اضطرابات اجتماعية ومقاومات وبدائل

اعتمد المؤتمر العالمي السابع عشر للأممية الرابعة هذا القرار بأغلبية 108 تفويض و5 أصوات ضد وامتناع واحد عن التصويت.

 

كانت السنوات الأخيرة مطبوعة بموجات تعبئات اجتماعية وسياسية متباينة المصائر. في البلدان المغاربية والشرق الأوسط، اصطدمت موجات الربيع العربي، دون أن تستنفذ طاقتها، بتضافر قوى رجعية. وفي بلدان أمريكا اللاتينية، أدركنا بداية دورة جديدة بعد هزيمة الحزب الاشتراكي الموحد الفنزويلي PSUV في انتخابات فنزويلا. وفي أوروبا، لم يحافظ ائتلاف سيريزا، بعد استسلام تسيبراس، على اتجاه الدينامية المنطلقة بانتخابه أو عبر التصويت الكثيف بـ"لا" في تموز/ يوليو عام 2015.

في العام 2008، كان إفلاس بنك ليمان براذرز بداية أزمة مالية عالمية كانت سبب أزمات ارتدادية عديدة، خاصة أزمة الديون السيادية في أوروبا. وأطلقت هذه الأزمة هجمات اجتماعية جديدة انضافت إلى الاضطرابات العميقة الناتجة منذ سنوات 1990 عن عمليات إعادة التنظيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد العام 1989 وبعد طور العولمة الرأسمالية الجديد.

يرمي هذا النص إلى تحليل مقتضب للتغيرات الاجتماعية الجارية في هذا السياق وفي الآن ذاته لمقدرات نضالات المُستغَلين/ات والمضطهَدين/ات وتجاربهم، وكذا لتطورات الحركات الاجتماعية والنقابية والسياسية المقاومة والمناضلة ضد الهجمات الرأسمالية.

والمسألة الذي نواجه هي واقع موازين القوى بين الطبقات على نطاق عالمي. وهذا يفترض تحليل ما يلي: 

. الواقع الاجتماعي للطبقة العاملة وغيرها من الطبقات المستغَلة الذي شهد تغيرات كثيرة منذ زهاء ثلاثين سنة، مع العولمة وإعادة الدمج الإجمالية لروسيا والصين في نظام اقتصادي رأسمالي عالمي؛

. القوة المنظمة للحركة العمالية وللحركات الاجتماعية المناضلة ضد الاستغلال وصنوف الاضطهاد في مجملها، تلك القوة شهدت تحولات كثيرة على مستويات مختلفة. إن تفكك الاتحاد السوفياتي ونهاية تنافس الاتحاد السوفياتي والصين حول الهيمنة "الاشتراكية" على الحركات المقاومة للإمبريالية غيرا إلى حد كبير الجغرافية السياسية في ما كنا نسميه "قطاعات الثورة العالمية الثلاث". لكن كيف صارت القوة الفعلية لكل حركة من حركات النضال المنظِمة للمستغَلين/ات والمضطهَدين/ات في مختلف هذه القطاعات؟

. ميادين التجذر الجديدة منذ عقدين من الزمن، لاسيما ضمن الأجيال الشابة. ورغم أن الحركة المناضلة من أجل عولمة مغايرة أضعف مما كانت بداية القرن، تظل مسألة العدالة الاجتماعية وضرورة محاربة سلطة البنوك، والمجموعات الكبرى والمؤسسات الدولية، عامل تجذر قوي. وثمة علاقة جلية بين العدالة الاجتماعية وفرصة عمل ثابت للعمال/ات، وحق الفلاحين في العمل في أراضيهم وبين مسائل البيئة. ويمكن أيضا أن نرى، خاصة فيما يتعلق بالتغيرات المناخية والمشاريع الكبرى غير النافعة، السعي إلى رقابة ديمقراطية على القرارات الكبرى وضد النظام المهني للسلطة المقترن بكتلة ساسة منفلتين من كل تحكم. كما يشكل التوق التحرري إلى العيش دون عنف، ودون فرض قوانين جائرة، حافزا قويا لتعبئات الحركة النسوانية وحركة المثليات/ات ومزدوجي/ات التوجه الجنسي والمتحولين/ات جنسيا [1] +LGBT. كذلك شأن النضالات المناهضة لصنوف الميز والعنف العنصري من أجل التخلص النهائي من إرث مجتمعات الاستعمار والرق. وأخيرا يمكن أيضا معاينة سلطة وسائل الاتصال الجديدة، خاصة الشبكات الاجتماعية كوسيلة لتنظيم التظاهرات ونشر المعلومات والتعبئة في جميع أنحاء العالم.

. مقدرة إضفاء تماسك سياسي على المعركة، فضلا عن متطلبات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هذه، وعلى دمجها في نضال شامل ضد النظام في وضع انتفاء "حركة عمالية عالمية". إن رفض عواقب السياسات الرأسمالية لا يفضي، على نحو آلي، إلى وعي معاد للرأسمالية. ولا تخلق الهوية الاجتماعية العمالية بحد ذاتها هوية طبقية. أي مقدرة ثمة على إدراج هذه النضالات في برنامج سياسي استراتيجي لإعادة نظر جذرية في المجتمع الرأسمالي وفي ما خلق أو أعاد هيكلته من صنوف اضطهاد؟ في هذا الإطار، ما النتائج الممكن استخلاصها من حركة العولمة البديلة ومن مختلف الشبكات العالمية الساعية في هذا القطاع أو ذاك إلى تنسيق النضالات؟ وأخيرا ما هي قوة واتجاه التيارات السياسية لجبهات النضال هذه، سواء اعتبرت نفسها ديمقراطية أو معادية للرأسمالية أو ثورية، على النطاق الوطني والإقليمي والعالمي؟  

I . عناصر تحليل   

1/ ما هو تطور وضع الطبقة العاملة والمستغَلين/ ات على المستوى العالمي؟

ينبغي تسجيل ظواهر هامة عديدة. لقد سرّعت العولمة حركة نمو صناعي واقتصادي في بلدان عديدة (الهند والصين وتركيا والمكسيك...)، وهي ظاهرة من اللازم منطقيا أن تستمر وتتنوع.

تنتج عن هذا ظاهرتان هامتان في البلدان المسماة " بازغة": التركز الحضري وتزايد عدد الأجراء بنسبة أسرع من ارتفاع عدد السكان (75% ما بين عام 1992 وعام 2012 فيما تزايد عدد السكان بنسبة 30%). يطابق هذا بجلاء تطور مراكز إنماء اقتصادي جديدة. وتمثلت خاصية أخرى هامة في النمو النسبي لقطاع الخدمات قياسا بقطاع الإنتاج، وكذا بلترة أشكال عمل مأجور عديدة كانت تعتبر سابقا مؤهلة، مثل التعليم أو الصحة، ما استتبع تنامي انخراط هذه المجموعات في تعبئات اجتماعية ضد وتيرات العمل، وتجميد الأجور وعمليات الخصخصة وهجمات أخرى.

لكن يلزم ألا يغيب عن النظر كون معظم السكان النشيطين في هذه البلدان ذاتها هم إجمالا عمال/ ات في وضع هش حسب معايير منظمة العمل الدولية (عمال داخل نطاق الأسرة دون أجر أو عاملون لحسابهم الخاص)، وهذه نسبة متنامية منذ عام 2008، ما يمثل إذا ميلا معاكسا. كما تسجل منظمة العمل الدولية منذ عام 2008 وتتوقع ارتفاعا مطردا لنسبة البطالة في السنوات الخمس المقبلة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وعاقبة كل ذلك واضحة: يدفع التمدن الكبير- حيث يميل طبعا وضع السكان القرويين، الذين باتوا أقلية مع التدمير الموازي للأنسجة الاجتماعية (مع إلغاء خدمات اجتماعية ومدارس في المناطق القروية والتركز في المتروبولات الضخمة)- نحو تدهور ظروف الحياة، رغم استمرار شبكات التضامن الفلاحية.

نحن إذن إزاء تزايد الطبقة العاملة عدديا، لكن بخصائص اجمالية مختلفة فيما يخص التطور الشامل للمجتمعات حيث يحدث هذا التطور.

