دخلت الحرب الصهيونية الوحشية على قطاع غزة اسبوعها الرابع، وقد سقط خلالها حتى مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الحالي 2023، اكثر من تسعة آلاف وخمسمئة شهيد وعشرات الالوف من الجرحى والمفقودين، فضلاً عن دمار قل مثيله في المباني، ومن ضمنها المشافي والمدارس ودور العبادة، بحيث تُظهر الصور المأخوذة من الجو، ولا سيما لمدينة غزة بالذات، مشاهد زوال شبه كامل لأحياء ومناطق تضم آلاف البنايات والابراج، بما يذكّر بالكوارث المرعبة التي حلت بمدن اوروبية واسيوية اساسية، إبّان الحرب العالمية الثانية. وهو امرٌ يتلازم مع تشديد الحصار الذي يفرضه الكيان الصهيوني على اهل غزة، منذ العام 2007، إلى حد منع وصول الغذاء والماء والوقود والأدوية اليهم، مع ما يعنيه ذلك من تعريضهم لخطر الموت جوعاً وعطشاً، ومن الحيلولة دون علاج جرحاهم، بحيث يصبح موت معظمهم شبه مؤكد، ولا سيما ان المشافي القليلة الباقية من دون استهداف بالقصف، بدأت تقفل، بسبب فقدان الوقود والدواء والاجهزة الطبية.
وقد أعقبت هذه الحربُ الهجومَ الصاعق الذي شنه مقاتلو حماس على غلاف غزة ، في السابع من الشهر المذكور، وسقط خلاله اكثر من 1400 قتيل، وآلاف الجرحى، عدا حوالى 250 اسيراَ بينهم عدد هام من الضباط والجنود وزعتهم حماس في مواقع مختلفة، داخل القطاع، املاً في ان يجعل ذلك جيش العدو يتردد قبل ضرب الاهداف التي قد يكون حددها. وهو الهجوم الذي ادعت السلطات الصهيونية، وعلى رأسها رئيس الوزراء الحالي نتنياهو، انه طال بشكل خاص مدنيين، ورافقته عمليات قتل لأطفال ونساء، أقدم عليها ، بحسبها، مقاتلو حماس بالذات. وهو ما نفته هذه الاخيرة، فيما تبنت صحته، من دون أي تدقيق، الحكومات الغربية، التي سارعت لمساندة وتبرير جرائم الدولة الصهيونية ضد اهالي غزة، وغالبيتهم الساحقة من المدنيين العزَّل –الذين يضطهدهم ذلك الكيان، بصورة وحشية، كما سبق ان اضطهد اهلهم، منذ قيامه- وذلك بذريعة في منتهى البشاعة والخساسة مفادُها أن من حق اسرائيل الدفاع عن نفسهاَ!!!
هذا فيما تُزَكّي تلك الحكومات وصف المحتل الصهيوني لمقاومي هذا الاحتلال، ومن ضمنهم المنظمات التي تشارك في عملية “طوفان الاقصى”، وفي مقدمتها “حماس”، بالإرهابيين! وهو وصفٌ كاذب جرى الصاقه على الدوام، سواء من الحكومات الصهيونية المتعاقبة، او من حلفائها في الدول الامبريالية، بأي من منظمات المقاومة الفلسطينية، منذ ظهور تلك المنظمات، على اختلاف هوياتها الفكرية، وأياً يكن موقفنا من تلك الهويات، لا بل ايضاً بأي من افراد الشعب الفلسطيني ممن قاموا بعمليات مقاومة ضد العدو الصهيوني، وهي المقاومة التي يعطيها القانون الدولي، وميثاق الامم المتحدة كامل شرعيتها.
وللأسف الشديد، فإنه إذا لم يكن اجتياح حزب الليكود اليميني الصهيوني للبنان، صيف العام 1982، بقيادة مناحيم بيغن وأريال شارون، حَظِيَ بالإجماع الشعبي، بحيث تلازم مع مظاهرات كبرى ضده ضمت مئات الالوف من الإسرائيليين، فإن الحرب الحالية على غزة، بقيادة الزعيم الصهيوني المتطرف، المهدَّد بملاحقته بالفساد وجرائم أخرى، بنيامين نتنياهو، تحظى بإجماع سياسي قل نظيره، يضم الى اليسار الصهيوني تجمعاً من اليمين واقصى اليمين العنصري شبه النازي، الذي وجد موقعاً اساسياً طاغياً له في حكومة الحرب التي شكلها الزعيم المذكور. والأدهى من ذلك انها تحظى بشبه إجماع شعبي، إذا استثنينا أهالي الأسرى لدى حماس، ومن يتضامن معهم عن كثب، ممن يخافون أن يأخذ القصف الوحشي المركّز أقرباءهم، في الوقت نفسه.
