٌ لعقود من أزمة الديمقراطيات (النيوليبرالية) ومؤسساتها (بما في ذلك جميع الأحزاب التقليدية، حتى أحزاب ”اليسار“ التي أدارت الدول في ظل النيوليبرالية). وقد زادت هذه الحكومات والأنظمة، الملتزمة بالنيوليبرالية، التفاوتات والفساد وانعدام الأمن، وكذا الفقر والحروب والكوارث المناخية – ما يشجع الهجرة من الجنوب إلى الشمال. وقد أتت إجابات غير مرضية على تطلعات الشغيلة والشعوب. وبهذا النحو شجعت الطبقات الوسطى المالكة، والقطاعات المأجورة المتميزة (الياقات البيضاء)، وحتى بعض فئات الطبقات الفئات الأكثر ضعفاً على التوجه صوب بدائل استبدادية.
اليمين المتطرف الجديد نتيجةٌ معقدة لتفكك النسيج الاجتماعي الذي فرضته 40 عامًا من النيوليبرالية، ويأس القطاعات الاجتماعية المفقَرة في مواجهة تفاقم الأزمة منذ العام 2008، في ترابط مع (1) فشل اليمين «النيوليبرالي التقدمي» و«البديل» الذي مثلته الاشتراكية الديمقراطية (الليبرالية الاجتماعية و”التقدمية“ في الجنوب والشرق) في كبح الإفقار، وهشاشة العمالة، وانعدام الأمن في مواجهة الجريمة، و(2) الافتقار العام إلى بدائل ثورية شعبية تتيح مخرجًا على طريف نقيض جذريا.
يمكن أن تكون اليمين المتطرف خبيثًا بشكل خاص عندما يقدم سياسة «جرى تحديثها» بشأن الجندر والجنسانية، متبنيا التزاما جديدا لصالح تحرر المرأة والتسامح تجاه مجتمع الميم-عين، بينما يهاجم بعنف بعض الفئات الأكثر ضعفًا. الأشخاص المتحولون جنسياً هم الهدف الرئيس لليمين المتطرف، ولا سيما الجمهوريون الأمريكيون وبولسونارو وميلي، في حين تتعرض حقوق الوالدين وحقوق التبني للأزواج من نفس الجنس لهجمات منسقة، لا سيما من قبل حكومة ميلوني في إيطاليا. يجب أن تكون مقاومة هذه الهجمات جزءاً لا يتجزأ من التضامن ضد اليمين المتطرف.
هذا الوضع يضع الأممية الرابعة أمام مهمة النضال، على جميع الجبهات، ضد قوى اليمين المتطرف والسلطوية والفاشية الجديدة التقليدانية، و أيضًا ضد السياسات النيوليبرالية والرجعية التي ولّدت هذه القوى وتستمر في تشكيلها.
III /ردّ الشغيلةُ والقطاعات المضطهدة والشعوب العالم برمته بتعبئات. وماذا الآن؟
شهدنا، إبان هذا القرن، ما لا يقل عن ثلاث موجات من النضالات الديمقراطية والمناهضة للنيوليبرالية (في منعطف القرن، وفي العام 2011، وفي 2019-2020)، وحركة نسوية متجددة، والحركة المناهضة للعنصرية التي ظهرت في الولايات المتحدة، والعديد من النضالات من أجل العدالة المناخية عبر العالم. بيد أن هذه النضالات الهامة واجهت بشكل موضوعي ليس فقط الرأسمالية النيوليبرالية وحكوماتها، بل أيضاً معضلات إعادة التنظيم الهيكلي لعالم العمل.
تستعد الطبقة العاملة، بمعناها الواسع (الأجراء/ت) حالياً لمواجهة آثار الذكاء الاصطناعي (كما أبانت المقاومة إبان إضراب كتاب السيناريو والممثلين الأمريكيين). وهي لا تزال قوة حية وكبيرة –مجمعات صناعية كبرى تضم عشرات، بل مئات الآلاف من العمال في الصين وجنوب شرق آسيا. ومع ذلك، في ظل تراجع وزن الطبقة العاملة الصناعية الاجتماعي في معظم أنحاء العالم الرأسمالي المتقدم، لا تزال القطاعات المضطهدة والشباب وفئات الشغيلة الهشة الجديدة غير منظمة بشكل دائم، وتواجه عموماً صعوبة في الانضمام إلى حركة نقابية ضعيفة. وبنحو مواز، لا تلبي أنماط تنظيم النقابات التقليدية بشكل كاف حاجات الفئات الهشة الحالية. ومن جانبهم، يقاوم فلاحو أفريقيا وجنوب آسيا (الهند وباكستان) وأمريكا اللاتينية بشجاعة غزو الصناعة الزراعية الإمبريالية. وتقاوم الشعوب الأصلية، التي تمثل 10٪ من سكان العالم، تقدم رأس المال على أراضيها وتدافع عن الموارد المشتركة الأساسية للبشرية جمعاء. إن هزيمة الربيع العربي، والمأساة السورية، وتقدم الصهيونية التوسعي الراهن، ستؤخر و تزيد تأخير مقاومة شعوب الشرق الأوسط؛ وبرغم ذلك، شهدنا انتفاضة نساء وفتيات إيران البطولية.
بعد أزمة العام 2008، عادت تعبئات جماهيرية إلى الظهور في جميع أنحاء العالم: الربيع العربي، واحتلال وول ستريت، وبلازا ديل سول في مدريد، وتقسيم في اسطنبول، ويونيو 2013 في البرازيل، ونوي دوبو وسترات صفراء في فرنسا، والتعبئة في بوينس آيرس، وهونغ كونغ، وسانتياغو وبانكوك. وحدثت موجة انتفاضات وانفجارات ثانية بين العامين 2018 و2019، قطعتها الجائحة: التمرد ضد العنصرية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، مع وفاة جورج فلويد، وتعبئة النساء في العديد من مناطق العالم، والثورات ضد الأنظمة الاستبدادية كما في بيلاروسيا (2020)، والتعبئة الجماهيرية للفلاحين الهنود التي توجت بالنصر في العام 2021. وكان العام 2019 مطبوعا بمظاهرات وإضرابات وانتفاضات شعبية في أكثر من مائة بلد: في ست حالات، أُطيحت حكومات، وفي حالتين، تم تغيير تشكيلها بالكامل من خلال إبدال جميع الوزراء.