في "البلدان الصناعية القديمة"، ترافق تطور البروليتاريا، بوجه أعم، مع نضالات نقابية وسياسية ضد البرجوازية في إطارات وطنية، وكذا، مهما كان عنف النضالات الطبقية في القرن العشرين، مع انتزاع حقوق اجتماعية في إطار الدول، مبلورا موازين قوى بين الطبقات. لم يكن الاعتراف بحقوق البروليتاريا الجماعية مرتبطا بعقد العمل في المقاولة وحسب، بل أيضا بالحقوق الاجتماعية الجماعية في إطار المجتمع المدني، إذ تنازلت البرجوازيات باستعمال قسم من الأرباح الرأسمالية لتمويل أنظمة مساهمة وإعادة توزيع ضريبية شُيدت عليها معظم المجتمعات الصناعية في القرن العشرين. تجسد هذا في مساومات اجتماعية، وتطور "الدولة الاجتماعية"، مرتبطة بأنظمة ايديولوجية موروثة عن الفلسفة الوضعية والمسيحية الاجتماعية. كانت هذه الإيديولوجيات وهذه المساومات أيضا ردا لا غنى عنه بوجه تطور بالغ للتيارات الماركسية والاشتراكية. لم يعد كل هذا قائما حاليا ولا يجري التطور الصناعي في البلدان المسماة بازغة إطلاقا في نفس السياق. على سبيل المثال، فيما يتعلق بصناعة إنتاج السيارات "المنتقلة إلى الشرق" نرى ما يلي: بغض النظر عن المكسيك والأرجنتين والبرازيل، فإن مناطق التطور الكبرى هي أوروبا الشرقية وتركيا وإيران وباكستان والهند والصين. في هذه الحالات، فإن خطوط الإنتاج والمؤهلات هي نفسها كما هو الحال في البلدان الصناعية القديمة، لكن الحقوق الاجتماعية وقانون العمل مختلفة تماما. ويمكن وضع جداول مماثلة في قطاعات صناعية أخرى عديدة. في مجالات التنمية الصناعية تلك، لم تعد مساومات القرن الماضي الاجتماعية قائمة. وفي البلدان الصناعية القديمة، باتت تلك المساومات ذاتها موضوع مراجعة بفعل سياسات التقشف الليبرالي. وبجانب ذلك، هناك أوضاع شبه عبودية، خاصة بالنسبة للعمال المهاجرين، حيث تفلت مصانع سرية من كل تشريع.

 

2/ تطور معدل الاستغلال أيضا على المستوى العالمي

إن للتغيرات الاقتصادية في السنوات الأخيرة عواقب مختلفة... لم تشهد الأجور ركودا في البلدان المصنعة القديمة وحسب، بل شهدت السنوات الأخيرة أيضا زيادة في مكاسب الإنتاجية على حساب الأجور، ما فاقم الميل العام، المعروف منذ سنوات 1980، المتمثل في خسائر كتلة الأجور لصالح الرأسمال. كما كانت عقود العمل الهش، وانتهاكات تشريعات العمل، في البلدان المصنعة القديمة، أحد العناصر الرئيسة لمكاسب الإنتاجية هذه (عقود صفر ساعة عمل في بريطانيا [2]، وعقود عمل Jobs Act في إيطاليا، ووظائف صُغيّرة في ألمانيا minijobs...). يستهدف صعود فرص العمل الهشة وتدهور ظروف العمل هذا الشباب ذوي العلاقات الضعيفة مع سوق العمل، ويستعمل رافعة لإستراتيجية عامة للتغيير الإجمالي لسوق العمل انطلاقا من أضعف نقطة في الطبقة العاملة.

رغم كبح الإنتاج في عام 2008، في معظم مناطق الإنتاج الجديدة، حصل الأجراء على زيادات فعلية في الأجور، لا سيما في الصين. ورغم طابع الإضرابات الاقتصادي على صعيد المقاولة، كانت تأثيراتها ملموسة.

تُلاحظ في هذا السياق تجليات ما سمي "تأنيث" سوق العمل والفقر. ويُمكن فهم الأمر بطريقتين: من جهة، أن الشروط التي كانت مميزة للتشغيل الشكلي للنساء تتعمم على مجمل قوة العمل: عدم استقرار العمل وهشاشته، عقود مرنة، أجور أدنى من اللازم لأداء قفة حاجات أسرة. ومن جهة أخرى، يشرح هذا أيضا تكاثر عروض عمل للنساء خاصة فرص العمل التي يتواصل تأنيثها، مثل عمل العلاجات والرعاية. ويوم العمل مزدوج بالنسبة للنساء اللائي يقمن بالمهام العمال المنزلي غير المؤدى عنها.

هكذا تستمر عناصر التوتر الاجتماعي في سوق العمل في كل من البلدان "البازغة" وفي الاقتصادات القديمة، إما بفعل ضغط بطالة متنام، وإما بتدهور خفي لظروف العمل ولأنظمة الحماية الاجتماعية. يعيش زهاء نصف عمال العالم خارج نظام العمل المأجور، في حالة هشاشة فائقة. وينحو الاتجاه صوب تعميم عقود العمل الهشة وتشريعات مقلصة إلى أدنى حد للحمايات القانونية من التسريحات. وتفاقم هذه التطورات المرونة ومقدرة الرأسماليين على أقصى تكييف لساعات العمل ولعدد الأجراء وفق الحاجات اليومية. ويترافق ذلك مع تنظيم لوجستي لسلاسل انتاج وتوزيع يتيح أقصى تقليص تلك التكاليف بلجوء إلى عدد لا يحصى من مقاولات من باطن. وتتيح معاهدات جديدة كثيرة للشركات الكبيرة الإفلات من التشريعات الوطنية، منها على سبيل المثال شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي TTIP، واتفاقية تجارة الخدمات TISA، الخ. وتنهي قوانين جديدة، كل شهر، في الاتحاد الأوروبي، قوانين وطنية قديمة. وثمة في الواقع، على صعيد عالمي، سلطتان هرميتان: سلطة الدول وسلطة المقاولات، والثانية متزايدة القوة فيما يتعلق بتنظيم التجارة وعقود العمل.

انتقلت أزمة الديون في العقد الأخير من بلدان الجنوب نحو البلدان الرأسمالية المتقدمة: أزمة ديون الأسر في بلدان عديدة (الولايات المتحدة الأمريكية والهند...)، وأزمة الديون السيادية في أوروبا. وتؤدي هذه الأزمات إلى تسريع الهجمات الاجتماعية، والهشاشة وأوضاع البؤس الاجتماعي، وأيضا إلى تعجيل ضرورات الافتحاص، ورقابة السكان لإيقاف هذه السياسات. ويشير مفهوم تأنيث الفقر إلى أن النساء هن أيضا من يصبح "الهدف" المفضل لهذا الطراز من السياسة. يجري حفزهن بما هن أمهات، مع متطلبات مسؤولية يلزمهن اتباعها لتطبيق تلك السياسات، ويجري إشراكهن في تبنيك bancarisation توفيراتهن وتمييلها financiarisation.   

تضعف كل هذه التغيرات مقدرات التنظيم الجماعي وهيكلة متحدات المقاومة في الأمد الطويل. وتحفز في الآن ذاته ضرورات المقاومة وديناميات التنظيم الذاتي. ويفرض ذلك في الوقت نفسه تطوير التنظيمات الاجتماعية الترابية القادرة على تجميع العمال/ ات المعزولين/ ات أو المتنقلين/ ات، بتجاوز إطار المقاولات.

كما أن سيرورات التأنيث المشار إليها، وكذا إضعاف بعض الهويات التي كانت مُجمِّعة، مثل الهوية النقابية، يفسران بزوغ فاعلين اجتماعيين "جدد" مع دور قيادي غير مسبوق، مثل النساء، وكذا ببلدان عديدة المثليين/ات LGBT+.

3/ هجمات على كل الصعد ضد السكان الفلاحين

رغم تناقص عدد السكان الفلاحين المستمر، تشغل الزراعة 1.3 مليار رجل وامرأة، أي نسبة %40 من السكان النشيطين. ويشكل الفلاحون دوما معظم السكان النشيطين في أفريقيا وآسيا. وقد واجه الفلاحون، منذ عقدين، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، استراتيجيات "عمليات تحديث محافظة" زعزعت بعمق البنيات الفلاحية سعيا إلى تكييفها مع العولمة الرأسمالية. وثمة أخطار عديدة تهدد الفلاحين، وتهدد أبعد من ذلك الأنظمة الغذائية والتوازنات البيئية، وهي: الصعود القوي للصناعة الزراعية، والاستيلاء على الأراضي، وانتشار الزراعات الأحادية الموجهة للتصدير على حساب زراعات معاشية، وضغوطات على الموارد الطبيعية.

إن الاستيلاء على الأراضي ظاهرة عالمية، تشنها نخب محلية، ووطنية وعابرة للقوميات وكذلك مستثمرون ومضاربون، بتواطؤ من الحكومات والسلطات المحلية. وتفضي إلى تركز الملكية العقارية والموارد الطبيعية بين أيدي صناديق الاستثمار الكبرى، ومالكي المزارع والمقاولات الكبيرة العاملة في صناعة منتجات الغابات ومحطات الطاقة الكهرَومائية والمناجم. وتسببها أيضا الصناعة السياحية والعقارية، والسلطات المشرفة على إدارة البنيات التحتية المينائية والصناعية.