ولكن، بمواجهة هذا الإجماع المخزي، وعلى الضد منه، كانت هناك بعض الاصوات الشجاعة، التي ارتفعت، وكسرت، بشرفٍ وعنفوان، جوقة الحقد والوحشية، هذه، ودافعت، بشكل أو بآخر، عن غزة وحقها في المقاومة وفي الحرية، كما الحال مع الصحافي والكاتب الإسرائيلي، جدعون ليفي، الذي كتب:
“سوف نطلق النار على الأبرياء الفلسطينيين، ونقتلع العيون ونحطم الوجوه، ثم نطرد ونهجّر ونصادر ونسلب، ونختطف السكان من مرقدهم وأسرهم، ونقوم بالتطهير العرقي، وبالطبع سنواصل الحصار غير المعقول على غزة، ونقول كل شيء سيكون على ما يرام”. كما اعلن أن بضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين أثبتوا أنه “من المستحيل سجن مليوني إنسان إلى الأبد، من دون أن يتم دفع ثمن باهظ.”. واضاف ان الفلسطينيين في غزة قرروا “أنهم على استعداد لدفع أي شيء مقابل الحصول على لمحة من الحرية “.
وختم، قائلاً: “إن نتنياهو يتحمل مسؤولية كبيرة جدا عما حدث، وعليه أن يدفع الثمن، لكن الأمر لم يبدأ معه، ولن ينتهي بعد رحيله. وعلينا الآن أن نبكي بمرارة على الضحايا الإسرائيليين. ولكن علينا أيضا أن نبكي على غزة التي معظم سكانها لاجئون؛ بسبب ممارسات إسرائيل وأفعالها، غزة التي لم تعرف يوماً واحداً من الحرية”.
إن غزة “التي لم تعرف يوماُ واحداً من الحرية” تتعرض، حالياً، لإحدى أبشع المجازر في تاريخ البشرية، ولا تستهدفها الدولة الصهيونية وحسب، بل كامل الغرب الإمبريالي، وفي مقدمته الولايات المتحدة الاميركية، التي جاءت الى منطقتنا بجزء اساسي من آلات حربها، من حاملات طائرات وبوارج حربية وآخر ما توصلت اليه من قنابل التدمير والإبادة. ولقد جاء رئيسها بنفسه الى بلد اعلن حكامه انهم دخلوا في حالة حرب، ليعلن تضامنه الكامل معهم، ودعمه المطلق لقتالهم، ويكرر كالببغاء مزاعمهم – ومن ضمن ذلك ادعاؤهم المفرط في الدناءة والكذب، أن الصاروخ الذي قتل المئات من الاطفال والنساء، ناهيكم عن الرجال، وجرح الآلاف، في مشفى المعمداني، وحوله، أطلقته حركة الجهاد الإسلامية، وليس الطيران العسكري الصهيوني –، كما شارك في اجتماعات حكومتهم المصغرة، المولجة بالتخطيط والمتابعة الدقيقة لمجريات هذه الحرب، فضلاً عن طلبه المباشر الى الكونغرس الموافقة على مدهم بأربعة عشر مليار دولار لتغطية انفاقهم العسكري على الإبادة الجماعية التي لا يتورع الأميركيون عن الضلوع فيها. ومن ضمن السيرورة عينها، والهدف نفسه، تمارس الحكومة الأميركية حق الفيتو في مجلس الأمن للحيلولة دون استصدار قرار بوقف النار، فكيف بإدانة إسرائيل! كل ذلك، مع العلم ان الحرب الوحشية الحالية على غزة تستهدف، عدا انزال افدح الخسائر البشرية بأهل غزة، والمدافعين عنها، تكرار عملية التهجير، الترانسفير، التي تمت خلال حرب 1948، وذلك هذه المرة بحق فلسطينيي غزة، تمهيداً لتنفيذها لاحقاً في الضفة الغربية، ومن ثم على صعيد عرب ما وراء الخط الاخضر، اي الفلسطينيين الباقين للآن في الاراضي المقامة عليها دولة العدوان، منذ ذلك العام. بحيث يصبح في مُكنة هذه الاخيرة تحقيق حلم الدولة اليهودية التاريخي الذي تم التعبير عنه اول مرة في كتاب تيودور هرتزل المشهور “دولة اليهود”!
