تكاثرت في الأيام الأخيرة التهديدات الإسرائيلية بشأن هجوم وشيك على لبنان، لاسيما منذ الهجوم الوقائي الإسرائيلي على «حزب الله» في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، الذي تلاه هجوم الحزب الانتقامي ثأراً لاغتيال القائد العسكري فؤاد شكر. وقد بدأت الجوقة منذ ذاك اليوم بتوجيه اللوم لبنيامين نتنياهو على حجم العملية الوقائية، التي رأى بعض المعلّقين الصهاينة أنها دون المطلوب، إذ يتمنّون هجمة تتعدّى الأهداف العسكرية إلى بلوغ قياس رادع من خلال كثافة تدميرية تطال التركّزات السكّانية التي يسود الحزب فيها.
والمُلفت هو أن اللوم لم يقتصر على أكثر المتشدّدين في أقصى اليمين الصهيوني، وهم أرباب المزايدة الدائمة، بل شملت «الوسط» الصهيوني ممثلاً ببيني غانتس، أحد أقطاب المعارضة لنتنياهو، رئيس الأركان العامة السابق في الجيش الإسرائيلي وعضو حكومة الحرب التي تشكّلت للإشراف على إعادة احتلال غزة حتى استقالته منها في حزيران الماضي بما تسبب بانفراطها. فقد علّق غانتس على الهجمة أنها «أقل وأكثر تأخّراً من اللازم». هذا وقد كتب أحد المعلّقين في صحيفة «معاريف» التي تعبّر عن «يمين الوسط» الصهيوني، ما مفاده أن الوقاية ممّا كان «حزب الله» يعدّ له لا تكفي، بل إن المطلوب هو حملة جوّية واسعة النطاق تردع الحزب عن الاستمرار في التراشق بالقذائف عبر الحدود، بما يسمح للإسرائيليين المهجّرين منذ بداية الحرب الراهنة العودة إلى ديارهم.
وقد تصاعد الجدال مذّاك في الأوساط الصهيونية، بينما تطوّع أركان أقصى اليمين الصهيوني لدَرء التهمة عن حليفهم نتنياهو الذي أوصلهم إلى الحكم، بسعيهم إلى تحويل سهام النقد إلى وزير الحرب ومنافسه في الحكومة وداخل حزب الليكود، يوآف غالانت. وكان ردّ فعل غالانت أن دخل في مزاد مع ناقديه، مشدّداً على ضرورة توسيع نطاق الحرب مع «حزب الله» ومنحها الأولوية على الحرب في غزة التي تم بلوغ أهدافها الرئيسية في تقديره. وما لبث رئيس الأركان العامة الحالي، هرتسي هليفي، أن أكّد على فعالية الهجمات التي شنّتها وتشنّها قوّاته بينما تعدّ العدّة لحرب واسعة النطاق ضد «حزب الله» بما في ذلك تمارين أجرتها في نهاية الشهر الماضي، وشملت التدريب على هجوم برّي على لبنان ينفّذه سلاح المشاة.
وقد ساهم نتنياهو نفسه في قرع طبول الحرب القادمة على لبنان، جاعلاً أحد مقرّبيه في حزب الليكود ينسب إليه نيّة شنّ حرب سوف تحوّل ضاحية بيروت إلى «ما يشبه غزة» على حدّ قول الرجل، تسبقها هجمة «وقائية» على غرار هجمة الخامس والعشرين من الشهر الماضي، لكنّها تدوم بضعة أيام وليس بضع دقائق أو ساعات وحسب. وقد شارك في هذا المزاد قائد المنطقة الشمالية، اللواء أوري غوردين، المخضرم في سلسلة طويلة من الحروب بدءاً بالمرحلة الأخيرة من الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان (1985 ـ 2000). فوفق الأخبار التي تسرّبت نقلاً عنه، طلب غوردين ضوءاً أخضر لإعادة احتلال الجيش الصهيوني لمنطقة عازلة في جنوب لبنان. وإذ أشارت الأخبار ذاتها إلى اختلاف غالانت وهليفي مع غوردين على أمر شنّ حرب واسعة النطاق على لبنان في الوقت الراهن، بدا أن الأمر يندرج في لعبة شدّ الحبال بين نتنياهو وغالانت. وقد وصل الأمر بين الرجلين إلى تكاثر الإشاعات القائلة إن الأول على وشك إقالة الثاني من منصبه الوزاري.