أدى تركز الملكية هذا إلى طرد سكان محليين من أراضيهم وتهجيرهم قسرا- وفي المقام الأول الفلاحات والفلاحين. ويؤدي إلى انتهاكات حقوق الإنسان وخاصة حقوق النساء. 

أصبحت المؤسسات المالية، مثل البنوك وصناديق التقاعد وغيرها من صناديق الاستثمار، محركات قوية لسلب الأراضي. وفي الوقت نفسه، تشن حروب طاحنة في الوقت الراهن للتحكم بالثروات الطبيعية. 

وتقترن عمليات الاستيلاء على الأراضي مع تنامي تحكم المقاولات الخاصة في الزراعة والتغذية عبر تعزيز التحكم بالموارد مثل الأرض والماء والبذور وغيرها من الموارد الطبيعية. وفي السباق من أجل الربح هذا، يعزز القطاع الخاص تحكمه بأنظمة الانتاج الغذائي، ويحتكر الموارد ويكتسب مركزا مهيمنا في سيرورة اتخاذ القرار.

إن الفلاحات والفلاحين، ومعدومي الأرض والشعوب الأصلية، وبوجه أخص النساء والشباب، والعمال الزراعيين في أوضاع هشة، مجردون من مصادر عيشهم. كما تدمر هذه الممارسات البيئة. طُردت الشعوب الأصلية والأقليات الاثنية من أراضيها، غالبا باستعمال القوة، وهذا يزيد تفاقم وضعها الهش، ويلقي بها في بعض الحالات إلى العبودية.

وتخوض حركات الفلاحين تعبئات في جميع القارات. تكاثرت هذه المقاومات في العقدين الأخيرين محورها السيادة الغذائية. إضافة إلى ذلك، يوجد هؤلاء السكان الفلاحون في قلب كل الأزمات التي تعصف بالعالم الحالي: أزمة اقتصادية وعواقب الديون العامة والخاصة، وأزمة غذائية، وتغيرات مناخية مسببة للهجرة، وانتهاك حقوق النساء والأقليات. زادت حكومات بلدان الجنوب، في السنوات الأخيرة، تحت ضغط سداد الديون، حدة سياسات تصدير زراعي واستخراج موارد عرضت السكان الفلاحين لعواقبها، بسبب الأضرار البيئية واستيلاء تروستات صناعة الأغذية على الأراضي.

4/ ما عواقب التزايد الكبير لظواهر الهجرة؟

باتت مناطق عديدة بالعالم مواقع نزوح سكان كبيرة. 250 مليون مهاجر دولي، و750 مليون مهاجر داخلي (مهَجَّر...). وغالبا ما تنتج عمليات النزوح هذه عن تغيرات اقتصادية هيكلية، وعن فوارق شاسعة بين المناطق: هكذا تجتذب جنوب أفريقيا وأنغولا مهاجري البلدان المتاخمة، تماما كما الأرجنتين وفنزويلا في أمريكا اللاتينية وأستراليا واليابان في شرق آسيا وفي جنوب شرقها. وتجتذب دول الخليج عددا كبيرا من المهاجرين القادمين من منطقة القرن الأفريقي ومن تركيا وشبه القارة الهندية والفلبين. يعيش زهاء 20% من سكان الفلبين النشيطين ويشتغلون في الخارج، نسبة %50 منهم في الشرق الأوسط، معظمهم نساء. تجري نسبة ثلثي حركات الهجرة العالمية بين بلدان ذات مستوى تنمية مماثل وتتجه نسبة الثلث نحو الولايات المتحدة الأمريكية (المكسيك) وأوروبا قادمة أساسا من إمبراطورتيها الاستعمارية سابقا. لكن تنضاف أيضا إلى هذه الظواهر الدائمة حركات نزوح ناجمة عن الحروب، لاسيما في سوريا والعراق وإرتيريا وأفغانستان، وكذا عن التغيرات المناخية.

تؤدي هجرة النساء، في السياق الراهن لأزمة العولمة الرأسمالية للاقتصاد، إلى تعميق وزيادة ظروف الاضطهاد وتولد آثار عديدة وأوجه استغلال للنساء كثيرة. يعكس السياق الذي تجري فيه الهجرة الإفقار الاقصى وفقد قطاعات كبيرة من سكان العالم حقوقهم. تهاجر النساء بسبب الحاجة إلى ظروف حياة أفضل لهن ولأسرهن، وبسبب نقص فرص مهنية في بلدانهن الأصلية. كما يهاجرن بفعل أشكال الاضطهاد السياسي وما يهدد حياتهن في سياق الحرب.

وفي جانب آخر، نجد نساء وأسرهن في تدفق اللاجئين الفارين من بلدانهم الأصلية بدفع من الحرب والعنف نحو أوربا، مثل ما في سوريا ومناطق أخرى بالشرق الأوسط. وتجرى مآسي على طرق ولوج أوربا، وعلى السواحل أو بعبور البحر المتوسط، وكذا في بلدان أوربا الشرقية او البلقان مع المهاجرين الساعين إلى بلوغ ألمانيا أو بلدان أخرى. تواجه النساء في هذا السياق أشكال ميز جندرية والعنصرية والاستغلال.

وللهجرة أيضا وجه آخر مع المتاجرة بالنساء في ما يبلغن من بلدان، مثل انجلترا، والدنمارك، وهولندا وغيرها. وتواجه النساء في البلدان حيث الجريمة المنظمة وكارتيلات المخدرات قوية، مختلف المخاطر مثل الاحتجاز والاختطاف لدمجهن في شبكات الدعارة العالمية أو تجارة النساء. وفي حالات أخرى عبر تلاعبات بالغة التعقيد مثل "التجنيد العاشق" الذي تتورط فيه أسر كاملة لمتاجرين بالنساء. كما تمثل عمليات الخداع أو وعود بالعمل فخا لنقل النساء إلى بلدان أخرى حيث يجبرن على الدعارة. يوجد في بعض الأماكن صلة بين الهجرة وتجارة السياحة الجنسية.

وتستعمل سياسيا حملات كره الاجانب لتقديم المهاجرين كاعداء، حتى للطبقة العاملة.  تلك كانت حالة البريكسيت في بريطانيا أو ترامب بالولايات المتحدة الأمريكية. وفي بلدان مثل الدنمارك تطورت حملات كره للأجانب تستعمل خطابة "نسوانية وطنية" تدعي أن الهجرة تنسف حقوق النساء المولودات في بلدان الوصول. والخطاب "النسواني الوطني" قريب جدا من "المثلية الوطنية" التي يقدم فيه اليمين الكاره للأجانب فكرة تهديد الهجرة لحقوق المثليين/ات ومتحولي/ات ومزدوجي/ات الجنس (م.م.م).

موازاة لذلك، نجد التعبير الآخر عن المشكل المتعلق بالهجرة من النمط الاقتصادي حيث تجد ظروف الفقر والتفاوت وغياب فرص العمل أصلها في العواقب الكارثية للنيوليبرالية التي تدفع ملايين الاشخاص إلى مغادرة بلدانهم بحثا عن العمل. يعني هذا بوجه خاص الشباب وتحدي تحقيق مشاركتهم في منظمات اجتماعية وفي النقابات.

 في حالة الفلبين، مثلا، ثمة 10 مليون شخص خارج البلد يعملون في أماكن بعيدة كالمملكة السعودية، أو بالشرق الاوسط بوجه عام. وتمثل تحويلات عمال/ ات الفلبين من الخارج إلى أسرهم قسما أساسيا من مداخيل العملة الصعبة. وفي هذه الحالة تمثل النساء المصدر الرئيس لهذه المداخيل، إذ تُفترض سهولة ايجادهن عملا، وحتى باعتبار كونهن خاضعات غالبا للمتاجرة وللدعارة، وجلي أن للأمر عواقب خطيرة على النسيج الاسري، ويؤدي إلى قطيعات.

نجد، بأنحاء متباينة، بمختلف مناطق العالم حيث تتجلى اشكال اضطهاد المهاجرين واستغلالهم هاته، لا سيما النساء، أشكال استعباد في العمل، واحتجاز ومتاجرة بقصد الدعارة.

