مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من العقاب

في ليلة 13 إلى 14 نيسان/أبريل، أطلق النظام الإيراني عملية “الوعد الصادق” العسكرية التي استتبعت إطلاق أكثر من 300 طائرة مُسَيِّرة وصاروخ، رداً على الهجوم الإسرائيلي على ملحق السفارة الإيرانية في دمشق في 1 نيسان/أبريل 2024، والذي أسفر عن مقتل سبعة من عناصر الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، من بينهم قائد فيلق القدس للمشرق العربي، محمد رضا زاهدي، و16 شخصاً في المجموع.
وفي أعقاب هذا الهجوم، رد جيش الاحتلال الإسرائيلي بعملية عسكرية أدت إلى انفجارات في قاعدة جوية عسكرية في محافظة أصفهان الإيرانية، وهجمات في جنوب سوريا، بالقرب من موقع رادار للجيش السوري. ما هي الديناميات التي أدت إلى هذا الارتفاع غير المسبوق في التوترات الإقليمية؟
***
ما هي أهداف الهجوم الإيراني على إسرائيل؟
أشاد ممثلو النظام الإيراني والحرس الثوري الإيراني بالعملية العسكرية “الوعد الصادق” باعتبارها انتصارًا وطنيًا. وبثت وسائل الإعلام الرسمية صورًا للحشود المحتفلة في الشوارع. ووصف الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي عملية “الوعد الصادق” بأنها “درس للعدو الصهيوني”، بينما قال القائد العام للحرس الثوري حسين سلامي إنها تهدف إلى خلق “معادلة جديدة مع إسرائيل”.
من جانبها، ذكرت البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة أن هذه “العملية العسكرية كانت رداً على عدوان النظام الصهيوني على مقراتنا الدبلوماسية في دمشق” وأنها “نفذت بناء على المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بالدفاع عن النفس”. وحذّر المجلس الأعلى للأمن الإيراني في بيانه من أن أي إجراء إسرائيلي آخر ضد إيران سيواجه “رداً بعشرة أضعاف على الأقل”.
كانت العملية العسكرية الإيرانية تهدف إلى غمر الدفاعات الإسرائيلية وتدمير البنية التحتية لقاعدة نيفاتيم الجوية الرئيسية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي تضم أسطولها من الطائرات المقاتلة من طراز F-35. ومع ذلك، لم تتعرض القاعدة إلا لأضرار طفيفة، في حين أن 99% من القذائف التي أطلقتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية دمرتها دولة الاحتلال الإسرائيلي بدعم من القوات المسلحة الأمريكية والفرنسية والبريطانية والأردنية. ولم تخترق أي من الطائرات بدون طيار الـ170 المجال الجوي الإسرائيلي، وتم إسقاط 25 من أصل 30 صاروخ كروز بواسطة أنظمة الدفاع الجوي قبل عبور حدود البلاد. وفي الوقت نفسه، فإن حوالي 50% من الصواريخ الباليستية التي أطلقتها إيران فشلت في الإطلاق أو تحطمت قبل أن تصل إلى هدفها، وفقًا لصحيفة وول ستريت جورنال.
مع أنها تهاجم دولة إسرائيل بشكل مباشر على أراضيها للمرة الأولى منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، يمكن مقارنة هذه العملية العسكرية إلى حد ما بالرد الإيراني على اغتيال القوات المسلحة الأمريكية لقاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، في كانون الثاني/ يناير 2020 في العراق. وقد تمثل هذا الرد في إطلاق نحو عشرين صاروخًا على قاعدتي عين الأسد في محافظة الأنبار العراقية وأربيل في كردستان العراق، اللتين تأويان أكثر من خمسة آلاف جندي أمريكي.
وكان مكتب رئيس الوزراء العراقي المستقيل آنذاك، عادل عبد المهدي، قد صرح بأن الحكومة العراقية أُبلغت من قبل إيران بأنها ستنفذ غارات على أراضيها تقتصر على القواعد الأمريكية. ووفقًا لبعض المصادر، فقد تم تحذير قوات التحالف أيضًا من شن غارات على القواعد الأمريكية. من جانبها، أعلنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على لسان محمد جواد ظريف، رئيس الدبلوماسية الإيرانية آنذاك، أن بلاده نفذت و”أنهت” عمليات انتقامية “متناسبة” و”نحن لا نسعى للتصعيد أو الحرب”. ولم تسقط العملية أي ضحية وأدت إلى أضرار طفيفة.