في أعقاب الجائحة، كانت أشهر المقاومة الثلاثة في فرنسا ضد إصلاح ماكرون لأنظمة التقاعد، والانتفاضة الشعبية لشغيلة الصين وطلابها، التي أسهمت في هزم سياسة ”صفر كوفيد“ القمعية للحزب الشيوعي الصيني، بارزة بشكل خاص. و تستمر في الولايات المتحدة عملية التنظيم النقابي والنضال في قطاعات الإنتاج الجديدة (ستاربكس، أمازون، فيديكس)، مع ظهور سيرورات جديدة بالقاعدة مناهضة للبيروقراطية وإضرابات شغيلة التعليم والصحة. وفي العامين 2022 و2023، برزت الإضرابات الكبيرة لكتاب السيناريو والممثلين في هوليوود، إلى جانب الإضراب التاريخي، والناجح حتى الآن، لشغيلة شركات صناعة السيارات الثلاث الكبرى في البلد.
بالطبع، ليس ميزان القوى الحالي مهينا بأي وجه ، كما لم يكن كذلك إبان الجائحة - وقد أدى مع ذلك إلى ظهور حركة حياة السود مهمة Black Lives Matter، التي كانت حاسمة في هزم ترامب في العام 2020، وإلى الإضراب الفرنسي ضد إصلاح أنظمة التقاعد - الأساسي لشرح انتعاش اليسار الفرنسي الانتخابي البارز في العام 2024. لا يمكن ان يحدو بنا التأكيد الصائب على أن موجة النضالات السابقة قد تراجعت، وعلى أن صعود اليمين المتطرف يمثل اليوم عدواً خطيراً وأساسياً، إلى استنتاج أن المضطهدين والمستغَلين في العالم قد هُزموا وسُحقوا على المدى الطويل. من ناحية أخرى، لا يعني قول إننا لم نهزم تاريخياً أننا نوجد في وضع هجومي أو ثوري. إذ أن ثمة، إلى جانب ”الهجومية“ والانطباعية الانهزامية، رهان واقعي على مقدرة المضطهدين والمستغَلين على مواصلة مقاومة رأس المال وشروره، بالنضال من أجل البقاء ومن أجل ظروف معيشية أفضل في خضم الحروب والاضطرابات المناخية وخطط التعديل، وإن كان ذلك بأشكال تنظيم جديدة وبصعوبات أكبر من ذي قبل.
IV /عصر حروب وتغيرات جيوسياسية سريعة. نحو إعادة تشكيل النظام العالمي
تهيمن المواجهة بين الولايات المتحدة، الإمبريالية المسيطرة، والصين، الإمبريالية الناشئة، على الوضع الجيوسياسي الدولي. يتميز هذا الصراع بترابط الطرفين الاقتصادي القوي، الموروث عن العولمة النيوليبرالية. العولمة كما عرفناها حتى العام 2008 لم تعد موجودة، ولكن نزع العولمة غير قائم. وتمثل الصراعات الجيوسياسية أحد أعراض هذه الأزمة الهيكلية، وهنا مرة أخرى، ندخل عصرا غير مسبوق.
الفوضى الجاري بناؤها تجعل العالم مفعما أكثر بالصراع والخطر. وقبل بضع سنوات، تفاقم عدم الاستقرار والفوضى الجيوسياسية الظاهرة مع إدارة ترامب 1.0 وتركيزها على الحرب الاقتصادية مع الصين. ومع ذلك، تمت قفزة نوعية أولى مع غزو روسيا بوتين لأوكرانيا في فبراير 2022، ثم قفزة ثانية مع الحرب التي أثارتها نزعة التوسع الإسرائيلية، بدعم صريح من الولايات المتحدة وبنحو متوار أكثر من الإمبريالية الأوروبية. وتفاقمت الأوضاع مع تعزيز حلف الناتو لمواجهة بوتين والدعم المالي والعسكري الأمريكي لنتنياهو في سعيه لإعادة رسم الحدود في الشرق الأوسط برمته. وهكذا، تحقق صناعة الحرب أرباحاً بمليارات الدولارات على حساب دماء مئات الآلاف من البشر.
برغم دورها في حلف شمال الأطلسي، وقيادتها ودعمها للحرب الإمبريالية الإسرائيلية، نشهد ضعفًا نسبيًا للقوة الأمريكية المهيمنة من منظور تاريخي - ولا شيء أخطر من هيمنة متنازع عليها - لأنها أصبحت الآن تواجه منافسين اقتصاديين وجيوسياسيين. تظهر إمبرياليات جديدة، مثل روسيا، أو تظهر بأشكال أقل عدوانية، مثل الصين. إنها عملية إعادة تشكيل مستمرة في سياق عالمي يتسم باضطراب شديد، دون توطد. مهما يكن من أمر، انتفت أحادية القطب بقيادة الولايات المتحدة (بعد انهيار الاتحاد السوفيتي). تسعى الهند إلى فرض نفسها قوةً إقليمية (أو بالأقل إمبريالية فرعية) بممارسة لعبة مزدوجة، إذ تحافظ على تحالف سياسي مع الولايات المتحدة وتنافس مع الصين، لكنها تقيم علاقات تعاون اقتصادي (النفط) وتكنولوجي (صناعة الحرب) مكثفة مع روسيا وتشارك في مجموعة بريكس.
4.1. تكاثر الحروب والتوترات الجيوسياسية.