فيما يخص موجة التنقلات والهجرة بأمريكا اللاتينية، تتمثل إحدى الحالات الأكثر مأساوية، وفي الآن ذاته إحدى أمثلة مختلف تجارب المقاومة، في المكسيك. هذا البلد معبر لازم لمئات آلاف المهاجرين، ليس المكسيكيين وحسب، بل أيضا من أمريكا الوسطى ومناطق أبعد كأفريقيا، صوب الولايات المتحدة الأمريكية. يسعى المهاجرون إلى فرص عمل أو ملاذ (للهاربين من العنف في أمريكا الوسطى)، ويحاولون عبور الحدود المشتركة على امتداد ألف كيلومتر بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية. هذا ما جعل حملة دونالد ترامب الغوغائية ضد عمال المكسيك المتهمين بسرقة فرص العمل في المصانع الأمريكية مركزة على بناء جدار على طول تلك الحدود (المقصود في الواقع استكمال بنائه).

وتنضاف الآن إلى الوضع الحرج للهجرة نحو الولايات المتحدة الأمريكية خطر سياسة ترامب العنصرية والكارهة للأجانب الت تنوي طرد زهاء 3 مليون عامل مكسيكي في الامد القريب. إبان حكومة أوباما، تم بالضبط طرد 3 ملايين عامل مكسيكي. ويتمثل المشكل الراهن في إرادة ترامب نفي هذا العدد من الأشخاص في سنة واحدة. وسيكون ذلك مفجر أزمة اجتماعية ذات عواقب غير متوقعة في المكسيك، سوف تنضاف إلى أزمة حقوق الانسان وإلى الأزمة السياسية. وفضلا عن عمليات الترحيل، ستتعرض تحويلات الأموال من العمال المكسيكيين إلى ذويهم بالبلد لتقليصات. وتمثل تلك التحويلات ثاني مصدر عملة صعبة بالبلد بعد صادرات السيارات (تقوم بها مقاولات يريد ترامب إعادة توطينها بالولايات المتحدة الأمريكية)، لكنها أهم من الاستثمارات الأجنبية المباشرة والسياحة وصادرات البترول. وتوجد المكسيك في المرتبة الرابعة بين البلدان المستقبلة لهذا النوع من المداخيل، بعد الصين والهند والفلبين.

و تكتسي عواقب هذه السياسات دلالة خاصة فيما يخص النساء. وستؤدي القوانين التي يريد ترامب فرضها، مثل الغاء "المدن الملاذات" (حيث لا يُرخص للشرطة مراقبة وثائق هجرة الاشخاص الذي ارتكبوا مخالفات طفيفة، مثل مخالفات السير)، إلى تحطيم أسر أثناء عمليات الترحيل...  يحصل أطفال امرأة بلا أوراق ثبوتية بالولايات المتحدة الأمريكية على الجنسية الامريكية. وبوسع المرأة أيضا الحصول عليها حاليا بعد عملية مديدة ومحفوفة بالمخاطر ومكلفة. تؤدي المقتضيات القانونية الجديدة إلى تدمير الأسر، إذ يُنزع منها الأطفال وتُرحل النساء الى المكسيك. وتروم إحدى المقتضيات القانونية التي يدفع بها ترامب معاقبة كل مهاجر "غير شرعي" يُعتقل في محاولة دخول جديدة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد طرد سابق منها، بعشر سنوات سجنا. لكن المكسيك، فضلا عن كونه جسرا نحو الولايات المتحدة، قد يكون نقطة وصول لمهاجري بلدان أخرى. بفعل التقييدات الجارية في الولايات المتحدة الأمريكية، يوجد آلاف المهاجرين محبوسين في المكسيك، خاصة المدن الحدودية مثل تيخوانا ونويبو لاريدو. قام أوباما ساعات قبل مغادرة الحكومة بإلغاء المقتضى القانوني المعروف باسم "الأجل الجافة" الذي كان يمنح كل كوبي بلغ أرض الولايات المتحدة بطريق برية، وليس بحرية، حق اللجوء بأثر فوري. وفي فبراير/شباط 2017 طالب آلاف الكوبيين بإمكان الالتحاق بالولايات المتحدة عبر نويبو لاريدو. لم يكن لهؤلاء الكوبيين، هم أيضا، أي حق في المكسيك.

ظهر وضع مماثل في تيخوانا حيث الحدود مسدودة بوجه آلاف الهايتيين والأفارقة الذين دفعوا مبالغ مالية طائلة لمهربين بقصد ايصالهم من بلدانهم إلى الولايات المتحدة. ويوجد بين هؤلاء الهايتيين أسر كاملة، وكذا العديد من الاشخاص ذوي مستويات تأهيل عالية.

 تضاف الآن إلى الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يمثلها آلاف المهاجرين المحبوسين، بلا عمل وبلا حقوق، العنصرية بين سكان المكسيك ضد الهايتيين والأفارقة بتهمة الإجرام. إن كان المكسيكيون يشتكون من المعاملة السيئة للمهاجرين بالولايات المتحدة، فإن المعاملة ذاتها تطبق على المهاجرين في الطريق نحو الولايات المتحدة.

ويضاف حاليا إلى العنصرية التي تسلبهم وتستغلهم أفعال كارتيلات المخدرات، التي تهاجم، بدعم متكرر من السلطات المكسيكية، حافلات المهاجرين من أمريكا الوسطى، كما في سان فرناندو وتاماوليباس. وفضلا عن السرقات والاغتيالات التي يتعرض لها قسم منهم، يجري تجنيد آخرين للعمل في ظروف قريبة من الاستعباد أو كقتلة مأجورين. أما النساء فيُخضعن للدعارة التي تشكل قسما من الانشطة الاقتصادية للكارتيلات أو في خدمة المهربين.

كما يتجلى الميل إلى طرد اليد العاملة، الناتج عن العولمة الرأسمالية، في ارتفاع هجرة النساء والاطفال في وضع خطر (وكذا ارتفاع عدد الاطفال المسافرين بالمفرد حتى الولايات المتحدة). كانت النساء يمثلن، حسب أرقام رسمية، نسبة %44.7 من المهاجرين في حقبة 2004- 2007 و%47.5 في حقبة 2013- 2015. كما تفوق نسبة البطالة بين النساء المهاجرات نظيرها بين المهاجرين الذكور.  وتشهد هجرة نساء المكسيك ارتفاعا منذ سنوات 1960 حتى الآن. وفي 2012، بلغ عدد النساء القاطنات في الولايات المتحدة 5.5 مليون، أي نسبة %46 من سكان المكسيك المقيمين بهذا البلد. وكانت ظروف دمجهن المهني وتشغيلهن مطابقة للأدوار المسندة تقليديا للنوع الاجتماعي.

تشير منظمات متنوعة إلى تعميم التعديات على النساء المهاجرات وإلى أن الاغتصابات باتت مشهدا. تؤدي الادوار والسلوكات النمطية المسندة للنساء إلى جعلهن أكثر تأثرا ويعرضهن ليصبحن ضحايا العنف الجنسي والاختطافات والمتاجرة والدعارة والاغتصاب والفصل عن أسرهن (يسافر الكثير منهن مع أطفال)، والاعتقالات التعسفية، والأمراض والحوادث والقتل. وغالبا ما يتحملن عبء أطفال يهاجرون معهن، ما يجعلهن هدفا مزدوجا. وبالنظر لوضعهن بلا أوراق ثبوتية، تتراكم مصاعب الحصول على فرصة عمل، وعلى سكن ومداخيل، أو الإفادة من الخدمات الاجتماعية لهن ولأطفالهن.

طبعا بات تسارع ظواهر الهجرة هذا مسألة سياسية هامة وظاهرة اجتماعية دائمة. ولدى البلدان المصنعة إمكانات واسعة لاستقبال المهاجرين الراغبين في دخولها، لكن هؤلاء يصبحون رهان حملات كره أجانب في بلدان عديدة، في الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وأوروبا وجنوب أفريقيا... ويتمثل التحدي المزدوج المطروح على الحركة العمالية في النضال في الآن ذاته ضد هكذا كره أجانب وفي المساعدة على استقبال هؤلاء العمال/ ات المهاجرين/ ات، الذين [اللواتي] عززوا و[عززن] حديثا الطبقة العاملة في بلدان قديمة عديدة. وما يمثل تحديا لإمكان تنظيم هؤلاء العمال/ ات في النقابات. وتشغل بعض بلدان الخليج أو حتى إسرائيل، على نطاق واسع، مهاجرين/ ات في حالة شبه عبودية، من أجل تطوير النشاط الصناعي.

5/ تأثير الأزمة البيئية

إننا نواجه كوارث بيئية على نطاق غير مسبوق، مع تغيرات مناخية من صنع الإنسان كأخطر خاصية.