وبالمثل، قامت طهران خلال عملية “الوعد الصادق” العسكرية بتحذير حلفائها والدول المجاورة من الهجوم قبل 72 ساعة من وقوعه من أجل حماية أجوائها، وذلك وفقًا لما صرح به وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان. وفي هذا السياق، لعبت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة دوراً مهماً في مساعدة جيش الاحتلال الإسرائيلي على إبطال الهجوم. وقد شاركتا هذه المعلومات مع الولايات المتحدة وبالتالي مع إسرائيل، وفقًا لصحيفة وول ستريت جورنال. كما سمحت الحكومتان السعودية والعراقية لطائرات صهريجية تابعة لسلاح الجو الأمريكي بالبقاء في مجالهما الجوي لدعم الدوريات الأمريكية والحليفة خلال العملية، بحسب المونيتورal-Monitor ..
بالإضافة إلى ذلك، اختارت إيران بشكل رئيسي استخدام طائرات بدون طيار، استغرق وصولها إلى الأراضي الإسرائيلية ساعات طويلة، وعدم الاستعانة بحلفائها على نطاق واسع، ولا سيما حزب الله، سندها العسكري الرئيسي ضد إسرائيل. وفضلا عن ذلك، أعلن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، بعد انتهاء الهجوم، أنه ليس ثمة أي عمل عسكري آخر على جدول الأعمال حاليًا. كما اعتبرت طهران أن “المسألة منتهية” بعد هجومها.
وبعبارة أخرى، كان الهدف الرئيسي من العملية العسكرية الإيرانية هو “حفظ ماء وجه” طهران بعد الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال العديد من مسؤولي الحرس الثوري الإيراني، مع إبقاء ردها العسكري محدود نسبياً، خاصة من حيث الفعالية. جلي أن المسؤولين الإيرانيين أرادوا استخدام هذه العملية العسكرية لتجنب الانجرار إلى حرب إقليمية قد تشكل تهديدًا لنظامهم. وقد صرحت طهران مرارًا وتكرارًا منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وحتى قبل ذلك ، أنها لا تريد الانسياق في صراع مباشر واسع النطاق مع إسرائيل، على الرغم من الضربات المتواصلة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على أهداف إيرانية (و على حزب الله) في سوريا والاغتيالات التي تستهدف كبار المسؤولين الإيرانيين، بما في ذلك في إيران، من قبل تل أبيب.
ورغم أن الأمر ليس هدفا أولا، أتاح هذا الرد للنظام الإيراني، في الآن ذاته، ترسيخ دعايته بصدد “مقاومة إسرائيل” إزاء قاعدته الشعبية، مع تضييق الخناق أكثر فأكثر على المنظمات الديمقراطية والتقدمية الإيرانية والأفراد المنتقدين للنظام، المتهمين بالتجسس لصالح إسرائيل. فالانتقاد محظور بجميع أشكاله، سواء على شبكات التواصل الاجتماعي أو في وسائل الإعلام.
إسرائيل والإمبريالية الأمريكية
في أعقاب العملية العسكرية الإيرانية المعتدلة والمحسوبة ضد إسرائيل، تعهدت الطبقة الحاكمة الإسرائيلية، المدنية والعسكرية على حد سواء، بالرد على إيران. من جانبه، أعلن الرئيس الأمريكي بايدن أن واشنطن لا تريد حربًا أوسع نطاقًا وحذر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من أن الولايات المتحدة لن تشارك في هجوم مضاد على إيران.
قدم المسؤولون الأمريكيون العملية الدفاعية على أنها انتصار مدوٍ لدولة الاستعمار الإسرائيلي، خاصة بعد الفشل الأمني في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، حيث مكنت إسرائيل من الظهور بمظهر الطرف “المعتدى عليه” وتقليص التغطية الإعلامية جزئيًا لحرب الإبادة الجماعية ضد السكان الفلسطينيين في قطاع غزة من خلال تغيير وجهتها نحو “الخطر الإيراني”.