نشهد انتشار الحروب بجميع أنواعها واحتدامها: حروب أهلية، وحروب بين إمبرياليات، وتوترات وحروب إمبريالية استعمارية (مثل حرب إسرائيل في جوارها). وتدق طبول الحرب في أوروبا ومناطق الشرق الأوسط التي لم تطلها بعد نزعة التوسع الإسرائيلية. وتحتد التوترات الجيوسياسية في شرق آسيا، وتنتهك المطالب الصينية في بحر الصين الجنوبي الحقوق البحرية لأمم أخرى. واستمرت التوترات العسكرية في شبه الجزيرة الكورية ومضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، وتفاقمت حتى. يبدو أن الصين لا ترغب أبدًا في حرب في هذه المناطق الثلاث. بيد أنه لا يمكن بالطبع استبعاد أن تؤدي أحداث غير متوقعة - منها تغير جذري في وضع الصين الداخلي - إلى توترات عسكرية مفرطة، وحتى إلى حرب إقليمية.
تسرع الصين تعزيز قوتها العسكرية بتطوير أسطولها البحري، وبالانتشار في الفضاء لمنافسة الولايات المتحدة واليابان. وقد استفزت عمداً سفناً فلبينية، بوجه خاص، في سياسة حذر غير مباشر من الولايات المتحدة.
تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على سيطرتها العسكرية على هذه المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية، و إلى احتواء الصين. اقتربت حكومة ماركوس الابن الفلبينية من الولايات المتحدة في بتراجع طفيف عن سياسة الرئيس دوتيرتي. إن نزع السلاح في بحر الصين الجنوبي أمر عاجل. وبما أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تعزيز وجودها العسكري في شرق آسيا، استأنفت اليابان جزئياً ما كان لها من دور عسكري ، وزادت بسرعة إنفاقها العسكري، وعززت تسلحها، وعسكرت أرخبيل جزر نانسي، من جنوب غرب كيوشو إلى شمال تايوان، مشجعة تكامل القوات المسلحة اليابانية والأمريكية. هذا الوضع ناتج عن ضغط الإمبريالية الأمريكية ورغبة الإمبريالية اليابانية في امتلاك قوة عسكرية أكثر بأساً للدفاع عن مصالحها في شرق وجنوب شرق آسيا.
منذ مطلع العام 2024، عادت التوترات بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية لتشتد بعد فترة حوار. ألغت كوريا الشمالية اتفاقية 2018 بين الكوريتين الرامية إلى تهدئة التوترات، وفي أكتوبر 2024، عدلت دستورها لتصنف الجنوب دولةً معادية. تتبنى حكومتا كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، بدعم من الصين والولايات المتحدة، موقفًا متشددًا وميالا إلى الصراع.
باتت التهديدات النووية أكثر واقعية. توجد أربع بؤر نووية محددة. واحدة في الشرق الأوسط: إسرائيل. وثلاثة في أوراسيا: أوكرانيا وروسيا في أوروبا، والهند وباكستان، وشبه الجزيرة الكورية. الأخيرة هي الوحيدة النشطة. يقوم النظام الكوري الشمالي باختبار وإطلاق صواريخ بانتظام في منطقة توجد فيها قوة جوية تابعة للبحرية الأمريكية وأكبر مجمع للقواعد الأمريكية في الخارج (في اليابان، ولا سيما في جزيرة أوكيناوا).
4.2. الولايات المتحدة: سعي الهيمنة المأزومة إلى إعادة تأكيد وجودها
لم يغير ظهور منافسين طبيعة الولايات المتحدة، إذ هي البلد الأغنى والأقوى عسكريًا، المزود بقوة حربية غير مسبوقة وبالبرجوازية الأكثر اقتناعًا بـ«رسالتها التاريخية» المتمثلة في السيطرة على الكوكب بأي ثمن، وبالتالي شن الحرب من أجل استمرار هيمنتها. في الواقع، لا يزال العم سام صاحب الكلمة الفصل في «الجماعة» الإمبريالية الغربية. الواقع أن الولايات المتحدة، برغم تفوقها بالإكراه، تواجه بنحو غير مسبوق (على الأقل منذ حرب فيتنام) مشكلة خطيرة، ألا وهي أن الهيمنة الإمبريالية، كأي هيمنة أخرى، لا يمكن أن تستمر إلا إذا أقنعت حلفاءها والرأي العام في بلدها. تواجه الولايات المتحدة مشاكل خطيرة تتعلق بشرعيتها الخارجية، ولكن الأشد خطورة هو شرعيتها الداخلية، وهي عناصر لم تكن قائمة في الفترة السابقة من ”الأحادية القطبية“ المزعومة و”الحرب على الإرهاب“ في سنوات 1990. وباتت نخبتها الاقتصادية والبيروقراطية والسياسية أكثر انقسامًا من أي وقت مضى حول مشروع الهيمنة الداخلية. ويتعين على رأس المال الأمريكي مواجهة البلبلة الناجمة عن تفكيك سلاسل القيمة التي ربطت الاقتصاد الأمريكي بشكل عميق باقتصاد الصين على مدى الأربعين سنة الماضية.
فضلا عن تراجعها الاقتصادي النسبي، تمثل الولايات المتحدة مجتمعا ونظاما ديمقراطيا برجوازيا في أزمة مفتوحة منذ أن سيطر حزب الشاي وترامب على الحزب الجمهوري من داخل – مع ادعاء تغيير قواعد أقدم ديمقراطية برجوازية في العالم – وتفاقمَ التقاطب. وتميل هذه الأزمة إلى الاستفحال، حيث اسهم وصول ترامب إلى البيت الأبيض في إضعاف أمريكا القوية ذات يوم، والتي ستواجه صراعات بين السلطة التنفيذية والكونغرس والقضاء، ما قد يعرض أهدافها العالمية للخطر.