يجعل التصحر والملوحة والفيضانات مناطق كبيرة من العالم غير صالحة لحياة الإنسان أو للزراعات الغذائية. وتخلق الفوضى المناخية أحداثا مناخية قصوى تؤدي فيها الخسائر في الأرواح، وعمليات تدمير المساكن والبنيات التحتية، إلى الموت والبؤس وإفقار مدقع لملايين البشر.

في مناطق عديدة من العالم، تميزت العقود الأخيرة أيضا ببروز حركات سكان أثارتها التغيرات المناخية وغيرها من أوجه الأزمة البيئية. وستكتسي حركات السكان تلك أهمية مطردة فيما يخص سكانا من بين الأفقر في العالم. كان إحدى عواقب المشاريع الرأسمالية (كالسدود العملاقة مثلا) والإصرار على تطبيق أشد لطرق قصوى لاستخراج الوقود الأحفوري، في مناطق كثيرة من العالم، هجوما جديدا على مجتمعات محلية بأكملها: ففي الفلبين وكندا ومنطقة الأمازون، تعتدي خطط تحويل مناطق بأكملها على شعوب غالبا ما تنتمي إلى الأمم الأولى وإلى غيرها من مجموعات باتت تعاني من أشكال ميز. وتتشكل في هذه المناطق جبهات تنظيم ذاتي شعبي ويخاض نضال ضد الكوارث المناخية وضد المشاريع المدمرة.

وتتمثل خلاصة النتائج العامة في عالم يشهد تغيرات قوية في مناطق عديدة، مع تطور للعمل المأجور مفض إلى اضطرابات اجتماعية كبيرة. ويحدث هذا في حقبة حيث لا يجري التطور الاقتصادي في إطار تطوير الدول لبنيات وخدمات قادرة على ضمان ظروف معيشية أفضل. الواقع عكس هذا بالضبط في معظم الحالات، ويفضي بطرق مختلفة تدهور في الظروف المعيشية اليومية، متفاقم في مناطق كثيرة بسبب أوضاع حرب والتغيرات المناخية. وتمثل النساء والشباب الفئات الأشد تضررا من هذا الوضع.

II/ جبهات الرد على الهجمات

1/ تطور الحركة النقابية المتفاوت

نشهد، طبعا، تطورا هاما للحركة النقابية في قطاعات الأجراء الجديدة، في البلدان التي تشهد تصنيعا، وعدد كبيرا من مقاومات متطلبات أرباب العمل بالإضرابات. لكن ذلك يحدث، إجمالا، في وضع أصبحت فيه المكاسب الاجتماعية التي انتزعتها "الطبقة العاملة القديمة" (تقاعد وضمان اجتماعي بوجه خاص)، مستهدفة في أوروبا وفي غيرها من البلدان المصنعة باسم خطط التقشف، بدل امتدادها إلى البلدان البازغة. وكذلك في الصين، التي شهدت في السنوات الأخيرة عددا كبيرا من الإضرابات المحلية، خاصة حول مسألة الأجور، لكن ذلك لم يفض إلى تشكيل حركة نقابية مستقلة عن جهاز الدولة.

إن الطبقة العاملة في تزايد عددي مستمر، وتجدر الإشارة أن مراكز تزايدها انزاحت صوب آسيا، وستتجه مستقبلا بلا شك نحو أفريقيا. في هذه المناطق، تتبع قوى نقابية في طور البناء تزايد العمل المأجور العددي، ووزنه الاجتماعي المتنامي، وتخلق أسس وعي طبقي، لكنها لا تمتلك البنية السياسية القوية التي كانت تشكل عمود فقريا سياسيا للحركة العمالية الأوروبية، رغم أن تناقض هذا النموذج غالبا ما تمثل في تفويض المسائل "السياسية" للأحزاب السياسية.

وتجري دوما نضالات قوية ليس في البلدان الصناعية القديمة وفي أمريكا اللاتينية وحسب، بل حتى في جنوب إفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء وتركيا، وفي شبه القارة الهندية وآسيا. 

لكن في عصر العولمة، باتت ضرورة أن تأخذ النقابات على عاتقها انشغالات أوسع نطاقا، مثل العنصرية أو كل صنوف الميز أو مسألة السكن، متعاظمة وتشكل حامل تجذر. ورغم وجود بعض محاولات التنظيم في قطاعات هشاشة فائقة مثل الوجبات السريعة في الولايات المتحدة الأمريكية وبدرجة أقل في انجلترا، فإن العمال الأكثر هشاشة (الأكثر شبابا مع نسبة أكبر من المهاجرين والنساء) هم عموما، في البلدان المصنعة القديمة، الأقل تنظيما.

وثمة أيضا مسائل إستراتيجية أخرى في الوضع الراهن. وتطرح نقابات قطاعات عديدة، في عصر العولمة، مسألة الاستعاضة عن التنظيم في نقابات صناعة بتنظيم على شكل "سلسلة القيمة" [3]، أي تنسيق بين جميع القطاعات التي تتيح تحقيق نفس الإنتاج. ومما يزيد أهمية ذلك أن السعي إلى أقصى الأرباح يؤدي إلى سياسات تشتت سيرورات الإنتاج، مع الدعوة إلى استعمال المقاولة من باطن في نفس الموقع أو معظم الأحيان على المستوى العالمي. وأبعد من ذلك، تشكل الديمقراطية النقابية مسألة أساسية بالنسبة لبناء منظمات فعالة.

ولا يمكن لتشكيل اتحاد النقابات العالمي CSI، بمثابة اتحاد نقابي وحيد يضم معظم القوى النقابية على المستوى العالمي، أن يخفي تفاوتا كبيرا خاصة في مقدرة الدفاع عن مصالح الأجراء ومواجهة خطط الرأسمالية. إن ضعف النقابات والمنظمات السياسية المتبنية الماركسية والصراع الطبقي والتي تقوم بعمل تثقيف في صفوفها يؤدي إلى ضعف الوعي الطبقي.

تواجه الحركة النقابية إذا مشاكل عديدة رئيسة:

  • مقدرة استيعاب جميع المسائل الاجتماعية التي تطرح في المجتمع (العنصرية وكره المثليين وأشكال الميز ضد النساء والسكن). وتشكل الحاجة إلى استيعاب مسائل البيئة ضرورة رئيسية. إن التوترات القائمة بين الحفاظ على فرص العمل والنضال ضد المضر من مصانع وعمليات إنتاج تفرض اعتماد نظام مطالب يتيح تجاوز تلك التناقضات.
  • مقدرة الأخذ بعين الاعتبار واقع العمل الهش في جميع أشكاله وبالتالي حفز وخلق البنيات التي تتيح تنظيم جميع المعنيين رجالا ونساء، خاصة تطوير البنيات في إطار يتجاوز المقاولات، في مناطق النشاط الصناعي، والأحياء والبلدات. يهم هذا بوجه خاص الشباب الذين غالبا ما يكونون المبادرين إلى خلق فروع نقابية.
  • الضرورة الملحة لتنسيق التنظيم على المستوى العالمي، ارتكازا على الشبكات الفعلية لسلاسل الإنتاج حيث يوضع العمال/ات في حالة تنافس الجميع مع الجميع.
  • مقدرة خلق هوية طبقية، انطلاقا من النضال من أجل الحقوق، هوية طبقية تزود نضالات المقاومة ببرامج تتيح رفض البنيات الرأسمالية في المجتمع وحمل مشروع إطاحة هذا النظام.

2/ التنظيم الذاتي والتعاونيات

تظهر في بلدان عديدة، بوجه التسريحات وإغلاق المقاولات، في معظم الأحيان من قبل الشركات العالمية الكبرى، حركة إعادة امتلاك المقاولات، نظير مقاولة زانون في الأرجنتين، حيث توجد حاليا أكثر من 300 مقاولة استعادها العمال في أعقاب عام 2002. وعلى النحو ذاته، في أوروبا، تتطور شبكة مقاولات مسيرة ذاتيا حول مقاولات فراليب Fralib وفيو مي Vio-me وريمافلاو Rimaflow...

وعلى النحو ذاته تؤدي العديد من نضالات جماعات الفلاحين، بوجه الشركات الكبرى وتروستات الصناعة الزراعية، إلى إنشاء تعاونيات إنتاج ساعية إلى تحكم في توزيع منتجاتها.

تبرز هذه التجارب، رغم محدوديتها، مسألة رقابة العمال/ات، واستعادتهم/هن وسائل الإنتاج، وكذا خيارات الانتاج المرتبطة بالحاجات الاجتماعية.

ما ينقص بكل مكان هو قوة ارتباط اجتماعي قائم على تجارب متينة من نضالات المقاومة، محدودة لكن مستديمة، وأجنة مجتمعات بديلة، و"معاقل" تقاوم الصدامات وتنسج تحالفات، وفضاءات مواجهة، وخطابات ثقافية وسياسية تطرح حقيقة مسألة نوعية البديل الاقتصادي والاجتماعي.