هذا وقد خشيت إدارة بايدن من أن يؤدّي هذا المزاد إلى هجوم إسرائيلي كبير على لبنان في الظرف الراهن وهو ما لا تريده لسببين، أولهما أنها في حالة «البطة العرجاء» بما سوف يحول دون قدرتها على السيطرة على الأمور، وثانيهما أن الأمر سيبدو بمثابة فشل لمساعيها، سوف يوظّفه خصمها دونالد ترامب في حملته الانتخابية على حساب نائبة بايدن الراهنة ومرشّحة حزبه إلى خلافته في الرئاسة. فأرسلت واشنطن من جديد وعلى عجلة مبعوثها المختصّ بملفّ النزاع بين إسرائيل و«حزب الله» آموس هوكستاين، الذي التقى يوم الإثنين بغالانت. وقد صعّد وزير الحرب لهجته مشدّداً خلال اللقاء على أن الحرب على لبنان باتت وشيكة وأنه لم يعد يثق بإمكانية تحقيق سلمي للشروط التي حاولت واشنطن تحقيقها بالتفاوض. وهي الشروط القاضية بالعودة إلى القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي إثر حرب عام 2006 وانسحاب قوات «حزب الله» من جنوب لبنان إلى شمالي نهر الليطاني، كي يحلّ محلّها الجيش اللبناني، علاوة على قوات الأمم المتحدة المتواجدة هناك.
أين الحقيقة من كل ذلك المزاد والتهويل؟ لا يسعنا هنا سوى أن نكرّر ما أكّدنا عليه في نهاية حزيران الماضي وهو أن «الطرفين، نتنياهو والمعارضة، يريان أن لا خيار ثالث على جبهتهم الشمالية سوى رضوخ «حزب الله» وقبوله بالانسحاب شمالاً، أو شنّ حرب ضارية ضد الحزب بكلفة عالية، يُجمعون على أن لا بدّ منها من أجل تعزيز هيبة دولتهم وقدرتها الردعية اللتين اضمحلّتا على الجبهة اللبنانية منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول». («هل يمهّد قرع طبول الحرب على الجبهة اللبنانية لحرب شاملة؟» 25/6/2024). وحيث لا تستطيع الدولة الصهيونية شنّ حرب واسعة النطاق على لبنان بينما تحذّرها إدارة بايدن من أن هذه الحرب سوف تستحيل حرباً إقليمية، حيث لا تستطيع شنّ مثل هذه الحرب بدون مشاركة أمريكية كاملة، وهي التي ما كانت لتستطيع خوض حرب الإبادة في غزة بلا هذه المشاركة في حين أن «حزب الله» أقوى بكثير من «حماس» وحلفائها داخل القطاع، يصعب أن يؤيد أي من نتنياهو أو غالانت المبادرة إلى شنّ عدوان مباغت بلا ضوء أخضر أمريكي.
لذا يتصرّف نتنياهو حالياً وعيناه على الانتخابات الأمريكية: فإن شعر بأن ترامب سوف يفوز بها، سوف ينتظر تأكد الأمر، بل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، قبل شنّ الحرب على لبنان بالتواطؤ معه، تمهيداً لعدوان واسع النطاق على المفاعلات النووية في إيران بالذات. وإن شعر بأن فوز كامالا هاريس هو الاحتمال الأقوى، أو إذا تحقق هذا الاحتمال في انتخابات الخامس من تشرين الثاني القادم، فسوف يدفعه الأمر إلى الاستفادة مما تبقى من وقت لوجود بايدن في البيت الأبيض كي يصعّد الأمور إلى حالة الحرب. ومن المرجّح عندها أن يسعى إلى التأكد من توريط بايدن في مساندة العدوان من خلال إعطاء «حزب الله» إنذاراً مصحوباً بمهلة محدّدة وقصيرة كي يرضخ للضغط وينسحب.
والحال أنه لا يمكن فهم مواقف نتنياهو الأخيرة، ومنها رفضه لوقف إطلاق النار في غزة وتبادل المحتجزين الذي تسعى له إدارة بايدن، لا يمكن فهم هذه المواقف بصرف النظر عن الانتخابات الأمريكية. فخلافاً للتحاليل التي انصبّت على اعتبارات السياسة الداخلية الإسرائيلية وحدها، لا شكّ في أن رفض نتنياهو منح إدارة بايدن ما سوف يبدو كإنجاز سياسي لها في خضم الحملة الانتخابية الأمريكية الراهنة، إنما هو خدمة جليلة لترامب يتوخّى نتنياهو حصد ثمارها لو فاز الأخير بالرئاسة مرّة ثانية.
(مقال هذا الأسبوع مُهدى لذكرى الصديق والرفيق والزميل الغالي الياس خوري).
كاتب وأكاديمي من لبنان