تسعى الولايات المتحدة إلى فصل اقتصادها عن اقتصاد الصين، لكن يستحيل قطع سلاسل التوريد العالمية التي تؤدي فيها الصين دوراً رئيسياً، ما خلا قطاع التكنولوجيا المتطورة. لذا، لا خيار للولايات المتحدة سوى مواصلة التنافس (وفرض العقوبات) في قطاع التكنولوجيا الراقية وخوض تنافس عسكري مع الصين، مع البقاء في ترابط اقتصادي معها.
4.3. طبيعة الصين اليوم
”الوثبة الكبرى“ التي حققتها الصين خلال الثلاثين عامًا الماضية من طبيعة رأسمالية. إن الإمبريالية الصينية البازغة، وارثة ثورة اجتماعية كبرى وتحول نحو إعادة الرأسمالية منذ الثمانينيات، وهي عوامل أساسية في إعادة تشكيل العالم على أسس نيوليبرالية (بتعاون مع الولايات المتحدة وحلفائها)، تتميز بخصائص محددة، كأي إمبريالية أخرى. تشغل رأسمالية دولانية ممركزة حول الحزب الشيوعي الصيني والقوات المسلحة (جيش التحرير الشعبي)، مكانة مركزية: رأسمالية تنموية ذات سياسات تنموية صريحة، حيث معظم الشركات الكبرى هي شركات مشتركة بين شركات عامة أو خاضعة لتحكم الدولة وشركات خاصة.
لا يتحكم الحزب-الدولة على الاقتصاد بأكمله. لا يوجد تخطيط مركزي، كالذي كان في الاتحاد السوفيتي. يجب أن يفي النموذج الاقتصادي الرأسمالي الصيني أيضًا بمتطلبات قوى السوق، التي تحدد عمل الحكومة. بعبارة أخرى، تؤثر هذه القوى على السياسات المخططة والمنفذة. وبالتالي، يتحقق التخطيط من تضافر سياسات التخطيط التي تضعها الدولة ومصالح السوق وأعماله، بما في ذلك السوق الحرة على الصعيدين الوطني والدولي، حتى حركاته الخارجة عن تحكم الدولة.
لا تزال إمبريالية الصين الناشئة، بطبيعة الحال، في طور تكوين. منذ مستهل القرن، زادت صادرات رأس المال الصيني بشكل كبير حتى استقرت في العام 2016. في المقابل، انخفضت الاستثمارات المباشرة في الاقتصاد الصيني منذ العام 2020 بسبب عدم اليقين الجيوسياسي. وبالتالي، أصبحت الصين منذ العام 2022 مصدراً صافياً لرأس المال (تصدر رأس المال أكثر مما تستورده). اكتسبت الشركات الصينية حصصًا كبيرة في شركات في قطاعات الطاقة والتعدين والبنية التحتية في بلدان الاستعمار الجديد (جنوب شرق آسيا ووسط آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية)، وأصبح التنين الصيني أكبر مودع براءات اختراع في العالم. وهي تستثمر بشكل متزايد في التسلح وتحذر بشدة من وجود خط (أو خطوط) – تايوان وبحر الصين الجنوبي – غير مسموح للدول المنافسة والأضعف تجاوزها.
لم تغزُ الصين بعد أو تستعمر ”دولة أخرى“ على النمط الأوروبي أو الأمريكي، برغم من أن سياستها تجاه شينجيانغ سياسة استعمارية. اليوم، الصين هي القوة غير الغربية الرئيسة التي تستغل ثروات أفريقيا. يمتلك الدائنون الصينيون 12٪ من ديون أفريقيا الخارجية. وباتت الصين الشريك التجاري الأول لجميع دول أمريكا اللاتينية تقريبًا ومستثمر رئيس (في قطاع الطاقة). وهي تستخدم قوتها الاقتصادية لفرض تجارة غير متكافئة من خلال قروض مضمونة بموارد طبيعية أو اتفاقيات تجارية أو استثمارات في الصناعات الاستخراجية والبنية التحتية.
4.4. روسيا الإمبريالية
روسيا اليوم هي الدولة المتحدرة من التدمير الكثيف لأسس الاتحاد السوفيتي السابق و إعادة هيكلته بنحو فوضوي وغير ممركز، على أساس سيطرة البيروقراطيين الذين أصبحوا أوليغاركيين على الشركات القديمة والجديدة. في مطلع القرن، وضع بوتين ومجموعته، المنتمون إلى قطاعات التجسس والأجهزة القمعية القديمة، مشروع إعادة مركزة الرأسمالية الروسية، مستغلين العلاقات البونابارتية بين الأوليغاركيين ونسخة القرن الحادي والعشرين من الأيديولوجية القومية الإمبريالية القديمة لروسيا الكبرى. أصبحت هذه الأيديولوجية الأداة الرئيسة لإعادة توطيد الرأسمالية الروسية في مواجهة الإمبرياليات الأخرى وتكثيف قمع شعوب الاتحاد، بما فيها الشعب الروسي. قد تتطور طبيعة نظام بوتين فائقة القمع نحو الفاشية.
كان غزو روسيا لأوكرانيا قيد التحضير منذ سنوات، مندرجا في خطة واسعة تروم استعادة الإمبراطورية الروسية داخل حدود الاتحاد السوفيتي الستاليني، لكن مع الإمبراطورية القيصرية مرجعاً. وبنظر لبوتين، لم تكن أوكرانيا سوى حالة شاذة تُعزى إلى لينين. يرى بوتين أنه كان يجب إعادة أوكرانيا إلى الحضن الروسي. وقد مثل الاحتلال العسكري لدونباس ولوهانسك وشبه جزيرة القرم في العام 2014 الطور الأولى من الغزو. وكان مفترضا أن تكون «العملية الخاصة» الحالية سريعة وتستمر حتى كييف، حيث ترغب روسيا في إقامة حكومة تابعة لها. لكن حجم المقاومة الأوكرانية، غير المتوقع من بوتين ولا من الغرب، أوقف آلة بوتين الحربية.