وقد كان دور الولايات المتحدة حاسمًا في التصدي للرد الإيراني على إسرائيل. إذ أفادت التقارير أن القوات الأمريكية، مدعومة بمدمرات من القيادة الأمريكية الأوروبية، دمرت أكثر من 80 طائرة هجومية بدون طيار أحادية الاتجاه وستة صواريخ باليستية على الأقل موجهة نحو حليفتها إسرائيل، وفقًا للقيادة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط (Centcom). وكان الرئيس الأمريكي قد أعلن قبل أيام قليلة من الرد الإيراني الانتقامي: “نحن ملتزمون بالدفاع عن إسرائيل. سندعم إسرائيل. سنساعد في الدفاع عن إسرائيل، وايران لن تنجح .” في اليوم التالي للهجوم الإيراني، أدان تصرفات طهران، وأكد مجددًا على أهمية التحالف الأمريكي الإسرائيلي، متجاهلًا تمامًا خلافاته الأخيرة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وللتذكير، في حين استعمل المسؤولون الأمريكيون مرارًا وتكرارًا ورقة الفيتو ضد القرارات الداعية إلى وقف لإطلاق النار، من شأن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل حاليًا على السكان الفلسطينيين في قطاع غزة أن تستحيل عسكريًا لولا الدعم المستمر من الولايات المتحدة. وعلى وجه الخصوص، وافقت واشنطن منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 على التزويد بـ 25 طائرة مقاتلة من الجيل الأخير من مقاتلات F-35، وأكثر من 500 قنبلة من طراز MK82 وأكثر من 1800 قنبلة من طراز MK84 – التي لم تعد جيوش الدول الغربية تستخدمها في المناطق المكتظة بالسكان مع ما يترتب على ذلك من أضرار جانبية. وقد تفادت شحنات الأسلحة هذه الالتزام باستشارة الكونجرس عبر التذرع بـ”صلاحيات الطوارئ”.
كما قامت الإدارة الأمريكية الحالية بأكثر من 100 عملية نقل أسلحة إلى إسرائيل دون أي نقاش علني، مستغلة ثغرة كانت فيها الكمية المحددة لكل عملية بيع أقل من الحد المطلوب لإخطار الكونغرس. من جانبها، قالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية إن بيانات تتبع الرحلات الجوية المتاحة للجمهور تُظهر أن ما لا يقل عن 140 طائرة نقل ثقيل متجهة إلى إسرائيل أقلعت من قواعد عسكرية أمريكية حول العالم منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، حاملة معدات بشكل رئيسي إلى قاعدة نيفاتيم الجوية في جنوب إسرائيل.
وفي منتصف أبريل/نيسان، دعا جو بايدن أيضًا الكونجرس الأمريكي للتصويت لصالح مشروع قانون يمنح 26.4 مليار دولار كمساعدات لإسرائيل.
كل هذا جزء من الإستراتيجية الأمريكية لصالح الامتياز العسكري النوعي لإسرائيل (QMA). وقد كان هذا هو العمود الفقري المفاهيمي للمساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل على مدى عقود، وتم تأكيده رسميًا في التشريع الأمريكي في عام 2008. ويقتضي أن تحافظ الحكومة الأمريكية على قدرة إسرائيل على “إحباط أي تهديد عسكري تقليدي موثوق من دولة منفردة أو تحالف محتمل من الدول أو جهات فاعلة من غير الدول، مع تحمل الحد الأدنى من الأضرار والخسائر”.
وذلك لأن إسرائيل لا تزال تعتبر لاعبًا رئيسيًا في الحفاظ على المصالح الغربية في المنطقة. وتهدف عملية التطبيع بين إسرائيل والدول العربية التي بدأها الرئيس دونالد ترامب وواصلها الرئيس جو بايدن إلى تعزيز المصالح الأمريكية في المنطقة، بما في ذلك في تنافسها مع الصين.
الهجوم الإسرائيلي المضاد والعودة إلى “حرب الظل”؟
كيف ينبغي، والحالة هذه، تفسير الهجوم الإسرائيلي المضاد ليلة 18 إلى 19 أبريل/نيسان؟
صرح مسؤولون أمريكيون، عقب الهجوم الإسرائيلي، أن الولايات المتحدة “لم تشارك في عملية هجومية”. وقبل الرد الإسرائيلي، كانت الولايات المتحدة قد صرحت بأنها لا ترغب في المشاركة في رد عسكري إسرائيلي على الهجوم الإيراني. لكن ذلك لم يكن يعني أن واشنطن ستمنع جيش الاحتلال الإسرائيلي من تنفيذ هكذا عملية، كما جرى فعلا. كان دور الولايات المتحدة على الأرجح أن تضع مع ذلك حدودا للعملية الإسرائيلية.