يجب أن نسعى إلى تحقيق تمفصل ديالكتيكي بين "مع" و"ضد"؛ المقاومات والبدائل؛ التبادلية الاقتصادية/ التعاونيات والنضال من أجل الحقوق. يجب أن ندعم ونشجع تجارب أشكال جديدة من التنظيم المباشر للعمل المأجور والتعاوني. التسيير الذاتي كأداة لتطبيق هدف إعادة بناء وعي طبقي واقتراح ديمقراطية جديدة من أسفل. وهيئات تقطع أخيرا الثنائية القديمة بين العفوية والتنظيم، والفكرة القديمة بصدد الوعي السياسي القائم فقط في الأشكال الحزبية الواجب "استيراده" إلى التجارب النضالية. يمكن للحظتين أن تتعايشا في طور حيث يجب الكف عن فصل الممارسة الاجتماعية عن البلورة النظرية والثقافية.

3/ النضالات ضد الديون

منذ عشر سنوات وبداية الأزمة المالية، اتخذت أزمة الديون بعدا متجاوزا إلى حد كبير الأبعاد السابقة: فأبعد من أمريكا الشمالية وأزمة الديون السيادية في الاتحاد الأوروبي، تضرر ويتضرر سكان الهند وسكان الدولة الإسبانية وسكان بلدان عديدة بأوروبا من تلك الأزمة، خاصة مع طرد أكثر من عشرة ملايين أسرة من سكناها في السنوات الأخيرة، ولكن أيضا، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، مع ديون الطلاب.

كانت هذه الديون غير الشرعية سبب ظهور حركات عديدة للنضال من أجل إجراء عمليات افتحاص.

4/ نضالات الفلاحين

وتجمع نضالات محلية عديدة حركات الفلاحين والسكان الأهليين في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأوروبا. وتوجد مسألة الاستيلاء على الأراضي والسيادة الغذائية في قلب جميع النضالات. وكلها مطبوعة بتداخل الكفاحات المناهضة للرأسمالية والكفاحات البيئية والنسوانية ضد أشكال الميز والاضطهاد الإثني، ومن أجل حقوق المهاجرين. كما كانت مسألة الديمقراطية والسيادة وحق التقرير بوجه الحكومات والمقاولات متعددة الجنسيات في صميم المطالب. وقد نجحت حركة فيا كامبيسينا، التي تضم ما يفوق 160 منظمة في 70 بلدا، منذ عشرين عاما، في تجميع ملايين الفلاحين/ات وصغار المنتجين/ات. وأفلحت بوجه خاص في وضع مسائل النسوانية والسكان الأهليين والبيئة في صلب مشاغلها.

وفي أمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية يتداخل النضال من أجل حقوق الجماعات الأهلية والحق في الأرض، وغالبا ما يواجهان بالقمع القاتل، كما الحال في البرازيل وهندوراس. وفي آسيا وأفريقيا ومالي على سبيل المثال، ينظم الفلاحون تعبئات ضد عمليات الاستيلاء على الأرض.

5/ مكانة حركات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية

بدءا من حركات الساخطين في اسبانيا، وحركة الميادين في المدن الكبرى بالمناطق العربية، وحركة احتلوا، امتدت منذ عام 2011 موجة طويلة من نضالات ديمقراطية في أفريقيا وأوروبا وآسيا والمكسيك، وهي مطبوعة إلى حد كبير بطابع شبابي وبربط المسائل الديمقراطية بالمسائل الاجتماعية. وتنبع موجات الثورات في المنطقة العربية والمغاربية والشرق الأوسط، من مسائل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وإن لحركة الساخطين واحتلوا في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا نفس الجذور. وشهدت السنوات الأخيرة تزايد عدد الحركات في أفريقيا جنوب الصحراء من أجل فرض استشارات ديمقراطية (نيجريا والسنيغال وبوركينافاسو...). وجرى في كوريا الجنوبية خلع الرئيسية بارك Park في شهر آذار/مارس عام 2017 نتيجة تعبئة ديمقراطية مديدة ضد الفساد. وقد كانت مسائل الديكتاتوريين والرؤساء مدى الحياة، وتأجيل الانتخابات والأنظمة الفاسدة، محركات قوية للتعبئات في السنوات الأخيرة.وقد اتخذت معارك الدفاع عن الحقوق الديمقراطية، وستتخذ مستقبلا، مكانة مركزية في الأجندة السياسية في البلدان التي تواجه تطورا استبداديا للأنظمة السياسية (البرازيل، أوربا الشرقية، الفلبين...).

6/ مكانة الشباب العاطلين في التشكيلات الاجتماعية

يشكل الشباب، وخاصة الشباب المتمدرس، في أفريقيا وكذا في أمريكا اللاتينية، فئة اجتماعية معرضة للبطالة والأزمة. وتتناغم انتفاضات الشباب في البرازيل ضد أسعار النقل وإضرابات الطلاب في الشيلي وكبيك، مع قوة التعبئات الاجتماعية في تونس ومصر. وكانت مسألة ظروف المعيشة ومستقبل الشباب، بالعديد من التعبئات الديمقراطية والمحاربة للفساد التي جرت في كثير من بلدان غرب أفريقيا، حاضرة للغاية.

خلق ارتفاع مستوى التعليم انتظار تحسن ظروف الحياة. ولم يؤد سوى إلى احتداد التمرد والمطالبة بمستقبل اجتماعي. ابرزت تلك الحركات مطالب بالديمقراطية السياسية، واتهاما للأنظمة السياسية التي تتحكم بها أوليغارشيات رأسمالية وريعية. هكذا كان الشباب في السنوات الأخيرة القوة المحركة للتعبئات الثورية واضطلع أيضا بدور رئيس في التطورات السياسية التقدمية سواء في انتخاب جيريمي كوربين على رأس حزب العمال في بريطانيا أو في تأسيس حزب بوديموس أو خلال حركة دعم بيرني ساندرز في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2016.

كانت قوة الشباب، في هذه التعبئات كلها، على قدر الهشاشة الهيكلية والبطالة اللتين يعاني منهما الشباب في مناطق عديدة بالعالم.

7/ حقوق النساء والتعبئات الجماهيرية ضد صنوف العنف والاغتصاب وقتل الإناث، ومن أجل الحق في الاجهاض 

بوجه عام، فيما يخص المسائل الأساسية للنضالات النسوية، كان الوضع في السنوات الأخيرة متناقضا، بالنظر إلى الحضور المتنامي دوما للنساء في عالم الشغل. وقد طورت حركة النساء بنيات متعددة وتعبئات بكل مناطق العالم، لكنها تصطدم بهجوم رجعي ببلدان عديدة، مرتبطة بصعود التيارات المحافظة الجديدة والأصولية. ويستهدف هذا الهجوم حقوق أساسية: الحق في الحياة، وفي الاستقلال المالي والاجتماعي إزاء الرجال (أباء، إخوة، أو أزواج)، واختيار اللباس والتحكم في الانجاب، وبخاصة الإفادة القانونية والمجانية والآمنة من الاجهاض.

وتمثل عامل آخر هام من عوامل التعبئات الاجتماعية في السنوات الأخيرة في الرد على صنوف العنف، وفي المقام الأول قتل الإناث في الهند وتركيا والأرجنتين والشيلي والأوروغواي والمكسيك. واحتلت تعبئات أخرى كثيرة المدن منذ التظاهرات الضخمة في الهند في كانون الأول/ ديسمبر عام 2012: تظاهرت في مدريد، 500000 امرأة يوم 7 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2015 ضد تكاثر صنوف العنف والاغتيالات؛ وفي الأرجنتين، نظمت مئات آلاف النساء تعبئات عام 2015 بعد عمليات قتل عديدة طبعت البلد؛ كما أدى تكاثر عمليات قتل النساء واختطافهن بمستوى غير مسبوق في المكسيك إلى تنظيم تعبئات قوية في البلد. وتعود هذه التعبئات أيضا إلى ارتفاع مستوى العنف ببلدان عديدة، عنف تتعرض له في المقام الأول النساء ويضغط كذلك على الواقع الاجتماعي: إن معظم بلدان أمريكا الوسطى، منها المكسيك والبرازيل، وتقريبا كل بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب أفريقيا، تشهد أعلى مستوى من عمليات القتل غير المرتبطة بالحروب.