4.5. أوروبا: القارة العجوز في حالة انحدار وصراع
تؤثر الأوضاع العالمية الجديدة بشدة على الاتحاد الأوروبي وعلى أوروبا برمتها. فالقارة ترتفع حرارتها بمعدل ضعف سائر الكوكب، مع أمطار غزيرة وموجات حر بحرية، الخ. أثرت الأزمة الاقتصادية بشدة على المنطقة، حيث بلغ نمو الإنتاجية 10٪ فقط منذ العام 2002، مقابل 43٪ في الولايات المتحدة، وأزمة عميقة في صناعة السيارات. وباتت الحركة العمالية في وضع صعب للغاية، لا سيما في إسبانيا وإيطاليا، حيث تعرض اليسار لانتكاسة كبيرة بعد أن أدار نظامًا لم يعد يتيح ما يمكن إعادة توزيعه.
التراجع الاقتصادي النسبي، وإضعاف الطبقة العاملة الهيكلي، إلى جانب التجارب السيئة مع الحكومات المسماة يسارية، ونمو الهجرة الناجم عن الحروب وتغير المناخ والتدخلات الإمبريالية، كلها عناصر تفسر صعود اليمين المتطرف في معظم البلدان، حتى في بلدان مثل البرتغال وألمانيا والدول الاسكندينافية، التي بدت في منأى حتى الآن. يمثل اليمين المتطرف تهديدًا حقيقيًا متعاظما.
إن بناء قوة سياسية مستقلة للطبقة العاملة سيرورة بطيئة، متباينة الوتيرة بحسب البلدان. ومع ذلك، لا تزال الطبقة العاملة تتمتع بقدرة كبيرة على التدخل، كما رأينا في فرنسا مع حركة التقاعد والجبهة الشعبية الجديدة، أو في بريطانيا مع رد الفعل على أعمال الشغب العنصرية وضد الإبادة الجماعية في فلسطين.
4.6. عدم استقرار عام
تقتل القنابل والمسَيَّرات في فلسطين ولبنان والسودان واليمن وشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. تُضاف إلى ذلك الحروب الأهلية الكامنة، كما يتضح من صراع دول أمريكا اللاتينية المستمر ضد المنظمات الإجرامية، وبالتالي ضد السكان، كما هو الحال في المكسيك والبرازيل والإكوادور.
كان انهيار نظام بشار الأسد المقيت حدثا كبيرا في الشرق الأوسط المضطرب والمهدد. فقد انتهى نصف قرن من الدكتاتورية الدموية. لم يُسقط النظام بتحركات جماهيرية، بل بعملية عسكرية قادتها فصيلة إسلامية جذرية. بيد أن تطلعات شعب سوريا إلى الحرية وتراكم المقاومة منذ بداية الانتفاضة السورية أدت دوراً مهماً. كان نهاية عهد الأسد مصدر ارتياح ملايين السوريين/ت. وأخيراً، أصبح بإمكان الحركات الاجتماعية والنسوية والديمقراطية تنظيم نفسها من القاعدة. لكن هذا الأمل يرافقه حذر عميق من طابع الجماعة الحاكمة الرجعي، هيئة تحرير الشام.
كما تتدخل تركيا،بواسطة الجيش الوطني السوري، بطموحات شبه إمبريالية: الاستفادة من إعادة اعمار البلد، ولكن بالمقام الأول إنهاء الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا وشرقها، في منطقة روج آفا، على حدودها. ومن المفارقات أن الأكراد السوريين، بدعم من واشنطن وتل أبيب (دفاعا عن مصالحهما)، يسعون جاهدين للحفاظ على عملية تقرير مصيرهم وهياكلهم الإدارية بكل الوسائل، الدبلوماسية والعسكرية على حد سواء.
في جنوب شرق آسيا، تواصل الهند خصومتها النووية مع باكستان. وتزيد كوريا الشمالية اعتمادها العسكري والسياسي والاقتصادي على روسيا، حيث تزود القوات الروسية بالسلاح والذخيرة وتنشر قواتها في ساحات القتال في أوكرانيا. وفي المقابل، تتعاون روسيا مع كوريا الشمالية من خلال نقل التكنولوجيا لتطوير الأسلحة النووية.
في ميانمار، تتصاعد المقاومة ضد المجلس العسكري، وتحقق تقدمًا عسكريًا ودبلوماسيًا ملموسًا. ومن الممكن أن يُمنى المجلس بهزيمة عسكرية. وتتبنى الصين، برغم دعمها الحاسم له بعد العام 2021، نهجًا براغماتيًا. وعند عجز المجلس العسكري عن ضمان حماية استثمارات الصين، فستكون بكين على استعداد لمحاورة سلطة قادرة على ذلك.
يدفع وضع الصراع هذا جغرافيا الاقتصاد وجغرافيا السياسة في أفريقيا إلى أمام، حيث تتنافس روسيا اقتصادياً وعسكرياً مع فرنسا والولايات المتحدة، لا سيما في المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب أفريقيا. لهذا السبب، تواصل الصين سعيها لتعزيز نفوذها الاقتصادي في جميع أنحاء القارة الأفريقية وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
لا تزال البلدان شبه المستعمرة، بعد أربعين عامًا من العولمة النيوليبرالية، تعاني من مستويات أعلى من عدم المساواة، والجوع، وغياب أنظمة حماية اجتماعية، والحكم الاستبدادي، وسلب الملكية، والصراعات الاجتماعية الدامية. ومع ذلك، أدت العولمة المالية والإنتاجية والتجارية والثقافية أيضًا إلى حدوث مساواة ضارة مع الشمال فيما يخص المشكلات والتقاطب السياسي: صعود اليمين المتطرف (دوتيرتي، بولسوناريو، مودي، ميلي)، ونمو قوة المنظمات الإجرامية، والمآسي المناخية (كما في الهند وبنغلاديش والفلبين والبرازيل)، وأزمات الأنظمة الدولانية والسياسية، والحروب الأهلية (كما في ميانمار والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وهايتي) والحروب بين البلدان.