بعد العملية العسكرية الإيرانية “الوعد الصادق”، تبينت الطبقة الحاكمة في إسرائيل فرصة سياسية ليس فقط لتجذير معارضة الدول الغربية للجمهورية الإسلامية الإيرانية ، بل أيضاً لمهاجمة إيران مباشرة واستهداف منشآتها النووية.
. في الواقع، حذرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في نهاية عام 2023 من أن لدى طهران بالفعل ما يكفي من المواد لصنع ثلاث قنابل نووية إذا ما خصبت موادها الحالية بنسبة 60% وأكثر. يمثل فقدان احتكار الأسلحة النووية إقليميا، في نظر الطبقة الحاكمة الإسرائيلية، خسارة إستراتيجية كبيرة.
لذا من المنطقي اعتبار الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية كان مقصوداً عمداً لإثارة تصعيد من أجل إعطاء الدولة الإسرائيلية الفرصة لضرب داخل الأراضي الإيرانية وبوجه خاص مقدرات إيران النووية. علاوة على ذلك، تشاطر واشنطن اسرائيل خوفها من امتلاك إيران أسلحة نووية.
ويتمثل سبب آخر محتمل لهجوم إسرائيل على قنصلية إيران في سعي القيادة الإسرائيلية، بوجه تعثر حرب الإبادة الجماعية التي تشنها ضد سكان غزة، واستمرار تنامي الانتقادات لتل أبيب بسبب هذه الحرب، واستحالة تحقيق الأهداف الرسمية المتمثلة في “تدمير حماس”، إلى توحيد “الكتلة الغربية” حولها مرة أخرى، في تفجر حرب إقليمية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. إن من شأن الولايات المتحدة والدول الغربية الرئيسية، مثل فرنسا وبريطانيا، أن تتكاتف لمساعدة حليفتها إسرائيل، كما كان الحال خلال العملية العسكرية الإسرائيلية “الوفاء بالوعد”.
بيد أن هجوما مباشرا على إيران كان سيتطلب غطاءً سياسياً أكبر ومساعدة عسكرية من الولايات المتحدة، أي تدخلاً مباشراً من واشنطن ضد إيران. بالإضافة إلى ذلك، كان من الضروري أيضاً استخدام المجال الجوي للدول العربية الواقعة جغرافياً بينها وبين إيران، وبالتالي الحصول على موافقتها. لكن في كلتا الحالتين، فشلت الدولة الإسرائيلية في الحصول على هذه الموافقة [1].
ربما خشيت واشنطن أن يكون لهجوم واسع النطاق تأثير سلبي على الاقتصاد العالمي بسبب التهديدات بانقطاع أو، الأسوأ من ذلك، إغلاق مضيق هرمز، مما سيؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار النفط. يقع المضيق بين سلطنة عمان وإيران، ويربط الخليج شمالاً بخليج عمان جنوباً وبحر العرب وراءه. ويمر عبر المضيق حوالي خُمس إجمالي استهلاك العالم من النفط يومياً. وفي المتوسط، يمر عبر هرمز 20.5 مليون برميل يومياً من النفط الخام والمكثفات والمنتجات البترولية في الفترة ما بين يناير/كانون الثاني وسبتمبر/أيلول 2023. ولهذا السبب أيضًا، شكلت واشنطن في بداية ديسمبر/كانون الأول قوة بحرية متعددة الجنسيات لحماية السفن التجارية في البحر الأحمر، الذي يمر عبره 12% من التجارة العالمية، ضد جماعة الحوثي التي كثفت هجماتها في هذه المنطقة ضد السفن التي تعتبرها على صلة بإسرائيل.
وكان الهدف الرئيسي هو ضمان أحد أهم الممرات البحرية الأساسية للتجارة الدولية. وبالمثل، تم الإعلان عن عقوبات أمريكية جديدة ضد إيران، لكنها تستهدف بشكل رئيسي برامجها للطائرات بدون طيار والصواريخ، والحرس الثوري الإيراني ووزارة الدفاع، ولم يتم الإعلان عن عقوبات جديدة تتعلق بتصدير النفط الإيراني.