ونجد في مركز المبتكرات ميلا إلى المساءلات وإلى الحوارات الخصبة مع ذوات اجتماعية لم تشعر حتئذ أنها جزء من حركة النساء ومن الحركة النسوانية، متحدات متحولات الجنس، والنساء الزنجيات، والسكان الأهليين والسحاقيات. وظهرت أشكال تعبئة جديدة لجأت في بعض البلدان إلى تحركات من قبيل الإضراب، في نقاش مع الحركة النقابية، مثل تعبئة 8 مارس 2017 المعروفة بإضراب النساء العالمي. ويلاحظ ازدهار مهم للتعبئة، ما يتيح التفاؤل بصعود للحركة النسوانية وتنوع تحالفاتها.

أدى انتخاب دونالد ترامب إلى موجة عالمية من الاحتجاجات يوم 21 كانون الثاني/ يناير عام 2017 بمبادرة من الحركة النسائية، ليس في مدن عديدة بالولايات المتحدة الأمريكية وحسب، ولكن أيضا في مدن كثيرة في العالم، واضعة بهذا النحو الحركة النسوانية في طليعة النضالات السياسية ضد الرجعيين.

وتسعى جميع مختلف الحكومات الرجعية التي وصلت إلى السلطة على ظهر موجة الهجمات الليبرالية إلى ضرب الحق في الإجهاض الذي انتزع بنضالات العقود السابقة. وجدت هذه التدابير الرامية إلى ضرب هذا الحق بوجهها تعبئات جماهيرية دفاعا عن هذا الحق ومن أجل توسيعه، خاصة في الدولة الاسبانية عام 2014 وفي بولونيا عام 2016.

وتتعزز طاقة نمو هذه الحركة الجديدة بطابعها العالمي. وتوحي بلدان مثل إيطاليا والارجنتين بمستويات مختلفة بإمكان تشكيل البنيات الناشئة التي تربط في الآن ذاته  النضالات والتكتيكات والاستراتيجيات. ولا يضاهى ما قامت به من دور التكنولوجيات الجديدة، بخاصة الشبكات الاجتماعية، كمنصة للنشر والتواصل.

 

8/ نضالات مثليي/ات ومزدوجي ومتحولي/ات الجنس - + LGBT

في بلدان عديدة (ما خلا العالم الإسلامي ومعظم بلدان أفريقيا جنوب الصحراء)، أدت قوة منظمة مثليي/ات ومزدوجي/ات ومتحولي/ات الجنسLGBT، إلى إمكان عدم تجريم العلاقات الجنسية المثلية وإلى منح حقوق محدودة للأشخاص المتحولين/ات جنسيا. في هذه السيرورة، بات زواج المثليين قانونيا في عدد كبير من البلدان، وليس في البلدان الغنية وحسب، بل أيضا في جنوب أفريقيا وفي عدد مطرد من بلدان أمريكا اللاتينية، وبموافقة المجتمع معظم الأحيان. ويجب خوض معارك أخرى خاصة لكسب حقوق كاملة وغير مقيدة للمتحولين/ات جنسيا والآباء والأمهات مثليي/ات ومزدوجي/ات ومتحولي/ات الجنس. وتترتب عن مسألة صنوف العنف ومسألة الحملات المعادية للمثلية آثارا عميقة. إن الدور الحاسم للتيارات الدينية الرجعية ضد حركة مثليي/ات ومزدوجي/ات ومتحولي/ات الجنس واضح في كل مكان، سواء كانت هذه التيارات مسيحية-كاثوليكية أو بروتستانتية-، أو هندوسية أو مسلمة، تماما كعنف وتعصب مجموعات اليمين المتطرف المستقلة عن كل دين. وفي البلدان البازغة، غالبا ما يجري تلبيس صنوف العنف ضد مثليي/ات ومزدوجي/ات ومتحولي/ات الجنس خطابا ضد نماذج الثقافة الأوروبية/ الأمريكية. وبالمقابل، تطور في السنوات الأخيرة تيار مثلي- وطني [4]، يبرر السياسية الإمبريالية، بخاصة الأمريكية، ضد البلدان العربية، معتبرا إياها قادرة على تعزيز حقوق مثليي/ات ومزدوجي/ات ومتحولي/ات الجنس. ويطرح هذا بالأحرى الحاجة التلاقي وضرورة ربط الصلات بين جميع النضالات ضد صنوف الاضطهاد.

9/ منظمات مناهضة العنصرية والدفاع عن المهاجرين/ ات

إن التنظيم المستقل لحركة حياة السود مهمة Black Lives Matter، المركزة على مسألة عنصرية الشرطة، والكاشفة أيضا المسألة الأوسع المتمثلة في عنصرية الدولة، هي أهم تطور شهدته الولايات المتحدة الأمريكية منذ أفول حركة الحقوق المدنية.  كما ألهمت هذه المعارك نضالات خاضها الشباب السود ببلدان عديدة مثل البرازيل وأفريقيا الجنوبية. وشمل ذلك في حالات كثيرة ردود الفعل على الحرب على المخدرات التي تخوضها الدولة وتستعملها ذريعة لاغتيال العديد من الشباب في بلدان عيدية مثل البرازيل والفلبين والولايات المتحدة والمكسيك وكولومبيا... وفي أوروبا، بينما أصبحت العواقب المميتة للحدود ولسياسات الهجرة أوضح، شهدنا تطور حركات التضامن الفعلي، فضلا عن مطالب سياسية، خاصة في اليونان لكن أيضا في إيطاليا وألمانيا وبريطانيا وكاتالونيا. وفي سياق محاربة الإرهاب، أثارت سياسات التقشف خطابا عنصريا، يمثل إرث ماض استعماري ويعيد هيكلة أشكال الميز ضد الفئات الشعبية التي تعاني من العنصرية، وتشكل أولى ضحايا البطالة والهشاشة، خاصة في أوروبا وشمال أمريكا.

10/ الصعود القوي للحركات المناضلة ضد الاحتباس الحراري

ويمكن، بل وينبغي، أن يقوم تنامي الحركة المناضلة ضد التغيرات المناخية في السنوات القادمة بدور رئيس في اتهام إجمالي النظام. تؤدي هذه التغيرات إلى تدهور ظروف معيشة مئات ملايين النساء والرجال في السنوات القادمة. وغالبا ما تكون الشعوب الأهلية والسكان الذي يعيشون في أسوأ هشاشة أول المتضررين، كما يتأثرون من سياسات تخريب الغابات ومن المشاريع الرأسمالية الكبيرة المدمرة لمناطق عيشهم. وفي العديد من المناطق المعنية، ينظم السكان أنفسهم ويسعون إلى تشكيل شبكات دامجة للمنظمات الاجتماعية الأخرى.

هكذا يتضح أن مسائل البطالة وظروف العمل تتشابك في مناطق عديدة مع مسائل اجتماعية أخرى عديدة بالغة الأهمية تشابكا حتى بنظر السكان المعنيين.

III/ مسائل التغيرات المناخية والنضالات والإستراتيجية المعادية للرأسمالية

تتثمل المسألة الأساسية طبعا في مسألة آفاق التحرر القادرة على تنظيم هذه الحركات الاجتماعية والسياسية. دلت تجارب بيا كامبيسينا، وقطاعات نقابية مهنية عديدة، وائتلاف المناخ، خاصة ضمن الشباب، أن خوض أفعال مباشرة على الساحة الدولية تتهم المجتمع الرأسمالي مسعى طبيعي. لكن بنيات عديدة ناتجة من تصاعد موجة حركة العولمة البديلة (المنتدى الاجتماعي العالمي والمسيرة العالمية للنساء وحركة أطاك...) شهدت كبحا لتطورها وتأزمت في هذه المواجهة. أما حركة فيا كامبيسينا واللجنة من أجل إلغاء ديون العالم الثالث فقد تمكنتا من تثبيت تطورهما مع المكانة الرئيسية التي اتخذتها من جهة نضالات مقاومة الفلاحين والديون وإجراء الافتحاص المواطن من جهة أخرى. إن الوضع صعب على ساحة الحركة النقابية التقليدية التي ترزح بشدة تحت نير سياسات الإجماع أو التوافق الوطني مع سياسات التقشف. وحتى موجة النقابات البديلة في أوروبا الشرقية تعثرت أيضا في السنوات الأخيرة. وعلى النحو ذاته، شهدت كل تجارب التجميع الواسع المناهض للرأسمالية في أعقاب المنتديات الاجتماعية توقفات، مرتبطة أيضا بأزمة المنظمات الأوروبية التي كانت طرفا فيها (حزب العمال الاشتراكي SWP والحزب الاشتراكي الاسكتلندي SSP والعصبة الشيوعية الثورية/ حزب مناهضة للرأسمالية الجديد LCR/NPA...).

تواجهنا تحديات جديدة في بناء حركة ثورية عالمية، حركة معادية للرأسمالية مرتكزة على الدفاع عن الحقوق والعدالة الاجتماعية.