كانت أمريكا الجنوبية، منذ مستهل القرن، ساحة لجملة نضالات واحتجاجات جماهيرية، وانتفاضات شعبية، وانتخاب حكومات إصلاحية ناتجة عن هذه النضالات وعن تقاطب سياسي حاد. ففي الواقع، تتكاثر الاستخراجية الجديدة، والاستغلال الوحشي للطبيعة، والتفكك الاجتماعي، والتفاوتات، والعنف اليومي، والعسكرة، والأزمات السياسية، ما يغذي أيضاً بدائل اليمين المتطرف. و اجتاحت موجة تعبئة جديدة بلدان الأنديز من العام 2018 إلى العام 2022،. وتضافرت المقاومة والانفجارات والصراعات الاجتماعية، التي جمعت مطالب ديمقراطية وأخرى اقتصادية من جهة، مع استمرار اليمين المتطرف كعدو رئيسي من جهة أخرى. وغالبًا ما جرى توجيه تلك النضالات بواسطة الانتخابات لصالح الحكومات المسماة ”تقدمية“ من الموجة الثانية.
أفريقيا، المنطقة البالغ عدد سكانها 1.2 مليار نسمة، ولا سيما أفريقيا جنوب الصحراء، هي ضحية الحصة ”المتفاوتة“ من التطور الرأسمالي المتفاوت والمركب. ويقدر البنك العالمي أن 87٪ من الفقراء المُدقعين في العالم سيعيشون في أفريقيا بحلول العام 2030. ليست أفريقيا مسؤولة سوى عن 4٪ من انبعاثات الكربون العالمية، لكن 70% من البلدان الأكثر عرضة للكوارث المناخية تقع في أفريقيا. أدى الجفاف المستمر أربع سنوات في القرن الأفريقي إلى نزوح 2.5 مليون شخص. وتشهد القارة موجة صراعات، يرتبط كثير منها باكتشافات نفط وغاز جديدة، وبسباق للسيطرة على المعادن النادرة والمعادن الحيوية الأخرى (الكوبالت والنحاس والليثيوم والبلاتين) اللازمة للتكنولوجيات منخفضة الكربون التي يحتاجها ”الاقتصاد الأخضر“ للبلدان الإمبريالية.
تؤدي الولايات المتحدة والصين وروسيا، إلى جانب القوى الاستعمارية القديمة، دوراً هاماً في استخراج الثروات بالاستغلال المفرط وتأجيج الصراعات في القارة. وتستمر الحروب الإقليمية والانقلابات والحروب الأهلية في تكييف اقتصادها السياسي. وتستغل روسيا القتال الدائر في عدة بلدان أفريقية لتحدّي النفوذ الغربي وتعزيز نفوذها. أضعفت جملة انقلابات في غرب أفريقيا سلطة الاستعمار الفرنسي الجديد، وتوجهت الأنظمة الجديدة إلى منافسي واشنطن للحصول على المساعدة العسكرية والمالية.
تجعل معاهدة بيليندابا، التي دخلت حيز التنفيذ في العام 2009، معظم أفريقيا منطقة خالية من الأسلحة النووية، بشكل قانوني ومعترف به. وقد تم مؤخراً ضم أرخبيل شاغوس، بما في ذلك جزيرة دييغو غارسيا (DG)، إلى جزر موريشيوس، برغم أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بقاعدة عسكرية هناك. لذلك، يجب على الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) مراقبة جزيرة دييغو غارسيا (التي وقعت اتفاقيات مع أعضاء المعاهدة) لضمان عدم وجود أسلحة نووية في الطائرات الأمريكية، سواء كانت مخزنة أو عابرة. وينبغي أن تكون اللجنة الأفريقية للطاقة النووية مسؤولة عن ذلك أيضًا، ولكن يجب أن يتم ذلك في جميع الأحوال، ويجب أن تقبل حكومة موريشيوس. ذلك
V / ظهور ”الاصطفافية“
للأسف، شهدنا في السنوات الأخيرة تنامي أيديولوجية "الاصطفافية"، وامتدادها إلى فئات جديدة، تعبيرا عن السعي إلى بدائل للرأسمالية. الاصطفافية تعبير نابع من فكرة وجود "معسكرين" متصارعين على الساحة الدولية إبان الحرب الباردة، وتستند إلى فكرة أن أي عدو أو خصم للولايات المتحدة (عدو عدوي هو صديقي) يستحق التحالف في مواجهة ”معسكر“ الإمبريالية المهيمنة. وهكذا، يدافعون عن أنظمة بشار الأسد في سوريا، وبوتين في روسيا، وأورتيغا في نيكاراغوا، ومادورو في فنزويلا. ولا يعتبر بعض أنصار الاصطفافية الصين، المتصارعة بحدة مع الولايات المتحدة، أفضل من الخصم، بل حتى نموذجا للاشتراكية.
تستند هذه النزعة الخطيرة إلى أفكار مسبقة وتشخيصات خاطئة للعالم، الذي لم يعد ثنائي القطب (على أي حال، لا يضمن ”تعدد الأقطاب“أي شيء إيجابي). وهي تتعزز لأنه من الأسهل بكثير تصديق البدائل التي تمثلها دول حقيقية (حتى لو لم تكن بدائل) عوض مواجهة تحدي بنائها من القاعدة. وفضلا عن ذلك، تحظى الصين بقوة ناعمة (قدرة مالية ودعائية) قوية لإقناع المناضلين والمثقفين التقدميين في جميع أنحاء العالم بمكانتها كـ ”نموذج بديل“. تقدر العديد من المنظمات المسماة شيوعية، وهي وريثة بقايا الأحزاب الشيوعية القديمة، هذه الأيديولوجية «الاصطفافية» الضارة. ومن المفارقات أن الاصطفافية تحرز تقدما كذلك بين قطاعات الشباب في أوروبا وأمريكا اللاتينية (على الأقل). وفي بعض البلدان، تتبنى هذه الأيديولوجية أيضاً منظمات يسارية منتمية للتراث المضاد للستالينية. إن الوضع يفرض علينا بذل جهد منظم ومستمر في مجال الدعاوة والتثقيف واتخاذ إجراءات ملموسة ومحددة لمساندة ضحايا التفكير الاصطفافي، مثل شعوب أوكرانيا وفنزويلا ونيكاراغوا.