ومع ذلك، فإن الإجراء الإسرائيلي لا يعني إنهاء هذه الأعمال العدائية ضد إيران. فمن المرجح أن تواصل الحكومة الإسرائيلية تنظيم عمليات أمنية واغتيالات في إيران و/أو خارجها، وهجمات إلكترونية ضد الحرس الثوري الإيراني والمؤسسات الإيرانية، فضلًا عن تكثيف هجماتها في لبنان وسوريا (2)، لذا فإن ما يسمى بـ”حرب الظل” ستستمر وستحمل دائمًا خطر التصعيد إلى صراع مفتوح. بالإضافة إلى ذلك، فإن واقع استهداف تل أبيب لقوة جوية إيرانية بالقرب من مدينة أصفهان، وعلى مقربة من المنشآت النووية، دون استخدام الطائرات أو الصواريخ الباليستية، بعثت أيضًا رسالة سياسية واضحة إلى طهران حول قدرة إسرائيل على بلوغ مواقع استراتيجية داخل البلاد وإحداث أضرار كبيرة.
وبالمثل، ستستمر إسرائيل في صراعاتها منخفضة الحدة ضد حلفاء إيران وشبكاتها في المنطقة. وبحلول منتصف آذار/مارس 2024، كان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد ضرب بالفعل “نحو 4500 هدف لحزب الله” في لبنان وسورية منذ 8 أكتوبر.
ومنذ عام 2015، كثفت إسرائيل هجماتها وقصفها ضد الشبكات العسكرية الإيرانية ولحزب الله على الأراضي السورية عقب اندلاع الانتفاضة في عام 2011، والتي تحولت فيما بعد إلى حرب شهدت تدخلات عسكرية إقليمية ودولية عديدة.
وخلال الأيام القليلة الماضية، استمرت التوترات في لبنان مع استمرار جيش الاحتلال الإسرائيلي في قصفه للبلاد خارج المناطق الحدودية، مستهدفاً جنود حزب الله والمدنيين على حد سواء. وهذا على الرغم من كون حزب الله لم يشارك في العملية العسكرية الإيرانية ضد إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، اكتفى الحزب اللبناني منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر بردود الفعل “المحسوبة والمتناسبة” على الهجمات الإسرائيلية، ويؤكد أنه لا يزال “جبهة ضغط” ضد تل أبيب. وكان نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، قد صرح لقناة NBC الإخبارية الأمريكية في 18 أبريل/نيسان أن حزب الله مصمم على الحد من عملياته العسكرية على الحدود الإسرائيلية اللبنانية إلى حد معين وعدم السماح لنفسه بالانجرار إلى حرب واسعة النطاق.
وهدف إسرائيل من عملياتها العسكرية ضد حزب الله هو دفعه إلى الانسحاب لمسافة 10 كيلومترات من الحدود، أي شمال نهر الليطاني، وهو ما سيشكل نجاحاً سياسياً وعسكرياً لإسرائيل. وتسببت الهجمات الإسرائيلية في مقتل أكثر من 280 عنصراً من حزب الله منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر، فضلاً عن عشرات المدنيين. كما أدت هجمات جيش الاحتلال الإسرائيلي الجوية وهجمات الطائرات بدون طيار على القرى في جنوب لبنان إلى التهجير القسري لأكثر من 90,000 شخص وتدمير مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والبنية التحتية المدنية. ينهج جيش الاحتلال الإسرائيلي سياسة أرض محروقة حقيقية في المناطق الحدودية اللبنانية.
في الوقت نفسه، ينظر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة إلى السيناريو المحتمل لاندلاع حريق إقليمي نظرة سلبية للغاية من قبل حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين، ولا سيما الرياض والدوحة وأبو ظبي، الذين جعلوا من الاستقرار السلطوي والنمو الاقتصادي أولوية مطلقة. وتحاول المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الحفاظ على تحالفهما مع الولايات المتحدة واستقرار العلاقات مع إيران بعد سنوات من التوتر. وقد أدان كلاهما الضربات الإسرائيلية ضد الملحق القنصلي الإيراني في دمشق في 1 أبريل/نيسان.