من الواضح في المقام الأول أن هناك معركة نظام جديد في مناطق كثيرة من العالم.

وكما حللنا أعلاه، تخلق الهجمات الاجتماعية وسياسات التقشف وتحطيم بنيات التوافق الاجتماعي السابقة سخطا اجتماعيا قويا مطردا. ويتحول هذا السخط ضد المؤسسات الوطنية والعالمية، وضد القادة والأحزاب المشرفين على هذه الهجمات والذين غالبا ما شكلوا الركائز التقليدية للأنظمة السياسية. يطرح هذا الانهاك وهذا الاتكال مسألة إستراتيجية على صعيد العالم: إنها تلقي على الثوريين، وعلى تيارات الحركات الاجتماعية المناضلة ضد هذه السياسات الرجعية، مسؤولية مد النزوع إلى رفض النظام بأفق تقدمي وثوري. إننا نعاين جيل شباب بكامله ناضل بصدد مسائل المناخ، وحركة النساء، الخ. سيطور هذا منظماتنا الخاصة، وكذا المنظمات النقابية والطلابية، مشجعا توازنا أفضل في مكانة كل من الرجال  النساء، ومساعدا على الأخذ بالحسبان مختلف المسائل السياسية في هذه الحركات (ظهور منظمات نساء شابات بالجامعة في أوربا، قد تكون نقطة ارتكاز لشبكة عالمية للحركات الطلابية).

وبحد ذاتها، لا تفضي النضالات من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية تلقائيا إلى نضال من أجل إطاحة أنظمة الاضطهاد. وقد أبانت السنوات الأخيرة مسألة سياسية واضحة. فقد سلكت القوى الرجعية، بوجه إطاحة حكام طغاة في تونس ومنطقة الشرق الأوسط، أو بوجه الأنظمة التقدمية في أمريكا الوسطى أو الانفجارات الاجتماعية المضادة للتقشف، نهجا هجوميا، خاصة بتوطيد الأنظمة المستبدة القادرة على مجابهة حركات التحرر. يتطلب ذلك اعتماد استراتيجية لتنظيم التعبة الشعبية ومواجهة الهجمات الرجعية المضادة.

بالإضافة إلى ذلك، ببرز وسط الفئات الشعبية صراع تأثير بين تيارات ديمقراطية أو طبقية أو اشتراكية بوضوح وتيارات رجعية أو دينية أو يمينية متطرفة ذات نزوع فاشي. كان دوما تأثير الدين قويا للغاية وسط الفئات الشعبية، وغالبا ما تتهيكل جماعات قروية أو حضرية وتدمج تلك المراجع الدينية رافعة مطالب العدالة الاجتماعية ضد الأغنياء والمالكين. في هذه الحالة، جلي أن تعايش منظمات اشتراكية ثورية مع منظمات لها هذه المراجع ممكن. لكن المشكلة التي اعترضتنا في مناطق متعددة هي مشكلة التيارات الدينية الرجعية وتيارات اليمين المتطرف. وتستعمل هذه التيارات، في أوروبا الشرقية والولايات المتحدة الأمريكية، في الأوساط الشعبية الآليات المعتادة في مرحلة الأزمة للانحراف عن النضال المناهض للرأسمالية (الخوف من المهاجرين والأجانب، الحنين الوطني...) والتي ينضاف إليها، في أوروبا خاصة، تفشي كره الإسلام. في مناطق أخرى ذات تقاليد إسلامية، بسطت  بعض المنظمات هيمنة على قسم من الفئات الشعبية لحرف التطلعات القائمة على العدالة الاجتماعية أو النضال ضد البلدان الإمبريالية نحو إضفاء طابع أسطوري على عصور الإسلام القديمة.  تعتمد جميع هذه الإيديولوجيات على السخط الشعبي الناتج عن الأزمة و/أو زوال أنظمة الحماية الاجتماعية والخدمات الاجتماعية وتصاعد الهشاشة، وتحول مجرى نضال مناهض للرأسمالية نحو العودة إلى نظام ديني أو هوية أو أمة وهْميتين مع كل الحمولة الرجعية الجاهزة المبررة للخضوع للنظام والعائلة الأبوية ولكره المثلية ولكره النساء. وغالبا ما تصبح مسائل الهوية بناء على ذلك إطارا مُهَيكِلا، سواء في الحواضر الإمبريالية وفي البلدان التابعة، قادرا على أن يمد بمنطق انطواء على الهويات الطائفية لا نهائي.

لكن هذه المنافسة تفرض على المنظمات المناهضة للرأسمالية، في الحركة الاجتماعية كما في الحركة السياسية، أن تكون قادرة على إحياء منظور عدالة اجتماعية في مجتمع متحرر من الرأسمالية والاستغلال.

وعلى مستوى آخر، علينا مواجهة تحد آخر، قوامه أن نبني في الآن ذاته منظمات جماهيرية في الحركة الاجتماعية لصد جميع هجمات النظام وتعدياته، ولكن أن نبني أيضا جميع العلاقات التي تمكن من جعل كل جبهات المقاومة مشتركة. إن مخاطر الانكفاء الهوياتي، وضعف الاجابات السياسية حول التغيير الاجتماعي التي بوسعها أن تشكل مرجعا مشتركا، لتفرض أكثر من أي وقت مضى التلاقي، والعمل على تضافر الحركات ضد صنوف الاضطهاد، مثل دينامية حركة حياة السود مهمة Black Lives Matter في الولايات المتحدة الأمريكية.

على الصعيد السياسي، تكمن المسألة كلها في القدرة على بناء استراتيجيات سياسية، تكون، بعيدا عن كل اقتصار على منظورات مؤسسية، قادرة على منح التنظيم الذاتي للحركات الاجتماعية كامل مكانته، وتكرس نفسها لتلبية المطالب الشعبية وتضع تجارب التدبير المؤسساتي في خدمة هذه الحركة الاجتماعية، وتهاجم في الآن ذاته بشكل مباشر سلطة الرأسماليين الاقتصادية.  وقلما كانت التجارب الأخيرة ايجابية بهذا الصدد.

وحدها أمريكا اللاتينية شهدت في العقد الأول من هذا القرن قيام حكومات تشكل امتدادا لهذه الحركات الاجتماعية، لكن دون أن يغير ذلك الظروف المعيشية للسكان إلى مستوى يتيح منح دفعة جديدة لآفاق التحرر الاجتماعي. ويؤدي تطور حكومات الإكوادور وبوليفيا وفنزويلا اليوم إلى تغير الدورة وضرورة القطع مع منظورات مستندة بوجه خاص على سياسات استخراج المواد الأولية. وتغدو الحركات النقابية والاجتماعية في وضع مقاومة ضد سياسات لم تف بوعودها.

وعلى نحو آخر في المنطقة المغاربية وفي مصر، كانت الحركات الاجتماعية، المرتكزة على تعبئة الشباب والقوى النقابية، قد أتاحت إطاحة الأنظمة الديكتاتورية. وتجد نفسها أيضا مدفوعة إلى موقع مقاومة. لكن يمكن معاينة بروز عناصر دينامية إقليمية بين الحركات في بلدان المنطقة المغاربية وبلدان أفريقيا جنوب الصحراء.

وفي اليونان، تضع خيانة حكومة تسيبراس، المنتخبة على أساس رفض التقشف، على الحركة الاجتماعية مسؤولية إعادة بناء بديل سياسي مع تيارات اليسار الجذري. وفي الدولة الاسبانية، يضع حزب بوديموس، المتحدر مباشرة من التعبئات الاجتماعية للساخطين، الحركة الاجتماعية في وضع مشابه. إن النقاشات الإستراتيجية الدائرة وسط بوديموس بحفز من تيار مناهضي الرأسمالية، من أجل برنامج مباشر لمواجهة سياسات التقشف، نقاشات تتناغم مع مطالب الحركات الاجتماعية.

وختاما، تواجه الحركات الاجتماعية، في مختلف المناطق التي شهدت تغيرات سياسية ناجمة عن تعبئات اجتماعية، وضعا دفاعيا في سياق تطور نضالات مقاومة قوية تبعث على الأمل.

المسألة الرئيسية خلال السنوات القادمة لن تكون مسألة مستويات التنظيم القادرة على مواجهة الهجمات وحسب، بل أيضا مسألة المقدرة السياسية على بناء حركة تحرر سياسية  قادرة على مواجهة  الرأسمالية على نحو مباشر، وذلك بارتباط مع التعبئات الاجتماعية.

 

إحالات

[1] يشير رمز + إلى عدد لا يحصى من الأقليات والمجموعات الجنسية التي من شأنها أن تجعل اسم المختصر LGBT طويلا. [المعرب]

 

Same author