VI / مطالب عصرنا المركزية
في مواجهة اليمين المتطرف في الشمال والجنوب، تظل سياسات وحدة المستغلين والمضطهدين، بما فيها الجبهة الموحدة، عنصراً أساسياً في عُدتنا، دون تفاوض أو قبول فقدان استقلالنا السياسي أو استقلال الحركات الاجتماعية. وكما في الماضي، يجب أن تركز هذه المعركة ضد حركات اليمين المتطرف على الدفاع عن الحقوق الديمقراطية، مثل الحق في التظاهر والإضراب، والحق في التصويت وحرية التعبير.
ومن الملحّ الدفاع عن حقوق الأشخاص والمناضلين ضحايا العنصرية والوصم، بما يتجاوز الأشخاص المستهدفين، بالاعتماد على التعبئة الشعبية – كما حدث خلال المظاهرات ضد العنصرية في إنجلترا في العام 2024 – وليس فقط على الهياكل القانونية، التي غالباً ما تكون قاصرة في لحظات الحاسمة دفاعا اعن دولة القانون. يقتضي فهم الجذور العميقة لتقدم اليمين المتطرف ، من ناحية، سياسات جبهة موحدة لمواجهته في الانتخابات والنضالات، ومن ناحية أخرى، دعم المطالب الانتقالية و الاشتراكية الإيكولوجية، بما هي المطالب الوحيدة القادرة على إنزال هزيمة إستراتيجية بالرأسمالية.
تتمثل سياستنا، في الأنظمة الاستبدادية (مثل الصين وروسيا وبيلاروسيا ونيكاراغوا وسوريا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران وغيرها من الخلافة) أو في ظل حكومات منتخبة ولكن استبدادية (مثل تركيا والفلبين والأرجنتين)، في معارضة مباشرة للحاكمين وفي نضال لا هوادة فيه من أجل الحقوق الديمقراطية. نحن نساند دون شرط المتمردين على الديكتاتوريات، مثل تلك الموجودة في ميانمار واليمن.
وبوجه التفاوتات المتنامية بين البلدان التي يفرضها النظام الرأسمالي الإمبريالي، وبوجه الحروب والصراعات الحمائية التي تؤدي بحياة الملايين، تعارض الأممية الرابعة دون شرط كل أشكال الإمبريالية والاستعمار.
نحن ندافع عن حق تقرير المصير والاستقلال الكامل للأقاليم السبعة عشر التي لا تزال مستعمرة، مثل بورتوريكو، وساموا الأمريكية، والصحراء الغربية، وغُيانا الفرنسية، ومارتينيك، وكاليدونيا الجديدة، وجزر مالوين. نحن ندافع عن عالم لا تضطهد فيه أي دولة أو جماعة عرقية حقوق الآخرين أو تقيدها. السلام الذي نقترحه هو سلام مساواةٍ ومناهضةٍ للاستعمار.
في هذا السياق، تكتسي مبادرة تنظيم مؤتمر واسع النطاق في أقرب وقت ممكن للمناضلين/ت ضد الفاشية والإمبريالية أهمية قصوى بنظر الأممية الرابعة. يجب أن تكون مساندة هذه الفكرة وتعزيزها بالعمل على تحويلها إلى واقع ملموس بواسطة مؤتمرات إقليمية أو قارية تمهيدية جزءًا من أولويات عملنا في جميع القارات.
نحن نناضل من أجل تفكيك جميع الكتل العسكرية: الناتو، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، و معاهدة أوكوس AUKUS(استراليا و المملكة المتحدة و الولايات المتحدة). و نعارض أي منطق لتقسيم ”مناطق النفوذ“ على حساب الشعوب، وأي شروط نيوليبرالية وسياسية للمساعدات الممنوحة. ونعارض الاستخدام الوقح للحرب في أوكرانيا لزيادة الميزانيات العسكرية، كما يجري في أوروبا.
نشجب الابتزاز النووي. ونواصل النضال من أجل نزع السلاح العالمي، والأسلحة النووية والكيميائية، ومن أجل سلام عالمي لا تفرض فيه دولة على أخرى أو تغزوها أو تقمعها، أي سلام بدون مستعمرين أو مقابر للشعوب المستعمرة. ويجب أن تكون مسألة إعادة التسلح، والسباق الجديد للتسلح، والطاقة النووية جزءًا لا يتجزأ من أنشطة الحركات السلمية في العالم برمته.
نحن نعارض بشدة الأيديولوجية الاصطفافية التي تؤدي إلى اعتبار الصين وروسيا «معسكر حلفاء» للمستغَلين والمضطهدين ضد الولايات المتحدة، في تكرار سخيف لعصر المواجهة في عهد الاتحاد السوفيتي. إن انتشار هذه الرؤية المشوهة للواقع يفرض علينا خوض معركة أيديولوجية وسياسية شديدة ضد الاصطفافية.