وبشكل عام، غيّرت المملكة العربية السعودية سياستها الخارجية العدوانية والصدامية التي تبناها في البداية ولي العهد محمد بن سلمان، والتي تمثلت في الحرب المميتة التي شنتها على اليمن في عام 2015 وممارسة أقصى قدر من الضغوطات على إيران وحلفائها في المنطقة، وانتهت بالفشل. وقد أثبتت هذه السياسة أنها مكلفة للغاية من الناحية السياسية وخطيرة على خطط السعودية لإصلاح الاقتصاد. لذلك حاولت إقامة علاقات أكثر ودية مع جيرانها، بما في ذلك إيران.
وكانت النتيجة التقارب السياسي التاريخي بين إيران والسعودية، بوساطة صينية في أوائل أبريل 2023. ومنذ ذلك الحين، أكد البلدان رغبتهما في العمل معًا من أجل “الأمن والاستقرار والازدهار” في الشرق الأوسط. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة بالنسبة للسعودية من أجل استقرار الوضع في اليمن ومنع التهديدات التي تتعرض لها حدودها الجنوبية.
كما أن إدراك السعودية بأن واشنطن لم تعد قادرة على توفير الأمن اللازم للمملكة، خاصة بعد اندلاع الثورات في عام 2011 أو بعد تفجير وحدات إنتاج أرامكو في عامي 2019 و2020، دفع المملكة في هذا الاتجاه.
كما أدى التعليق المؤقت لعملية التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل بعد بدء حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة في أكتوبر 2023 إلى تعزيز التعاون بين طهران والرياض في الأشهر الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، لم تشارك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في القوة البحرية متعددة الجنسيات التي تقودها الولايات المتحدة ضد جماعة الحوثيين.
في هذا السياق، كانت الرياض وأبوظبي متحفظتين بشأن فكرة زيادة التعاون مع التحالف الإسرائيلي-الأمريكي، على الأقل علناً، فيما يتعلق بهجوم محتمل على إيران، خوفاً من انتقام إيران أو حلفائها في المنطقة. ويمكن أن يتغير موقفهم إذا ما اقترحت واشنطن إبرام اتفاقية دفاعية، وهو ما طالبت به السعودية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وتتطلع الرياض وأبوظبي إلى شكل من أشكال المظلة الأمنية كتلك الممنوحة لإسرائيل.
من أجل حركة مناهضة للحرب والإمبريالية
في خضم التوترات الأخيرة في المنطقة، لم توقف إسرائيل حرب الإبادة الجماعية التي تشنها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. فقد وصل عدد القتلى إلى ما يقرب من 34,000 قتيل. لم تخفف العملية العسكرية الإيرانية معاناة الفلسطينيين، ولم يكن ذلك غايتها. فأهداف إيران الجيوسياسية ليست تحرير الفلسطينيين، بل تعزيز مصالحها الخاصة والنهوض بها[3].
في هذا الوضع، ما الذي يمكن لليسار والفاعلين التقدميين فعله؟
في الدول الإمبريالية الغربية، يجب أن تكون تعبئة حركة واسعة مناهضة للحرب والإمبريالية من أولويات المنظمات اليسارية والتقدمية ومهامها اليومية. لقد لعبت الولايات المتحدة والدول الغربية دورًا رئيسيًا في إتاحة حرب الإبادة الجماعية التي تشنها اسرائيل ضد الفلسطينيين، والمشاركة فيها، وفي الاحتلال والاستعمار المستمر للأرض الفلسطينية، وقصف لبنان وسوريا، وعمليات الأمن والاغتيالات في جميع أنحاء المنطقة، واليوم في التوترات المتزايدة ضد إيران، وما إلى ذلك.
ويشكل إفلات إسرائيل من العقاب تهديدًا مميتًا ودائمًا للطبقات العاملة والشعبية في المنطقة، في الوقت الذي يزيد فيه باستمرار من خطر الحرب الإقليمية ويهدد الوضع الدولي الأوسع نطاقًا. وبالإضافة إلى دعمها لإسرائيل، فإن الإمبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة لم تفعل سوى مفاقمة بؤس ومعاناة الطبقات العاملة الإقليمية من خلال دعم الدول الاستبدادية في المنطقة، من خلال القصف والتدخل العسكري المستمر.