هذا في حين تقف جماهير واسعة في هذا الغرب البائس موقفاً مشرِّفاً، إلى هذا الحد أو ذاك، على نقيض حكومات بلدانها، وذلك كما يظهر في المظاهرات الحاشدة التي ملأت ساحات مدنٍ كبرى اميركية وبريطانية، والمانية وفرنسية، وما إلى ذلك، تضامناً مع الشعب الفلسطيني، وشجباً للفظائع التي يرتكبها الجيش الصهيوني في غزة. وهو ما لا تزال تفتقده، للأسف، معظم العواصم والمدن الكبرى العربية، التي كان أحرى بها أن تكرر مشهد مليونيات السيرورة الثورية، التي صدحت، على مدى أشهر طوال، ابتداء من العام 2011، وحتى تواريخ غير بعيدة، ولو بصورة متقطعة، بلازمة “الشعب يريد إسقاط النظام”، وذلك دعماً، هذه المرة، للشعب الفلسطيني، ولمقاتلي غزة المدافعين عنها، ببسالة منقطعة النظير.
ولأجل ذلك، كان اقصى ما فعلته الحكومات العربية الضغط لاستصدار توصية هزيلة من الجمعية العامة للأمم المتحدة تدعو إلى “هدنة إنسانية فورية ودائمة ومتواصلة تفضي إلى وقف القتال، مع توفير الاحتياجات الاساسية للمدنيين في غزة(…)، وبكميات كافية”. علماً بأنه كان في وسعها لو هي شاءت، أن تطلب الى الجمعية العامة استصدار توصية ملزمة، تحت يافطة “الاتحاد من اجل السلام”، بإدانة المعتدي الصهيوني الغاشم، والوقف الفوري للنار، ووقف اسرائيل حصارها لغزة بالكامل، ونهائياً، مع تدفيعها تعويضات كبرى لأهل غزة عن الخسائر البشرية والمادية التي تسببت بها لهم، تحت طائلة العقاب الشديد، بحق الطرف الذي لا يلتزم بمضمون هذه التوصية، كما حصل في مرار عدة، حين كان مجلس الامن يفشل في اتخاذ القرار بذلك، بسبب حق النقض –الفيتو الذي تمتلكه الدول الخمس الكبرى. وهو ما شهده العالم اثناء الحرب الكورية، في العام 1950، كما خلال العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، وفي مناسبات عديدة اخرى. ناهيكم عن انه اذا كانت المملكة السعودية وجدت نفسها مضطرة لوقف مفاوضات التطبيع الخيانية مع الكيان الصهيوني، واكتفت بذلك، فباقي الدول المطبعة لم تفعل شيئاً على هذا المستوى، كما امتنعت جميع حكومات الانظمة العربية عن اتخاذ اي موقف حازم ضد اي من الحكومات الغربية الداعمة للعدوان، ولا سيما ضد الحكومة الاميركية المشاركة فيه، عن كثب. لا بل تتواطأ العديد من تلك الحكومات، بصورة او باخرى، مع العدوان، وبوجه اخص الحكومة المصرية بقيادة عبد الفتاح السيسي.
إزاء هذا الواقع، وبمواجهة المذبحة الزاحفة، واهدافها النهائية الاخيرة، المفرطة في الخطورة، تدعو المنظمات الثورية الموقعة لهذا البيان الحكومات العربية، من جهة، والجماهير الشعبية في بلدان المنطقة، من جهة اخرى، ومن ثمَّ دول العالم، الى ما يلي:
أولاً:
أ- السعي لاستصدار التوصية المشار اليها أعلاه، وفقاً لصيغة “الاتحاد من اجل السلام”، في سياق حملة تعبوية عالمية ضد جرائم الحرب الموصوفة التي ترتكبها الدولة الصهيونية، وتتخذ شكل التطهير العرقي، والإبادة الشاملة لشعب يكابد منذ اكثر من مئة عام مؤامرات الدول الاستعمارية العظمى، – وفي مقدمتها بريطانيا والولايات المتحدة الاميركية – لحرمانه من ابسط حقوقه الوطنية، ولا سيما انطلاقاً من تسهيلها زرع دولة مصطنعة، مكان هذا الشعب، الذي لا يزال يتعرض للتهجير، والقتل، والاجتثاث من أرضه التاريخية، ومن تمكين هذه الاخيرة من الممارسة المتمادية لأبشع اشكال الاضطهاد ضده.