في أفريقيا، نرفض الخطاب الإمبريالي الغربي الذي يسعى، تحت ذريعة إعادة النظام الدستوري، إلى دعم التدخل العسكري للحفاظ على مصالحه. نناضل من أجل انسحاب القوات الفرنسية التام من المنطقة برمتها، وإغلاق القاعدة العسكرية الأمريكية في دييغو غارسيا في جزر شاغوس التابعة لموريشيوس، والقواعد الأمريكية والصينية في جيبوتي. نناضل من أجل إنهاء الحرب الأهلية في السودان: نرفض تدخل الإمارات العربية المتحدة، التي سلحت إحدى الفصائل العسكرية المتحاربة. ونطالب بانسحاب قوات مجموعة فاغنر. ونؤيد جميع الجهود الرامية إلى تحقيق سيادة الشعوب السياسية والاقتصادية صوب حركة جديدة مناهضة للنظام من أجل وحدة بلدان أفريقيا وشعوبها.
إن الحكومات المسماة ”تقدمية“ في أمريكا اللاتينية، برغم تباينها في التكوين والأصل والقاعدة الاجتماعية، حكومات توافق طبقي. إنها ليست حكوماتنا، ولا حكومات المستغلين والمضطهدين. نحن لا نشارك فيها، ولا ندين لها بأي دعم غير مشروط. (لا نقصد حالات استثنائية، مثل فنزويلا وبوليفيا في سنوات 2000، حيث كانت البرجوازية غائبة وحيث حدثت مواجهات شديدة مع الإمبريالية ونخبها الاقتصادية بسبب درجة تعبئة الشغيلة وتنظيمهم). نحن ندافع عن النوع الأول من الحكومات ضد هجمات اليمين المتطرف، ونؤيد، عند الاقتضاء، تدابيرها التقدمية في المجالات الديمقراطية والاجتماعية والبيئية والمالية. وستختلف التكتيكات الملموسة تجاه كل منها حسب ميزان القوى، وتكوينها، ودرجة «تقدميتها»، ومستوى ثقة الأغلبية الكادحة فيها. وفي السياق الراهن، بوجه تقدم اليمين المتطرف في العالم، إلى جانب تعزيز أفضل أشكال النضال ضد الفاشية، من خلال الجبهات المناهضة للفاشية ووحدة العمل مع ممثليها داخل الحركات، نربط دعمنا للتدابير الحكومية التقدمية بمطلب أن تعمل هذه التدابير لصالح الشغيلة والمضطهدين وأن تحقق التقدم. في هذا السياق، ندعم النضالات ضد إجراءاتها النيوليبرالية والافتراسية. في مواجهة أي تنويع تكتيكي، لا غنى عن الحفاظ على استقلالنا عنها وعن الحركات والأحزاب التي نعمل في إطارها.
نناضل من أجل تلبية المطالب الأساسية مثل الرعاية الصحية الشاملة والمجانية، والبنية التحتية الصحية التي تضمنها الدولة، والسكن اللائق، والعمل اللائق، والأجور ومعاشات التقاعد، والإعانات لمن لا يستطيعون العمل، والحصول على الماء والطاقة بأسعار منخفضة.
ندافع عن حق جميع النساء (والرجال) المعنيين في الحصول على أجر مقابل العمل في مجال الرعاية (للأطفال أو كبار السن أو المرضى)، بضمان من السياسات العامة. نناضل من أجل الحق في تقرير الإنجاب، والحق في الإجهاض وجميع وسائل منع الحمل، والتربية الجنسية على جميع المستويات، ودور الحضانة العامة الجيدة، والمدارس الجيدة بدوام كامل، والمساواة في الأجور وفرص العمل والدخل بين الرجال والنساء.
نناهض العنصرية الهيكلية التي تميز ضد السود والشعوب الأصلية وجميع الأقليات العرقية، لا سيما عندما يكونون مهاجرين في الشمال، نقترح ونكافح من أجل سياسات مناوئة للميز، وتعويضات عن العبودية وسرقة الأراضي، فضلاً عن التمييز الإيجابي. ونساند جميع المهاجرين ضد كره الأجانب وسياسات الترحيل. ونناضل من أجل إزالة جميع الجدران بين البلدان والشعوب.
نناهض رُهاب المثلية الجنسية ورُهاب المتحولين جنسياً المستهدفين مجتمع الميم-عين في جميع أنحاء العالم، ونرفع أصواتنا من أجل الحق المطلق في التصرف بأجسادنا كما نشاء. ومن أجل المواطنة الكاملة وحقوق الأزواج المثليين والمثليات وغير الثنائيين، مع إمكانية الزواج والإنجاب والتبني. نحن ندافع عن حقوق المتحولين جنسياً، ونكافح العنف ضدهم ونعمل على دمجهم بشكل تام في الحياة الاجتماعية.
يجب أن تتحد كل هذه النضالات من أجل هزيمة الفاشية الجديدة، وإطاحة أنظمة الاستغلال الاضطهاد، والمواجهة مع الإمبريالية والاستعمار والرأسمالية بشكل عام.
تتمثل إحدى مهامنا الرئيسية في هذه المرحلة في تشجيع النضالات الاجتماعية والبيئية ومساندتها، مع ضمان أن تكون المطالب البيئية المناهضة للرأسمالية مطالب جميع القطاعات ، شغيلةً ومضطهدين. قوة حركات المضطهدين والمستغلين على هذا الكوكب هي وحدها قادرة على مواجهة الانهيار المناخي الجاري ودفع البشرية نحو بديل اشتراكي إيكولوجي ، كما هو موضح في بياننا.
تناضل الأممية الرابعة من أجل عالم لا تضطهد فيه أي دولة الآخرين ولا تغزوهم أو تقمعهم، حيث السلام بين الأنداد ممكن، في احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها. نناضل من أجل عالم متحرر من الاستعمار، بيئي واشتراكي ايكولوجي، حيث يتيح هزن الرأسمالية ومنطقها للجميع بأن يكونوا متساوين مع اختلافاتهم. نناضل من أجل عالم نسوي، من جميع الأعراق والألوان، ومن جميع الميول والهويات الجنسية، ومن جميع المعتقدات وجميع أشكال الحياة البشرية، في تكافل وتوازن مع الطبيعة.
28 فبراير 2025