وفي هذا السياق، يجب أن تكون معارضة أي حرب أو عملية عسكرية إسرائيلية محتملة ضد إيران أولوية سياسية. وهذا لا يعني دعم النظام الإيراني الاستبدادي والنيوليبرالي والأبوي أو تجاهل سياساته الرجعية والقمعية ضد شعبه وضد شعوب المنطقة الأخرى مثل سوريا. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية عدو للطبقات العاملة في إيران والمنطقة، وهي لا تناضل من أجل تحررها، بل على العكس تمامًا.
وعلاوة على ذلك، من المهم الاستمرار في المطالبة بوقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة. وبالمثل، يجب أن تستمر المنظمات اليسارية والتقدمية في معارضة إسرائيل العنصرية والاستعمارية والعنصرية بشكل جذري والدفاع عن حق الفلسطينيين في المقاومة.
والواقع أن للفلسطينيين هذا الحق، شأنهم شأن أي شعب آخر يواجه نفس التهديدات، بما في ذلك بالوسائل العسكرية. وبالمثل، يحق للبنانيين مقاومة العدوان العسكري الإسرائيلي. ولا ينبغي الخلط بين هذا الأمر وبين دعم وجهات النظر والتوجهات السياسية لمختلف الأحزاب السياسية الفلسطينية واللبنانية، بما فيها حماس وحزب الله. وهذا ينطبق أيضًا على جميع أنواع الأعمال العسكرية التي قد تقوم بها هذه الجهات الفاعلة – ولا سيما الأعمال التي تؤدي إلى القتل العشوائي للمدنيين.
وعلى المستوى الإقليمي، تبقى المهمة الرئيسية للقوى الاجتماعية والسياسية اليسارية والتقدمية اليسارية والتقدمية هي تطوير استراتيجية قائمة على التضامن الإقليمي “من الأسفل” ومستقلة عن الطبقات الحاكمة في الدول الإقليمية والدولية. وهذا يعني مقاومة الدول الغربية الإمبريالية وإسرائيل وجهاً لوجه من جهة، ومعارضة الدول الإقليمية الاستبدادية (سواء كانت إيران والسعودية وتركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة ومصر وغيرها) وبشكل أعم قوى السلطة في المنطقة من جهة أخرى. وبصورة أعم، القوى السياسية الرجعية المحلية التي تمنع أي قطيعة مع الديناميات الإمبريالية (من جميع الدول الإمبريالية دون تمييز) والاستبدادية والنيوليبرالية والعنصرية والأبوية.
تمثل هذه القوى السياسية، بطبيعة الحال، تهديدات ومخاطر مختلفة (حسب الوضع والبلد) على آفاق التحرر، ولكن من الضروري تشكيل كتلة يسارية وتقدمية مستقلة عن هذه القوى، مع التأكيد على التضامن مع النضال من أجل تحرير الفلسطينيين وتحرير جميع المستغلين والمضطهدين في المنطقة.
ملاحظات[1] وقد تسبب هذا الواقع أيضًا في انقسامات داخل الحكومة الإسرائيلية وحكومة الحرب حول كيفية الرد على إيران.[2] كما استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي ما لا يقل عن اثنتي عشرة سفينة متجهة إلى سوريا في السنوات الأخيرة، معظمها تحمل النفط الإيراني، حسبما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال نقلاً عن مسؤولين إسرائيليين.[3] ووفقًا لعدة مصادر، كان المسؤولون الإيرانيون قبل عمليتهم العسكرية ضد إسرائيل يجرون في الواقع مفاوضات سرية مع نظرائهم الأمريكيين، بعضها في عُمان والبعض الآخر في نيويورك. في البداية، طلبت طهران من الولايات المتحدة الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي لوقف الحرب في غزة، وفي المقابل تعهدت بعدم الرد على الهجوم على قنصليتها في دمشق. كان هدف إيران هو استئناف المفاوضات مع واشنطن لحل القضية النووية وتخفيف العقوبات. ومع ذلك، لم تقبل الولايات المتحدة ولا إسرائيل بالشرط الإيراني، مما دفع طهران إلى اتخاذ إجراءات…

ترجمة المناضل-ة 

بقلم: جوزيف ضاهر