ب- قطع شتى اشكال العلاقات مع الدولة الغاصبة، ومع الولايات المتحدة الاميركية، وتهديد الدول الغربية الاخرى، المساندة للدولة الصهيونية، بشمولها بهذا الإجراء اذا استمرت في تقديم تلك المساندة.
ج- قطع النفط والغاز عن البلدان المتعاونة مع الدولة المشار اليها، والداعمة لها، في تحرك شامل يشبه ما حدث على هذا الصعيد، خلال حرب تشرين 1973. مع فرق اساسي، هذه المرة، أن هذا التدبير، والإجراءات الاخرى بوجه المعتدي الاساسي، والدول الداعمة له، ينبغي أن تتلازم مع اقصى التعبئة الجماهيرية ضد العدوان، كما ضد اي من الحكومات العربية المتقاعسة عن تنفيذ الخطوات المنوه بها اعلاه.
ثانياً:
أ- دعوة الدولة الإيرانية، التي تزعم الدعم المطلق للشعب الفلسطيني، الى تنفيذ التدابير نفسها المذكورة اعلاه، وإلى إغلاق مضيق هرمز بوجه ناقلات النفط الناقلة لهذه المادة الحيوية جداً، حتى اشعار آخر، إلى الشركات الغربية. وإقدامها على خطوة كهذه هو الحد الادنى المطلوب لتبرئتها من تهمة المتاجرة الكاذبة بأوجاع شعوبنا. وهي تهمة تمتلك الكثير من الصحة والدقة، انطلاقاً من تاريخ طويل من الاستغلال المنافق للقضية الفلسطينية.
ب- الطلب الى كل الشعوب المحبة للعدالة والسلام إجبار حكوماتها على تقديم اقصى الدعم للشعب الفلسطيني، في وجه أعدائه التاريخيين، الذين هم بالضرورة، وايضاً، اعداء موضوعيون للبشرية جمعاء. ومن ضمن ذلك قطع العلاقات، بكل اشكالها، مع الدولة الصهيونية، وإذا اقتضى الامر، مع الولايات المتحدة الاميركية، ودول غربية استعمارية أخرى.
فلتتوقف الحرب على غزة فوراً
ولتُفتح الحدود لادخال الحاجات الضرورية، من غذاء، ودواء، ومحروقات، كما لنقل الجرحى والمرضى
وليتم فك الحصار المزمن لغزة، بصورة كلية
ولتنسحب القوات العسكرية الامبريالية، المشاركة في العدوان، والمتربصة لترهيب المنطقة، وإشاعة جو من الهزيمة المسبقة لدى المدافعين عن الشعب الفلسطيني، كما لدى كامل شعوب المنطقة المعادية لإسرائيل، وحماتها الامبرياليين
اخيراً، إن المنظمات الموقعة لهذا البيان ترى ان ما قد يحول دون نشوب الحروب المدمرة الخطيرة، التي تهدد بالتحول لحرب عالمية لا تبقي ولا تذر، في مستقبل قد لا يتأخر كثيراً، إنما يتمثل بالتوافق على عودة كل من يشاء من الفلسطينيين الذين يتوقون لتنفيذ هذا المطلب التاريخي الذي نصت عليه عشرات القرارات الاممية، منذ حرب 1948، الى ارضهم الاصلية، وإحلال دولة ديمقراطية علمانية، محل دولة الابرتايد العنصرية الحالية المسماة دولة اسرائيل، يشارك في تسييرها، على قدم المساواة المطلقة، كل سكانها من عرب ويهود، وذلك على كامل اراضي فلسطين التاريخية.
إن ما يجري في الوقت الراهن، في منطقتنا، وبوجه اخص في فلسطين، قد يشكل، وفقاً للطريقة التي سيحسم فيها هذا الصراع، منعطفاً تاريخياً، إما في اتجاه تغيير العالم، من ضمن سيرورة تضمن العدالة والحرية لجميع سكان كوكب الارض، أو على العكس، في اتجاه إنتاج ظروف نشوب حروب طاحنة قد تقضي بالكامل على مقومات استمرار الحياة البشرية فيه.
في 5-11-2023
المنظمات الموقّعة:
1- تيار المناضل-ة، في المغرب
2- منظمة الاشتراكيين الثوريين، في مصر
3- محمود رشدي، الامين العام لحزب العمال الاشتراكي pst، في الجزائر، الموقوف عن العمل
4- التجمع الشيوعي الثوري – لبنان